عكس كل التوقعات التي سبقت جولة المفاوضات الأخيرة بين مجموعة 5+1 وطهران حول الملف النووي الإيراني التي انعقدت قبل أيام في كازاخستان، جاءت النتائج إيجابية
محمود عبد الرحيم
عكس كل التوقعات التي سبقت جولة المفاوضات الأخيرة بين مجموعة 5+1 وطهران حول الملف النووي الإيراني التي انعقدت قبل أيام في كازاخستان، جاءت النتائج إيجابية، وبدا أن ثمة تفاؤلاً غير مسبوق خيم على تلك العلاقات المتأزمة منذ سنوات، وأنه بالإمكان ربما التوصل إلى اتفاق يخفف من حدة الصراع بين الغرب وإيران الذي واجهته الملف النووي الإيراني، إن لم ينه هذا الصداع المزمن إقليمياً ودولياً، ولعبة شد الحبل التي لا تتوقف، وذلك بالاتفاق على جولة تفاوض أخرى في إبريل/ نيسان المقبل بكازاخستان، يسبقها لقاء خبراء في مدينة اسطنبول التركية في النصف الثاني من مارس/ آذار الجاري، وعرض التوقف عن إنتاج الوقود المخصب المثير للشكوك مقابل تخفيف العقوبات المفروضة على إيران، التي جرى فرضها بمقتضى أربعة قرارات من مجلس الأمن، علاوة على عقوبات إضافية فرضها كل من الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأمريكية، لمحاصرة إيران اقتصادياً، وتضييق الخناق عليها، لإجبارها على تقديم تنازلات على صعيد ملفها النووي .
لأول مرة نسمع بعد مفاوضات إيرانية دولية الحديث عن إشارات إيجابية وكسر للجمود في الموقف المتأزم، واعتبار مفاوضات ألماتي مفيدة، وعلامة فارقة في هذا الملف الشائك، وأن ثمة اقتراباً في وجهات النظر، بل وإبداء الجانب الإيراني استعداده لمناقشة الشق الذي يقلق الغرب والمتمثل في الوقود عالي التخصيب، كخطوة على طريق بناء الثقة، وإن تحفظت على إغلاق محطة فوردو للتخصيب، باعتبار أن الأمر لا يستأهل الانزعاج، طالما بقيت تحت رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومن ثم لا مبرر لإغلاقها، بحسب تصريحات منسوبة لكبير المفاوضين الإيرانيين سعيد جليلي، رغم أنه في بداية جلسات المفاوضات تسربت معلومات عن صعوبات وعدم القدرة على التوصل لتفاهمات، الأمر الذي كان ينذر بالفشل .
وكان من اللافت تصريح وزير الخارجية الإيراني علي أكبر صالحي في اليوم التالي لختام المفاوضات، الذي يحمل نبرة تفاؤل شديدة إزاء نتائج المفاوضات المقبلة مع القوى العظمى حول برنامج إيران النووي بعد الاجتماع الذي عقده الطرفان في كازاخستان، وحديثه أن النتيجة في نهاية المطاف ستكون في مصلحة الجانبين، خاصة أن الأمور وصلت إلى منعطف يستوجب التوصل لتسوية .
وكانت هذه الجولة تحديداً من التفاوض في العاصمة الكازاخية ألماتي محاصرة بالتشاؤم وإمكانية الفشل الكبير، وكان من المتوقع أن تمارس الدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن إضافة إلى ألمانيا، ضغوطاً شديدة الوطأة يقابلها عناد إيراني، يقود لإفشال المفاوضات، خاصة بعد التحذيرات الأمريكية والأوروبية، والتصريحات العنيفة التي صدرت من الأمين العام للأمم المتحدة، التي قابلتها ردود فعل غاضبة ليس فقط من المندوب الإيراني لدى المنظمة الدولية، وإنما أيضاً من رأس النظام الإيراني ذاته علي خامنئي، وذلك وسط حالة من الريبة من قبل المجتمع الدولي تجاه المشروع النووي الإيراني، وأنه يتجه إلى أنشطة عسكرية، وليست مدنية كما تؤكد واشنطن دائماً، مع حديث الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن تركيب أجهزة طرد مركزي أكثر تطوراً في أحد المواقع، وشكها في قيام السلطات الإيرانية بتفجيرات تجريبية في قاعدة عسكرية قرب طهران، مرتبطة بالسلاح النووي، فضلاً عن أجواء ما بعد تجربة التفجيرات النووية الكورية الشمالية، وتسريب معلومات عن حضور خبراء إيرانيين لهذه التجربة، ومشاركتها في الدعم المالي لها، والخشية أن تحذو طهران حذو بيونج يانغ، علاوة على إنتاجها وقوداً مخصباً بنسبة 20%، وهي خطوة قريبة نسبياً كما يقدر الخبراء من إنتاج المستوى اللازم للسلاح النووي .
وربما تغيير المناخ من “السلبي” إلى “الإيجابي” بين الدول الخمس الكبرى وألمانيا من ناحية، وإيران من ناحية أخرى وبهذا الشكل الدراماتيكي، يمكن إرجاعه إلى أكثر من سبب أوله درس كوريا الشمالية، حيث لم تقد الضغوط شديدة الوطأة إلا إلى مزيد من التحدي وأخذ الأمر على محمل الكرامة الوطنية، ومن ثم تمرير مشروعها النووي العسكري بفرض أمر واقع بالقوة، والضرب بعرض الحائط بكل التحذيرات والضغوط من الحلفاء والأعداء .
ومن ثم وجب البحث عن آلية أخرى لتحقيق الهدف من قبيل سياسة الاحتواء وتجريب “الجزرة” بدلاً من “العصا” المشهرة طوال الوقت في وجه إيران، في ظل وجود قيادة دبلوماسية جديدة في واشنطن، وترحيب طهران بالدعوة الأمريكية لحوار مباشر، فهذا النهج قد يفلح في توجيه الملف النووي الإيراني إلى المسار الذي ترغبه الدول الكبرى، وإبعادها عن مغامرة السلاح النووي، خاصة أن آلية العقوبات لم تأت بثمارها حتى الآن، رغم تشديدها المتواصل أمريكياً وأوروبياً لما يزيد على عشر سنوات، وما زالت إيران تسير في طريقها غير عابئة، وتحرز نجاحات وتقدماً ملموساً في مشروعها النووي بشكل ذاتي بعد توقف المساعدة الروسية، وقد ألمحت طهران على لسان الأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني وكبير المفاوضين الإيرانيين سعيد جليلي إلى هذا المعنى بالقول “إن الضغط لن يفضي إلى أي نتيجة، لكن عبر الحوار يمكن التوصل إلى نتائج وإيران مستعدة لإبداء خطوات للتعاون”، فيما سعى الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد إلى إرسال رسالة للقوى الكبرى مفادها أنه “من الأفضل أن نتفاوض بدلاً من أن نتنازع”، في سياق تعليقه على نتائج مفاوضات ألماتي .
ويبدو أن الخط الذي كان يدفع إليه الكيان الصهيوني، والتحريض على توجيه ضربة عسكرية لإيران واستهداف منشآتها النووية، لم يعد يحظى بالقبول الواسع، حتى من جانب واشنطن، للدرجة التي دفعت وزير خارجية الكيان السابق أفيغدور ليبرمان إلى شن هجوم على الغرب، واتهامه بأنه يتراجع عن مواقفه السابقة حيال البرنامج النووي الإيراني، رغم أن إيران لن توقف جهودها من أجل صنع قنبلة نووية، وأنها تحاول فحسب من وراء التفاوض كسب الوقت، فيما دعا رئيس وزراء الكيان نتنياهو إلى فرض عقوبات عسكرية وليس الاكتفاء بعقوبات اقتصادية .
وهذه التصريحات تعكس مدى الإحباط داخل الكيان الصهيوني من هذه الانفراجة بين الغرب وإيران، لأن التصور “الإسرائيلي” كان ينهض على فكرة شن هجوم استباقي على إيران بموافقة، وربما بمشاركة واشنطن، لكن كل التقديرات تؤشر إلى أن مثل هذا الأمر باتت كلفته باهظة، مع استعداد إيران لهذا السيناريو عسكرياً، وتهديداتها الجدية التي عبرت عنها في أكثر من مناورة في مياه الخليج، بتكبيد من يهاجمها خسائر فادحة، وامتلاكها حالياً ترسانة عسكرية قوية ومتطورة، خاصة في مجال الصواريخ الباليستية والبحرية والغواصات، علاوة على وجود أكثر من مفاعل نووي بعضها كما تشير تقارير إعلامية محاط بالسرية وبإجراءات تأمين عالية، وثمة استعداد عالي المستوى لكل الاحتمالات، وليس الحال بذات السهولة التي كان عليها في الثمانينات من القرن الماضي عند ضرب المفاعل النووي العراقي “إسرائيلياً” .
والسبب الآخر الذي يمكن تلمسه في الإشارات الإيجابية في مفاوضات ألماتي، ربما يكمن في الرغبة في استقطاب الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة لطهران للمساعدة في تسوية الأزمة السورية، خاصة أنها الداعم الأكبر للنظام السوري إلى جانب روسيا التي تكثف حالياً واشنطن الاتصال معها من أجل التوصل لصيغة تحقق مصالح الطرفين، ولن تمر أي تسوية من دون رغبة إيران كذلك، وربما يكون الاعتراف بمشروع إيران النووي أحد الحوافز للتخلي عن دعمها لنظام الأسد ولو جزئياً أو إقناعه بصيغة نقل السلطة والخروج من المشهد بشكل آمن وهادئ، وتعويض طهران عن خسارتها الاستراتيجية في أكبر مناطق نفوذها في المنطقة العربية، إضافة إلى أن اشتباك إيران في أكثر من ملف إقليمي يسبب إزعاجاً للغرب، والتصعيد ضدها سيكون له ثمنه غير القليل، خاصة ما يتعلق بقرب انسحاب القوات الأمريكية وقوات عدد من الدول الأوروبية من أفغانستان، والرغبة في تهدئة تسمح بخروج آمن، وعدم إشعال الموقف على هذه الجبهة التي ثمة نفوذ إيراني بها، خاصة أن ثمة تعاوناً سابقاً بين طهران والغرب وعلى رأسه واشنطن في بداية الحرب على أفغانستان، سهّل الكثير من الأمور، وكذلك التعاون المماثل في الملف العراقي .
وإن كان ثمة تفاؤل إيراني مفرط إزاء مستقبل ملف إيران النووي وصراعها الممتد مع القوى الكبرى، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية ربما بحكم أوراق الضغط التي تمتلكها إقليمياً، لكن الأمر ليس بهذه السهولة، ومن ثم يجب الانتظار لتقييم الموقف في ضوء نتائج اجتماع الخبراء القادم في اسطنبول، وما إذا كان سيقود إلى انعقاد جولة أخرى من المفاوضات في كازاخستان في إبريل، أم سيتم التأجيل؟ وحتى لو جرى عقدها . . هل ستكون حاسمة، أم سيحتاج الأمر إلى مزيد من الجولات، وربما تظهر مفاجآت من جديد تعيدنا للمربع الأول من مناخ عدم الثقة والاتهامات المتبادلة؟ خاصة أن تصريحات كل من وزير الخارجية الأمريكي ومسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي كاترين أشتون، تتحدث بنبرة حذرة لجهة أن ما جرى في ألماتي فرصة معطاة للجانب الإيراني لاختبار حسن النوايا والثقة وخطوة على طريق الحل الشامل للأزمة المستعصية، وأن ثمة انتظاراً لتجاوب إيراني مع العرض المطروح بشأن تخفيف العقوبات مقابل وقف أنشطة تخصيب الوقود عالي التخصيب وإغلاق إحدى محطات التخصيب التي تثور حولها الشكوك، وهو الأمر الذي لا تزال إيران ترفضه، أي أن القوى الكبرى ألقت الكرة هذه المرة في الملعب الإيراني بهذه المهلة وهذا التفاهم المشروط .
المصدر: دار الخليج
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه