«من النادر في التاريخ البشري أن حدث هذا الكم الهائل من التضحيات الغالية والنفيسة لتحقيق ذلك القدر الهزيل من النتائج».
هيفاء زعيتر - السفير
«من النادر في التاريخ البشري أن حدث هذا الكم الهائل من التضحيات الغالية والنفيسة لتحقيق ذلك القدر الهزيل من النتائج». قالها ونستون تشرشل مرة. وفي العراق، بعد عقد كامل على الحرب التي خاضوها لإسقاط نظام صدام حسين، لا ينفك الأميركيون، ومعهم حلفاؤهم البريطانيون، من تردادها.
خلال الأيام الماضية، أُفردت مساحات واسعة لإجراء مراجعة معمّقة للحرب، يُفترض أن يسمح بها مرور كل ذلك الوقت، إذ يكون مفهوماً في السنوات الأولى طغيان التأثر الآني على المنطقي.
وفي الذكرى العاشرة، بدا الأميركيون كمن يندبون حظهم: «ماذا فعلنا بأنفسنا»، فأجمعوا على خلاصة «لم تكن (الحرب) تستحق».
الأهداف الثلاثة
ثلاث عبارات تختصر حال العراق اليوم: بلد ممزّق، أمن مستباح، اقتصاد منهوب.
هكذا ترك الأميركيون البلاد وراءهم. يقول البعض إن العراق لم يكن جنّة قبل الغزو، لكن النقاش هنا لا يدور حول أحقية إسقاط النظام السابق من عدمها، ولا على تلك الحجج التي ساقها الأميركيون (أسلحة دمار شامل)، والتي ضحكوا عليها في وقت لاحق من الغزو.
نقاش العشر سنوات مختلف، فهو يطال مسؤولية الأميركيين في الحال التي وصلت إليها البلاد، من دون أن يعني ذلك تبرئة المسؤولين العراقيين، وهم بذاتهم الوجه الثاني لعملة الاحتلال.
في عودة إلى «أهداف الغزو الحقيقية»، يشير ريتشارد هاس، وهو مدير مجلس العلاقات الخارجية، إلى أن هذه الأهداف تفسّر ما وصل إليه العراق اليوم.
ومن منطلق حضوره في الإدارة الأميركية في تلك الفترة، يؤكد أن الأسباب تتلخص في ثلاثة: الأول، رسالة أرادت أميركا توجيهها بعد هجمات 11 أيلول، تفيد بعدم تحولها إلى عملاق عاجز مثير للشفقة. والثاني، أوهام بإمكانية صنع ديموقراطية عراقية تدفع دول المنطقة الأخرى إلى اتباعها. أما السبب الثالث، فهو اعتقاد أميركا أن كلفة الحرب ستكون متدنية وأن وقت العملية قصير.
أخطاء «الدمار الشامل»
عندما أراد الرئيس الأميركي باراك أوباما ضمان موقعه المتميّز عن سلفه جورج بوش، سارع إلى الانسحاب من العراق، ليقدّم نفسه رجل سلام. لم يأبه بما يخلّفه وراءه. وبهذا، يقول كبير محللي مجموعة الأزمات الدولية بيتر هارلينغ: أخطأت واشنطن بتجاهل الأهداف التي وضعتها بنفسها، وانسحبت قبل تحقيق الالتزامات.
الخطأ الأميركي الثاني، وفق هارلينغ، هو أن أميركا حوّلت العراق إلى صورة كاريكاتورية. أوهمت العالم بكلمة سحرية هي «الديموقراطية»، من دون أن تجد الأرضية المناسبة لها، واكتفت ببناء «صروح» سياسية من الكليشيهات.
أما الخطأ «الشامل» الثالث، فيتمثل في فشل أميركا في القضاء على الإرهاب، فالحرب أذكت النزعة الجهادية، بحسب ديفيد غارنر في «فاينانشال تايمز»، وخير دليل التفجيرات الانتحارية شبه اليومية.
ليس العراق وحده
في العام 1958، وبعد إطاحة نظام نوري السعيد الملكي في العراق، كتب المؤرخ وليم آر بولك مقالاً جاء فيه ان «البرامج المستعجلة لا تسفر عن نتائج مفيدة. ووزارة خارجيتنا ظلت في كثير من الأحيان تنتظر أن تتورط بلادنا في أزمة جديدة لكي ترتجل معاهدة أو اتفاقا». وفي كلام بولك كثير من المعاني حول سلوك أميركا بعد 11 أيلول، حيث ما زالت تتلمس طريقها في منطقة انقلبت رأساً على عقب.
من هنا يشير دان موفي في «كريستيان ساينس مونيتور» إلى «أن واشنطن لم تكن مستعدة في الخمسينيات للتحولات التي قادها جمال عبد الناصر وصعود القومية العربية، والآن أيضا لم تكن مستعدة لزوال أنظمة الحكم العربية، بالرغم من مؤشرات سابقة على استحالة استمرار هذه الأنظمة».
من جهة أخرى، يقول أستاذ التاريخ في جامعة بوسطن أندرو باكيفتش إن «الجروح تتقيح بمجرد فتحها، والأشياء إذا بدأت لا تنتهي بسهولة». جرح العراق الأميركي لم يقتصر على العراق وحده، فقد امتد إلى المنطقة بأكملها.. وما زال. لقد غيّرت حرب العراق معالم المنطقة، فنشب الصراع بين السنة والشيعة، وتصاعدت المواجهة بين إسرائيل وإيران واندلعت حرب تموز العام 2006 ... واحتدمت الأزمة السورية وخطر الحرب الإقليمية.
في المقابل، قد يكون المستفاد الوحيد من هذه الحروب، هو أنها، بحسب المحلّل السياسي روبرت دودج، «غيّرت نظرتنا إلى الطريقة التي نتدخل فيها لحل الصراعات الدولية». وهذه الصورة أثرت في تفضيل أميركا الصفوف الخلفية في التدخل الليبي، وتتحكم بالتردّد الأميركي الحاصل اليوم في سوريا.
«السياسة الإرضائية».. خطر التأقلم
المخيف في هذه المرحلة، قد لا يتمثل في خلافات الكتل السياسية العراقية المحتدمة، بقدر ما تظهره الكتل من تأقلم مع الوضع الحالي، من دون الرغبة بالتغيير.
يحمّل أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد إحسان الشمري سياسيي العراق المسؤولية عما آلت إليه الأحوال في البلاد، وتحديداً السياسة الإرضائية التي انتهجوها وفق «التوافقية السياسية».
الخطير، بحسب الشمري، هو وصول الصراعات بين الكتل السياسية إلى المكونات الاجتماعية، أضف إلى أن جميع الأطراف فقدوا أوراق الضغط على بعضهم البعض. من هنا بات الاستقواء بالشارع بمثابة النقطة الأخيرة لتحقيق المكاسب.
وهكذا، بات الانقسام الطائفي أكثر خصوبة بعد عشر سنوات. انسحاب الأميركيين كان بمثابة القناع الأخير الذي سقط عن وجه الطبقة السياسية العراقية. ولم تستطع الكتل أن تنتج مساراً سياسياً جديداً، بل استمرت في التخندق وفق ما رسمته واشنطن، ما عزّز الإحباط في الشارع العراقي.
هل انتهى الحلم؟
يسوق زميل الشمري، حميد فاضل، مجموعة من التحديات التي يواجهها العراق بعد عقد من الاحتلال. التحدي الأول هو استمرارية العراق الواحد في ظلّ ما رُفع من شعارات في تظاهرات الأشهر الماضية، وتوتر العلاقات بين المذاهب العراقية. أما التحدي الثاني فهو أن يفقد مفهوم الديموقراطية الثقة الشعبيّة بحجة أنها تثير المشاكل، فيكون هناك ما يشبه الذهاب إلى ديكتاتورية توافقية. التحدي الثالث هو النهوض بالاقتصاد. ويبقى التحدي الرابع أمنياً بامتياز، حيث يواجه العراق ضرورة النهوض بالقدرات الأمنية العراقية.
أما على صعيد المعيشي فالشارع العراقي يعيش تحديات الانقسامات الطائفية، الميليشيات المتحركة، البطالة، نقص المياه، انقطاع التيار الكهربائي المتكرّر، فساد الحكم، التحرش بالنساء، التفجيرات المتكررة، التعذيب وحالات الخطف، التشوهات الخلقية، ضحايا الحرب.. وكلها أمور ما زالت تشغل العراقيين وتعزز إحباطهم، ليواجهوا العودة إلى نقطة الصفر ومعها سؤال: هل عاش العراق عقداً آخر من المعاناة لأجل لا شيء؟
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه