29-11-2024 04:48 AM بتوقيت القدس المحتلة

التيارات الحامية بين لبنان وبلدان النفط تفيد الطرفين

التيارات الحامية بين لبنان وبلدان النفط تفيد الطرفين

لطالما شكّلت البلدان النفطية الإغراء الشرير للقوى العاملة اللبنانيّة. اليوم تزداد التكهّنات بإمكان استخدام هذا الإغراء سلاحاً. ما صحّة هذا الافتراض؟..

الخليجيون يملأون وط المدينةلا يزال صدى صراخ زكريا في وجه ثريّا، يتردّد حتّى اليوم. الخليج مثّل له كابوساً بحجم ذلك الذي يعيشه في لبنان. فعلياً، لطالما شكّلت البلدان النفطية الإغراء الشرير للقوى العاملة اللبنانيّة. اليوم تزداد التكهّنات بإمكان استخدام هذا الإغراء سلاحاً. ما صحّة هذا الافتراض؟..


حسن شقراني
بغصّة تحبس دمعة الغضب والاستياء في آن واحد، يجزم زكريا (زياد الرحباني) بأنّه لن يذهب للاستقرار في الخليج تاركاً عائلته في بلد «ليس فيه موادّ أولية». اختصرت لحظة الخيار تلك خيارات مصيرية لاحقة اضطرّ خلالها مئات آلاف اللبنانيين إمّا للركون إلى واقع الحال أو محاولة المقاومة. الديناميات التي حكمت لحظة زكريّا المشؤومة في مسرحية «بالنسبة لبكرا شو» (1978) لا تزال قائمة حتّى اليوم، ليس فقط في العلاقة مع الخليج، بل مع مختلف دول العالم من الصين إلى أميركا الشمالية، مروراً بأفريقيا.


 فحجم الاقتصاد الخليجي النفطي (بلدان مجلس التعاون الستّة) يفوق 1.5 تريليون دولار، أي 34 ضعف حجم الاقتصاد اللبناني. في المقابل، يبلغ عدد السكان في تلك المجموعة 45 مليون نسمة، أي 11 ضعف العدد في لبنان. لذا، هناك وفورات هائلة في معدّل السكان/ الناتج، يملأه اللبنانيون في الواحة النفطيّة. لا يُمكن تبرير هذا الوضع بأنّه نعمة خليجية على لبنان بالمعنى المجرّد؛ فبلدان الخليج بقطاعاتها المختلفة تحتاج إلى الخبرة، الحنكة والمستوى التعليمي من عيار متخرجي الجامعات اللبنانية، وهو ما تؤكّده منظّمة العمل الدولية في أكثر من مجال.


 ولا شكّ في أنّ تيار الأشخاص والأموال حامٍ جداً بين الأرز والنفط. ذلك التيار مكوّن من الأشخاص، المال الاستثماري والسياسي والسياحي، الودائع وصولاً إلى عمل اللبنانيين في بلدان الخليج. ولكن دور المملكة السعودية وأشقائها الخليجيين قد يكون مبالغاً فيه قليلاً لدى الحديث عن مصير لبنان من دون الخليج.


 بداية مع تحويلات المغتربين. يوضح بحث أجراه قسم الأبحاث في بنك «بيبلوس» بالاعتماد على بيانات البنك الدولي، أنّ تحويلات المغتربين من الخليج تمثّل نحو 58% من إجمالي التحويلات إلى لبنان. وبالتالي فإنّه وفقاً للأرقام الرسمية تكون تلك المنطقة أكبر مولّد للتحويلات مقارنة بباقي مناطق الانتشار اللبناني.
 ولكن هذا بالأرقام الرسميّة، فالدراسات التي تعالج طبيعة التحويلات إلى البلدان النامية تحديداً تُعطي حيزاً كبيراً للتحويلات غير الرسمية.


 وقد توصّلت دراسة أعدّها باحثان في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي (Freund & Spatafora, 2005) إلى أنّ تحويلات المغتربين المكتومة، أو غير الرسميّة، تمثّل إجمالاً بين 35% و75% من التحويلات الرسمية، «وقد يصل حجمها إلى 250% من التدفّقات المسجّلة رسمياً» في بعض البلدان.


 ونظراً إلى غياب البيانات الرسميّة الواضحة والشفافة، عمد البنك الدولي منذ 2009 إلى اعتماد التقديرات نفسها للتحويلات، وهو يضعها عند 7.55 مليارات دولار سنوياً. هذا يعني أنّ التحويلات غير الرسمية تراوح بين حدّ أدنى وحدّ أقصى معقولين يبلغان 2.64 مليار دولار و5.66 مليارات دولار سنوياً.


 يؤكّد المصرفيّون أنّ العديد من تلك الأموال مصدرها القارّة الأفريقية التي يُشغّل فيها اللبنانيون شركات ومصالح ضخمة. «بالتأكيد لبنان يتمتع ببيئة حاضنة لتحويلات كهذه، وليس بالضرورة أن تتمّ عبر شنط مشبوهة» يوضح أحدهم. «كلّ الأموال التي تتدفّق على البلاد خارج الجهاز المصرفي أو شركات الحوالات الإلكترونيّة (MOTs) لا تدخل في الحساب الإجمالي للتحويلات الماليّة».


 لندع الدراسة جانباً. يوضح التقرير الأشمل عن الهجرة والنزوح عالمياً، وهو تقرير التنمية البشرية الذي نشره برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي عام 2009، أنّ من بين 760 ألف مغترب لبناني (دون المهاجرين) ثلثهم مستقرّ في أميركا الشمالية يليهم الخمس في أوروبا والخمس أيضاً في آسيا. أما لناحية التحويلات، فيقول إنّ 37% منها تتولّد من أميركا الشمالية وأكثر من 33% من أوروبا، لتكون حصّة آسيا11% فقط.


 يبدو إذاً من الصعوبة بمكان تحديد من أين تأتي التحويلات، وبالتالي أهمية المناطق التي تتولّد منها، ولكن هناك مسألة مؤكّدة، هي أنّ إحداثيات الخليج في هذا المجال، على أهميتها، تبدو مضخّمة أكثر من اللزوم. ومن التحويلات إلى الودائع التي يُلوَّح بين الفينة والأخرى بأنّ خروج لبنان عن «النأي بالنفس» إقليمياً سيدفع الخليجيين إلى سحبها، توضح بيانات مصرف لبنان في نهاية كانون الثاني الماضي أنّ ودائع غير المقيمين بلغت 24.3 مليار دولار ممثّلة أقلّ من 20% من الودائع الإجمالية. لكن تلك الودائع ليست للخليجيين فقط؛ فهي تضمّ ودائع اللبنانيين في الخارج وحتّى الأجانب.


 إجمالاً هناك تركّز واضح. فبين 70% و80% من الودائع يحملها بين 20% و30% من المودعين؛ «لطالما كان الوضع هكذا» يقول كبير الاقتصاديين في بنك «بيبلوس» نسيب غبريل.  هذا التركّز يعكس وجود مودعين كبار بمعدّل وديعة يفوق 10 ملايين دولار؛ قسم منهم خليجيون لا شكّ. ولكن ما هي العوامل التي تدفع هؤلاء إلى سحب ودائعهم؟ يُمكن القول إنّ الأحداث الدراماتيكية فقط هي التي أدّت إلى لحظات هروب ودائع. ظهر ذلك في عام 2005 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، حين هربت من البلاد 5% من إجمالي الودائع. ثمّ بعد الحرب مع إسرائيل عام 2006، حيث كان سحب الودائع بنسبة 3%. أمّا خلال الاضطرابات السياسية بداية عام 2011، فالنسبة كانت دون 1%.


 «يُمكن القول إنّ الودائع ثابتة في لبنان تاريخياً، وقرار سحب الودائع لا يُتّخذ إلا بحصول صدمة قوية. برأيي صدمة كهذه لا يُمكن أن تكون إلا حرباً جديدة مع إسرائيل أو حرباً أهلية مستبعدة» يرى نسيب غبريل.  لذا، تبدو إغراءات الجهاز المصرفي اللبناني لناحية معدّلات الفوائد المرتفعة إضافة إلى خبرة الإدارة المصرفية اللبنانية في التعامل وإدارة الأموال، أكبر من أي حدث سياسي قد يكون موقفاً معيناً كالذي أدلى به وزير الخارجية عدنان منصور أخيراً حيال الأوضاع في سوريا ووضعية هذا البلد في الجامعة العربية.


ومن الودائع إلى السياحة، وهو القطاع الذي ظهرت منه الإشارة الأساسية عن الضغط السياسي الخليجي منذ عام 2011 تحديداً، بقرار البلدان النفطية المجاورة فرض نوع من الحظر على السفر إلى لبنان بداعي الأمن. في عام 2012 أدّى هذا القرار متزامناً مع أحداث أمنية مقلقة إلى تراجع عدد السياح العرب الإجماليين بنسبة 21.3% إلى 458 ألف سائح مثّلوا 33.5% من السياح الإجماليين. ولكن عدد السياح الإجمالي تراجع بنسبة أقلّ بلغت 17.5%، في إطار تعديل في مصادر السياحة إلى لبنان. تعديل يؤمّنه المغتربون وفئات عربية وأجنبية أخرى. فبعدما كان السعوديون في المرتبة الأولى عربياً، تراجعوا إلى المرتبة الثالثة بـ72 ألف سائح، وحلّ مكانهم العراقيون في المرتبة الأولى.