وللتذكير بهذه المفارقات المأسوية الموجودة بين عالمين متناقضين تحتفل الأمم المتحدة منذ عشرين عاما، في الثاني والعشرين من آذار/مارس من كل عام، بـ اليوم العالمي للمياه
ربما إذا سئل أطفال الدول الصناعية عن مصدر الماء، أجابوا بأنه الصنبور لأن الحصول على ماء الشرب أو الاستحمام لا يعني بالنسبة لهم أكثر من فتح هذا الصنبور. وكثيرا ما تنسى حقيقة أنه ليس كل البشر يمتلكون هذا الترف، ففي بعض المناطق النائية في العالم يضطر البالغون والأطفال للمشي ساعات للحصول على الماء من أقرب نهر أو بركة، ثم يمشون متثاقلين تحت وطأة عبوات الماء الثقيلة التي يحملونها إلى منازلهم على مدى يوم كامل، وكثيرا ما يكون هؤلاء حفاة الأقدام رغم أن المسافات التي يقطعونها ربما تخللتها الكثير من الأشواك أو ربما ألهب أرضها حر الظهيرة.
وللتذكير بهذه المفارقات المأسوية الموجودة بين عالمين متناقضين تحتفل الأمم المتحدة منذ عشرين عاما، في الثاني والعشرين من آذار/مارس من كل عام، بـ 'اليوم العالمي للمياه' وذلك بهدف التذكير في هذا اليوم بأهمية الماء والمساهمة في اتخاذ إجراءات ملموسة من أجل الأقل حظا في هذا العالم.وتقدم دولة جنوب السودان مثالا واضحا للمناطق التي تعاني من قلة الماء، في أحدث دولة في العالم وفي الوقت نفسه أحد أفقر دوله.
وفي هذا الشأن كتبت منظمة 'مياه من أجل جنوب السودان' على موقعها الإلكتروني 'تصور أنك امرأة تضطر للسير يوميا عدة كيلومترات في درجة حرارة 50 مئوية للحصول على الماء.. وفي طريق العودة تحمل على رأسك وعاء من الماء يزن 25 كيلوغراما، وأولادك يسيرون طوال اليوم معك أو ينتظرون في المنزل للحصول على رشفة ماء أو للاستحمام أو لتناول طعام يطهى بهذا الماء الذي تحمله'.
ولتسهيل هذه الظروف المعيشية الصعبة يحفر سالفا دوت، مؤسس المنظمة المذكورة، منذ عام 2002 آبارا في المناطق غير المزروعة في وطنه جنوب السودان. وعن ذلك يقول دوت 'قررت أن أركز على الماء لأن الناس هنا كانوا يشربون مياها ملوثة ويمرضون ويصابون بالطفيليات، لقد كان الوضع بالنسبة للماء في أرجاء جنوب السودان مخيفا'.
خطرت هذه الفكرة ببال دوت عندما كان في زيارة لوالده المصاب بمرض عضال حل به بسبب الماء الملوث لأنه في كثير من الأحيان لا يشرب الإنسان وحده من عيون الماء بل تشاركه الماشية ذلك، لدرجة أنه ربما امتزج بهذا الماء براز وبول بشري أو روث حيواني، وهو بالطبع مرتع للبكتيريا التي تسبب الامراض.
واستطاع دوت ومساعدوه حتى الآن إيصال الماء إلى 300 ألف إنسان في المناطق الجديدة.ويقدم هؤلاء إلى هذه المناطق بشاحنات محملة بمعدات ثقيلة ويبدؤون بدراسة الأرض قبل أن يتخذوا قرار بالحفر في منطقة أو أخرى وذلك بعد الاتفاق مع سكان القرية القريبة.وكثيرا ما يضطر دوت ورفاقه للحفر على عمق عشرات الأمتار قبل أن يعثروا على ماء نظيف.
ولكن النتيجة تستحق بذلك كل جهد، فلم يساهم الماء النظيف فقط في تراجع حالات الإصابة بالأمراض بل إن قرى كاملة أصبحت تتطلع إلى مستقبل أفضل في ظل وجود هذه الآبار وذلك لأن الكثير من المواطنين في جنوب السودان كانوا يعيشون كبدو، تقريبا، قبل أن يصل دوت ومعه منظمته التي تعتمد بشكل أساسي على تبرعات من الولايات المتحدة.
وكان هؤلاء الرعاة يتنقلون عبر المناطق الجافة باحثين دائما عن فتحة في الأرض يخرج منها ماء أو عن مجرى نهر لم يجف بعد، وكان من المستحيل بالنسبة لهؤلاء أن يفكروا في حياة تتوفر فيها فرصة التعلم في مدارس أو بناء مستشفيات أو ممارسة التجارة في أسواق دائمة.أما الآن، فلم يعد الأطفال مضطرين لمساعدة ذويهم في البحث عن ماء، ولم تعد النساء تقضي الجزء الأكبر من يومها في حمل قرب الماء الثقيلة وأصبحت القرى قادرة على تطوير نفسها 'وهناك الآن وقت لأداء الكثير من الأشياء الأخرى' حسبما أوضحت منظمة 'مياه من أجل جنوب السودان' مضيفا: 'قريتك تبني مدرسة، والمدرس يأتي وأطفالك يستطيعون الآن التعلم ولديهم أحلام جديدة للمستقبل'.
ولكن سكان الكثير من المناطق الأخرى في أفريقيا ليسوا محظوظين بهذا الشكل، سواء كانوا في الصومال أو النيجر أو مالي أو أثيوبيا، والأمثلة على المناطق المجدبة من الماء لا تنتهي.فحسب بيانات الأمم المتحدة، لايجد 66' من سكان المناطق الريفية في أثيوبيا ماء نقيا، بل إن هذه النسبة وصلت إلى 77' في الصومال، والعطش هو أحد أكثر أنواع العذاب على الإطلاق.
وأصبح الماء النقي غير الممرض عام 2010 أحد الحقوق الأساسية للإنسان حسبما قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة ولكن الحقيقة تبدو مختلفة في كثير من المناطق بعد ثلاث سنوات من هذا القرار.