العرب في تيه. عدوى الاضطرابات وشبح الإسلاميين يخيّمان على بلدانهم. عجز أميركي ــ أوروبي ينعكس تخبطاً في تعامل الغرب مع ملفات المنطقة، حيث يبدو واضحا أن المعسكر المقابل، تتقدمه روسيا وإيران، رسم خطوطاً
حسن خليل - الاخبار
العرب في تيه. عدوى الاضطرابات وشبح الإسلاميين يخيّمان على بلدانهم. عجز أميركي ــ أوروبي ينعكس تخبطاً في تعامل الغرب مع ملفات المنطقة، حيث يبدو واضحا أن المعسكر المقابل، تتقدمه روسيا وإيران، رسم خطوطاً حمراً محورها الأساس رفض أي تغيير جذري لموازين القوى في المنطقة.
صدر سنة 2010، لكاتب مجهول (قد يكون خيالياً)، مقال حول الاستراتيجية السرية للولايات المتحدة، يتضمّن اعترافات لأحد «مسؤولي إدارة العالم» على فراش الموت، خلاصتها أنّ كل ما يحصل هو مخطط وينفّذ بناءً على أجندة مرسومة لإحكام السيطرة على المنطقة. هذه النظرية يتبنّاها عديدون غير مقتنعين بأن الرغبة الغربية في المنطقة ليست قدراً وأن ديناميكية الأحداث تفرض على جميع الأطراف مراجعة شبه يومية لاستراتيجياتها.
برز هذا أخيراً من خلال التناقض في الموقف الأميركي داخلياً، وبينه وبين الموقفين الفرنسي والبريطاني من جهة أخرى، والذي هو أيضاً متناقض مع وجهة نظر ألمانيا _ الدولة الرائدة أوروبيّاً. جون كيري يدعو إلى حوار سياسي بين الرئيس بشار الأسد والمعارضة، والناطقة باسم وزارته تقول إنه لم يعنه شخصياً. فريق أميركي يدعو إلى التسليح، وفريق إلى عدم التصعيد خوفاً من وصول الأسلحة إلى المتطرفين، فضلاً عن أن الأزمة المالية للموازنة الأميركية جعلت صيانة القواعد الأميركية ودفع الرواتب أولوية على أي شأن خارجي. إضافةً، بات واضحاً حسب رأي خبراء أميركيين أن القياديين في الولايات المتحدة متخبطون بين الإقرار بتراجع القدرات العسكرية للتحرك دولياً كالسابق، وبين العامل النفسي بتفوّق بلادهم.
أمّا في أوروبا، فيذكّر أحد أهمّ المخضرمين السياسيين في بريطانيا بأنها فعلاً القارة العجوز. رؤساء دولها الكبرى يُصرّحون وكأنهم قياديو الإمبراطوريات السابقة، وهم في الوقت نفسه عاجزون عن إرسال أكثر من بضع مئات أو آلاف من الجنود مع بعض القطع العسكرية المتواضعة إلى منطقة جغرافية معيّنة. أوروبا، يقول المخضرم، باتت مفلسة مالياً وعسكرياً، وبالتالي لا يمكن ترجمة هذا الإفلاس سياسياً إلا بفقدان الهيبة التاريخية (ما زال مفعولها سارياً جزئياً في العالم العربي). آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية تسير في استقلال متواصل زمنياً.
تقرير دبلوماسي تناولته إحدى وزارات الخارجية الأوروبية، يشير إلى أن العجز الأوروبي _ الأميركي هو الذي أدّى إلى التخبّط القائم في دول الحلفاء وغموض عدم اتخاذها خطوات إضافية في الساحة السورية على المستويين العسكري والسياسي. فقبل الأزمة السورية ونتيجة تنامي عجز الحليفين الرئيسيين، تنامى نفوذ الشرق الأقصى واللاتين. فـ«العبقرية الغربية» لم تتوقّع عودة «الدبّ الروسي والعصب الأرثوذكسي»، ولا لهيباً ساخناً للتنين الصيني وكل متفرّعاته الجيو _ سياسية. وهي طبعاً لم تتوقّع صمود وزخم الثورة الإيرانية التي فرضت نفسها، ورغم الحصار، قوّة عالمية قادرة في حال تهديدها أن تهدد السلام العالمي.
أكثر الباحثين والصحافيين القريبين من المعسكر الغربي يعترفون بالوقائع الجديدة. لكن الأهم، يتباحث هؤلاء والكثيرون من أقرانهم حول تأثير هذه الوقائع على الأزمة السورية والتي أصبحت من خلالها الأرض السورية ساحة الصراع الدولي بامتياز، وما سينتج في هذه الساحة سيرسم خريطة النفوذ العالمي، سلباً أو إيجاباً حسب الظرف.
بات العالم أمام مشهد معقّد جداً لا محلياً وإقليمياً فحسب، بل دولياً أيضاً. فالساحة السورية اليوم، حسب وصف خبراء عسكريين، أخطر ميدان حرب دولية غير معلنة منذ الحرب العالمية الثانية، وإن هذا العالم يشبه اليوم إلى حدّ كبير في واقعه ما مرّ عليه في فترة بين الحربين العالميتين، أو أجواء أزمة الصواريخ الكوبية في أوائل الستينيات.
يُجمع المراقبون على أن الاستراتيجية الغربية، أو الأميركية على الأقل، في حال صحّت الاتهامات، تحققت في منطقة الشرق الأوسط لحماية الهدفين الرئيسيين: النفط وإسرائيل. ولكن بعدما نُفّذت خطة الفوضى البنّاءة أو الخلّاقة بنجاح حتى الآن، يسأل أحد وزراء خارجية دول الخليج مرعوباً: مَن يضمن النتائج أو على الأقل يحتويها؟
مصر تمرّ بأخطر مراحلها في تاريخها الحديث والقديم. فهي لم تكن منقسمة كاليوم حتى في زمن الرسالة النبوية، ما دفع أحد المعلقين إلى القول إن الإخوان ارتكبوا خطأً استراتيجياً باستعجالهم في التسلّط بعدما انتظروا ثمانين عاماً، تماماً كما فعل الأتراك بتسرّعهم لإعادة حلم العثمانيين بدل التغلغل البطيء. لذلك هي عاجزة بين لملمة جراحها والانضمام إلى المعسكر المذهبي الجديد.
وهناك رأي يقول بأن تركيا وحليفتيها قطر والسعودية تريد الالتفاف على «التقاعس الأميركي» بالإغراء البريطاني _ الفرنسي لتسليح المعارضة السورية، وبالتالي قلب ميزان القوى ميدانياً للتخلص من بشار الأسد، والانتقام من حزب الله بعد انقلابه على اتفاق الدوحة. منها يطمح الحلفاء إلى اقتسام سوريا وضمّها إلى جيو _ سياستهم ومنها يتفرّغون للانقضاض على العراق «المسلوب» وتأديب حزب الله المتمرّد ومواجهة المدّ الفارسي. العارفون بالملف التركي يشيرون إلى أن أردوغان وأوغلو تائهان بين عدة مخاطر تقلقانهما نوماً وصحواً، منها واقع الإثنيات والأعراق وإمكانية تمدّد التفتّت إلى قلب المجتمع التركي، وهاجس الانفصال الكردي، وثمن التضحية بكل الاستقرار والنمو الاقتصادي. لذلك تعلو النبرة التركية يوماً وتنخفض أسابيع.
أما قطر والسعودية (مع تركيا)، ومع اختلافهما، وعقدة السعودية القطرية أو عقدة قطر السعودية، فتمارسان أخطر لعبة في تموضعهما. وهم بذلك مع حلفائهم، كما حلف الدول المناهضة لهم، جعلوا العالم، ولأول مرة في تاريخه، ضمن لعبة الأمم واغتنام الفرص وتثبيت المصالح، في حالة اصطفاف مذهبية، تمتد من بكين وموسكو، مروراً بشرق آسيا وإيران والعراق والشرق الأدنى، صعوداً إلى أوروبا وأميركا، لم يسبق لها مثيل.
فبحسب «المقال المجهول»، يعتقد الغرب أن العراق يجب أن يبقى ضعيفاً لأن شعبه والشعوب المجاورة ذات نزعة تمددية يجب أن لا تنافس الغرب الخارج منتصراً في الحرب العالمية الثانية. نوري المالكي يعرف بعض ذلك، لكنه يعرف أكثر النوايا التركية والخليجية تجاهه. لذلك يرى في الخاصرة الإيرانية ضمانته الأولى وعدم سقوط النظام السوري ضمانة رئيسية، مذكّراً العالم بأنه سينتج 9 ملايين برميل يومياً خلال السنوات المقبلة، وقد يصبح الدولة النفطية الأولى في العالم، حليفاً لجاره الإيراني الثاني عالمياً في الغاز والذي مع حليفه الروسي يسيطران على المخزون الاستراتيجي العالمي من الغاز.
لكن، بحسب المطلعين، فإن الغرب باستماعه للوصايا التركية _ القطرية _ السعودية حول «النموذج الإسلامي المعتدل الديموقراطي المدني العلماني» هو نظرية فقط وإن مصر ليست تركيا وإن تونس وليبيا ليستا ماليزيا وأندونيسيا.
كل مراكز الدراسات العالمية تشير إلى خطورة الواقع الإقليمي من مركزيته في سوريا، وأن الجميع بدون استثناء يشعرون بأنهم في واقع يهدد وجودهم. يذهب البعض إلى رسم خسارة النظام السوري للمعركة أنه سيدقّ أبواب طهران وأن يجعل الشيشان قلقاً حقيقياً لموسكو كما دول الاتحاد السوفياتي سابقاً. وأن الجمهوريات الإسلامية في روسيا والصين لن ترضى بعدها أن تبقى تحت الحكم «الكافر» من أرثوذكس وبوذيين.
المفارقة فعلاً في الصراع العالمي القائم هو تمذهب لعبة الأمم والمصالح. لم يكن أحد ليتصور أنه سيكون للأديان والمذاهب تأثير في صنع السياسات الدولية وبناء الأحلاف والخصومات، ضمن «لعبة المصالح». من الأفضل التذكير بحرب البوسنة _ الهرسك.
في استنتاج لكل الوقائع المذكورة، تطرح أسئلة عدة، أهمها عن الخيارات الإيرانية _ الروسية لمواجهة المعسكر الآخر في حال تأكد معلومات تسليح المعارضة نوعياً لتعديل الموازين ميدانياً من خلال القنوات الأردنية والتركية واللبنانية؟ ولماذا ترفض إيران حتى الآن المفاوضة مع الغرب والتنازل في جميع الملفات؟ ولماذا لم تقبل روسيا بكل الإغراءات الغربية والخليجية لتعديل موقفها في سوريا؟
يجيب أحد أصحاب الدائرة الضيقة في القرار الإيراني، أن الغرب وحلفاءه الأوروبيين والعرب هم أصلاً دولة واحدة فقط هي الولايات المتحدة. والأخيرة تعبت من تجربة الوحول الأفغانية والعراقية وتريد التراجع لمدة لالتقاط قدراتها للسنوات المقبلة. وهي لا ترى في كل حلفائها بدون استثناء إلا أصواتاً مدوّية بدون القدرة أو حتى الرغبة في التضحية. فقط الاستقواء والاختباء بالعم سام، في الوقت نفسه يضيف: إيران تعايشت مع أقسى الظروف ولن تتراجع أبداً لأن موقعها الإقليمي والدولي في ضوء تنامي قدراتها العسكرية والمادية، فضلاً عن موقعها الجيو _ سياسي. والنّفَس الإيراني طويل.
أمّا روسيا فهي لم تعد تناور في الإجهار بأن الغرب قد يكون نجح في تفكيك الاتحاد السوفياتي، لكنه لن يستطيع أن يواجه الحلف الصيني _ الروسي _ الإيراني _ العراقي _ السوري لخلق خريطة نفوذ عالمية جديدة تعيد التوازن لإدارة الكرة الأرضية، وخاصة أن بعض أهم الاقتصادات الناشئة كالهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وبعض دول أميركا اللاتينية تشاركها التذمّر من المكابرة الغربية في زمن تغيّرت فيه الموازين الإنتاجية لمصلحتهم.
هذه المعطيات وغيرها تشير إلى اللاتراجع في الموقف الإيراني _ الروسي وأنهما لن ترضيا بأن تتبدّل الموازين جذرياً في الساحة السورية مهما حصل، وهما ترسمان السيناريوات المختلفة لمواجهة التطورات الميدانية، والأهم أن روسيا لن تسمح لتركيا بأن تنمو مخالبها جنوباً، لأنها تعرف أن هذه المخالب ستتوجه لاحقاً صوب شرق آسيا والجمهوريات السوفياتية سابقاً. كما أن إيران لن تبقى مكتوفة الأيدي أمام سيطرة دولتين كالسعودية وقطر على محور صرفت الغالي والنفيس من شهداء ومال لتثبيته في انتظار «المواجهة الكبرى».
هل في هذا كله إجابة لماذا الفتنة السنية _ الشيعية وتهجير المسيحيين من الشرق؟ ولماذا تبقى خيارات شعوب المنطقة بين الظلم والظلام؟
الشبح الإسلاموي
لبنان متفتّت اجتماعياً وسياسياً لا قدرة له على إقرار موازنة أو قانون انتخاب، فضلاً عن انتشار الكانتونات المذهبية التي أعلن بعضها تمرّده على الدولة. وسوريا تُمزَّق إرباً بدون أي أفق لتسوية ما تخرج من قبّعة ساحر كأرنب. الأردن، كما الكويت والإمارات، تشترك في المعاناة من «الحليف المتسلّط» الذي يسخّر أجهزتها وقدراتها لدعم السلفيين والإسلاميين في مواجهة النظام السوري، في الوقت نفسه الذي تعيش فيه كل من هذه الدول رعب وصول عدوى حكم الإخوان إليها. لم يخرج الأردن من عقدة «الوطن البديل» بعد حتى بات شبح الإسلاميين طارئاً جديداً عليه.
حماس «الفَرِحَة» بالتقاطها فرصة صعود الإخوان، خرجت من سوريا الحاضنة وارتمت حيث لا تدري. تسأل يومياً هل مَن يشدّد الخناق عليّ في الأنفاق أكثر من زمن حسني مبارك ومن حمايته الغربية بامتياز، فليسلّحوني بعد ثبات الربيع العربي أو يفاوضوا لاستعادة كل التراب؟ يقول أحدهم إن الوجوم والعبوس يسيطران على وجوه قادتها. نظرة سريعة على واقع بعض باقي الدول العربية، تظهر كم هو مقسّم السودان، وتائه اليمن، وكم هو غائب المغرب الغربي. لا يريد جزائره ومغربه أن تتمدّد فوضى ليبيا وكارثة تونس إليه.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه