يمثل رحيل الزعيم الأبرز في أمريكا اللاتينية، وأحد قادة اليسار الجديد في العالم هوغو شافيز، خسارة كبيرة، بلا شك، ليس فقط للشعب الفنزويلي أو لشعوب قارته، وإنما للعرب أيضاً، الذين فقدوا مناصراً قويا
محمود عبد الرحيم
يمثل رحيل الزعيم الأبرز في أمريكا اللاتينية، وأحد قادة اليسار الجديد في العالم هوغو شافيز، خسارة كبيرة، بلا شك، ليس فقط للشعب الفنزويلي أو لشعوب قارته، وإنما للعرب أيضاً، الذين فقدوا مناصراً قوياً لقضاياهم، حيث كثيراً ما كان يتخذ مواقف متقدمة عن الحكام العرب، خاصة في اللحظات الحرجة، بوقوفه ضد الظلم والاستغلال اللذين يمثلان جوهر السياسات الإمبريالية التي تقوض العدالة، وتهدر القيم الإنسانية على المستوى العالمي، إضافة إلى تصديه لمعركة التحرر من التبعية والهيمنة الصهيوأمريكية، والانحياز للفقراء والمصلحة الوطنية مهما كانت الكلفة باهظة، مقتدياً بالزعيم المصري الراحل جمال عبدالناصر الذي كان لا يفتأ يعلن انتماءه إلى نهجه، واصفاً نفسه بأنه “ناصري” .
برزت علامات استفهام عديدة برحيل الزعيم الفنزويلي هوغو شافيز، سواء ما يتعلق بالصراع على السلطة، أو الميراث الذي تركه، وتركته الثقيلة، وهل يمكن لخليفته الإبقاء عليه، خاصة ما يتعلق بالسياسات الاقتصادية ذات الطابع الاشتراكي المنحازة لجموع الفقراء، ونهج استقلال القرار الوطني الذي دشنه شافيز؟ أو مواقفه المناوئة كذلك للكيان الصهيوني، ورفض الحروب العدوانية والمؤامرات الاستعمارية الجديدة على عديد من البلدان؟ علاوة على مساعي خلق “جبهة صمود وتصدٍ” في أمريكا اللاتينية تعمل على التكامل والتضامن، والاستفادة من عوائد ثروات بلادهم، خاصة الثروة النفطية، لمصلحة شعوبهم ورفاهة مجتمعاتهم، لجهة إنهاء التبعية الأمريكية، والوقوف ضد سياسات الهيمنة التي كانت قائمة، وحولت تلك الدول اللاتينية إلى مجرد حديقة خلفية لواشنطن على مدى سنوات طويلة، بمعدلات نمو هزيلة وإفقار ممنهج لشعوبها .
ربما يكون صراع السلطة قد تلاشى، ولو مؤقتاً بموافقة الجمعية الوطنية في فنزويلا “البرلمان” سريعاً على أن يتولى نائب الرئيس نيكولاس مادورو المسؤولية لحين إجراء انتخابات رئاسية خلال الثلاثين يوماً المقبلة بمقتضى الدستور الفنزويلي، وربما يكون مادورو هو الأوفر حظاً في خلافة شافيز بحكم أنه كان الأقرب إليه على مدى سنوات، حيث قاد عام ،1990 عند اعتقال شافيز لدى قيامه بمحاولة انقلاب، المظاهرات التي طالبت بالإفراج عنه، في حين عملت زوجته المحامية في فريق الدفاع عن شافيز، ونشأت علاقة وطيدة بين الرجلين بعد أن أطلق سراح شافيز وأصبح رئيساً للبلاد، حيث عين مادورو عام 2006 وزيراً للخارجية الفنزويلية، ثم نائباً للرئيس، والذي كان يلعب الدور الأبرز خلال فترة مرض الزعيم الفنزويلي الأخيرة، ويسير أمور البلاد، وقد سبق ودعا شافيز الشعب إلى اختيار مادورو خليفة له .
وإذا سارت الأمور على هذا النحو، ومن دون مفاجآت، وآلت السلطة للزعيم النقابي السابق مادورو، فليس من المنتظر حدوث تغييرات هيكلية في بنية الحكم، ولا في سياسات فنزويلا الداخلية والخارجية، ومواقفها التي ترسخت خلال فترة حكم شافيز، ما ينذر بقدر من الاستقرار، وانتقال سلمي وهادئ للسلطة، رغم وجود معارضة برزت مبكراً، وعبرت عن رفضها لمادورو، واعتبرت إسناد مهمة الرئاسة المؤقتة له عملية غير شرعية وانتهاكاً للدستور وتزويراً له، وكان من الأولى تولي رئيس الجمعية الوطنية هذه المهمة، لكنها المعارضة ذاتها التي كانت تقف في مواجهة شافيز، التي يقودها منافس شافيز السابق في الانتخابات الرئاسية هانريك كابريليس، كنوع من المناكفة، ومحاولة الخصم من رصيد غريمه القادم، استعداداً لمعركة انتخابية مقبلة، رغم أنه سبق وأعلن عقب وفاة شافيز أن “المهم الآن الحفاظ على الوحدة والسلام في فنزويلا وقبل كل شيء” .
ومن المتوقع أن الجماهير، خاصة ملايين الفقراء التي تعلقت بهذا الزعيم الذي حقق لها الكثير من الطموحات، حيث استخدم الثروة النفطية لفنزويلا لتمويل الإنفاق الاجتماعي الباهظ أثناء حكمه الذي استمر 14 عاماً، قد تنحاز غالباً إلى نائبه الذي باركه، وتعطيه الأغلبية التي كانت تعطيها لتشافيز، وذات الدعم الذي وفرته له حتى وهو مريض، وذلك لإكمال المسيرة، وضمان عدم انقطاعها بالمغامرة باختيار شخصية ذات نهج مغاير، قد يضيع مكتسباتها التي نالتها مع الزعيم الراحل .
وقد سارع مادورو، في خطوة ذكية لرفع شعبيته واستثمار رصيد القائد الراحل لدى الجماهير، بالتعهد بالسير على نهج شافيز، والمحافظة على الثورة الاشتراكية، ومواصلة الأهداف التي سطرها الزعيم الفنزويلي لمحاربة الفقر، ومساعدة المظلومين ونبذ الإمبريالية، وسط استطلاعات للرأي أشارت إلى إمكانية فوزه في الانتخابات المقبلة بسهولة .
صحيح أن الإرث ثقيل للغاية على أي قادم جديد لكرسي الرئاسة في كراكاس، بسبب أن شافيز لم يكن مجرد رئيس دولة فحسب، بقدر ما كان زعيماً وبطلاً شعبياً له كاريزميته التي تجاوزت حدود بلاده، ومواقفه البارزة من السياسة الإقليمية والدولية، والانحياز للقضايا العادلة، مثل القضية الفلسطينية، ورفض الحرب العدوانية على كل من لبنان وغزة، ومواجهة التبعية الأمريكية وسياسات العولمة المناهضة لحقوق الفقراء، والسعي لبناء نموذج تنمية مستقلة، للدرجة التي جعلته واحداً من القادة الذي يصلح وصفهم ب”الاستثنائيين”، وأحد الذين أحيوا أمجاد الزعماء العظماء أمثال قدوته الزعيم المصري الراحل جمال عبدالناصر .
غير أن أي أحد سيخلف شافيز، وإن كان ليس بمقدوره ملء الفراغ بالكامل الذي خلفه هذا الزعيم الكبير، فإنه على الأقل لن يستطيع خلال الفترة الأولى من حكمه أن يأخذ خطاً مناقضاً تماماً، أو أن يحول الدفة بزاوية 180 درجة مئوية، في ظل وجود ضغوط شعبية من أنصار شافيز ذي الرصيد الجماهيري الكبير، وإن كانت لغة الخطاب المثيرة للجدل، التي تفتح جبهات صراع عديدة حول العالم، ربما تتغير قليلاً وتخف حدتها، ويتم التركيز أكثر على الملفات الداخلية أكثر من الخارجية، خاصة في الظروف الراهنة والأزمات الداخلية التي تعانيها فنزويلا على الصعيد الاقتصادي أو ما يتعلق بارتفاع معدلات الجريمة .
وربما يكون ملفا العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني الأكثر حضوراً وإلحاحاً، بعد رحيل الزعيم الفنزويلي، الذي سيكون التعاطي معهما مؤشراً على مدى الحفاظ على “تركة شافيز” أم لا؟ خاصة أن هذا الرجل كان من أكثر الشخصيات إزعاجاً لواشنطن وتل أبيب في العالم، وشعرت كل منهما بارتياح لرحيله بعد أن فشلتا في مواجهته وهزيمته .
وقد سارع الرئيس الأمريكي باراك أوباما بدعوة فنزويلا لفتح صفحة جديدة بعد رحيل شافيز، وإقامة علاقات بناءة في فصل جديد من تاريخها، وإعلان دعم الشعب الفنزويلي والالتزام بالسياسات الداعية لتعزيز حقوق الإنسان . ويبدو واضحاً من هذه الدعوة الأمريكية المبكرة أن ثمة رغبة في احتواء تلك الدولة الخارجة عن عصا الطاعة الأمريكية، وتصور أن ثمة فرصة متاحة بعد رحيل الزعيم العنيد والشرس في مواقفه المعادية، الذي كان يحلو للدوائر الأمريكية وصفه ب”الديكتاتور” .
ويتشابه الموقف “الإسرائيلي” مع الموقف الأمريكي في إرسال رسائل غزل للقيادة الفنزويلية الجديدة، حتى قبيل إتمام الاستحقاق الانتخابي، حيث أعربت “تل أبيب” على لسان مصدر بالخارجية “الإسرائيلية” عن رغبتها في تحسن علاقاتها مع فنزويلا بعد رحيل شافيز . وربما تأتي هذه المبادرة في سياق تقديرات أمريكية وصهيونية من أن نيكولاس مادورو خليفة شافيز المرتقب أكثر اعتدالاً من وجهة نظرهم، وقد أشارت صراحة صحيفة هاآرتس “الإسرائيلية” إلى هذا المعنى، وإلى ضغوط الجالية اليهودية في فنزويلا التي قد تنتج أثراً .
غير أن طرد الملحق العسكري الأمريكي ومسؤولين عسكريين أمريكيين آخرين من فنزويلا سريعاً، واتهامهم بالتورط في خطة تآمرية بعد محاولة الاتصال بمسؤولين عسكريين فنزويليين لاقتراح مشاريع تزعزع استقرار البلاد، بحسب تصريحات منسوبة لنائب الرئيس الفنزويلي، فضلاً عن اتهامات أخرى لواشنطن بأنها تقف وراء إصابة شافيز بمرض السرطان الذي قضى عليه، مؤشر واضح على استمرار التوتر في العلاقات الأمريكية الفنزويلية، وربما تلك التهم تعزز الموقف المناوئ من كراكاس لواشنطن، وهو ما وضح في النفي الأمريكي لتلك الاتهامات والقول ب”أن الولايات المتحدة سعت إلى إقامة علاقات منتجة”، ولكن “التأكيدات الخاطئة” التي تستهدف واشنطن تظهر أن كراكاس “لم تكن معنية بتحسين هذه العلاقات”، إضافة إلى أن تجاهل الرد على العرض الصهيوني موقف في حد ذاته له دلالته من عدم الرغبة في أي تواصل أو اتصال مع كيان عدواني لطالما وقف الزعيم الفنزويلي ضده .
وفي المقابل، يبدو أن علاقات فنزويلا الوثيقة مع الصين وروسيا وإيران ستتواصل وتكمل مسارها، خاصة أن نيكولاس مادورو المرشح الأوفر حظاً لخلافة شافيز، كان وزير خارجيته الذي لعب دوراً بارزاً في بناء هذه العلاقات وتقويتها، إلى جانب العلاقة الخاصة جداً مع الجارة كوبا التي تعتبر كلاً من شافيز وخليفته ابنين وحليفين لها . ولعل مشاركة وفد روسي عالي المستوى في مراسم تشييع جثمان الزعيم الفنزويلي، يضم إلى جانب رئيسة البرلمان ووزير الخارجية، رؤساء شركات نفطية وتكنولوجية، تأكيد على استمرار تلك العلاقات القائمة على المصالح المشتركة، خاصة مع حث وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف الشعب الفنزويلي على استمرار تعزيز الشراكة الاستراتيجية، وإبداء استعداد موسكو التعامل مع خليفة شافيز الذي يختاره الشعب، وضخ استثمارات روسية طويلة المدى تحقق مصالح البلدين، فيما يمثل حضور الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بنفسه لتعزية الشعب والقيادات الفنزويلية إشارة على العلاقة الخاصة التي تجمع طهران بكراكاس، الذي يجمع كلاً منهما بالآخر وحدة الموقف من الإمبريالية الأمريكية والصهيونية، التي من غير المنتظر أن تتغير في المدى المنظور .
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه