لم يستفد أحد من أخطاء خصومه «القاتلة» كما فعل نجيب ميقاتي.
ملاك عقيل
لم يستفد أحد من أخطاء خصومه «القاتلة» كما فعل نجيب ميقاتي. كان الأمر كافياً ليضمن الطرابلسي «عمر» حكومة، كاد «يقصفها» اكثر من مرة «هوس» المطالبين بتطييرها، منذ لحظة ولادتها.. الى ان وقعت، أخيراً، في «فخ» تكبير الرؤوس بين أولياء أمرها، وحسابات الخارج الكبرى.
ظل «المحظوظ» قادراً على النفاذ بريشه من براثن السقوط حتى «جلسة بعبدا» الأخيرة، أمس. لغما «الإشراف» و«أشرف» تكفلا، بما عجز عنه «الاسطول الحريري»، و«صلوات» سمير جعجع، ونداءات فؤاد السنيورة وأيام «الغضب» و«السلسلة».
استفاد «المحظوظ» من دعم دولي - عربي بقيت «خلطته السرّية» حكراً على العارفين بخفايا ما يحاك للمنطقة. لاقاه من الطرف الآخر احتضان داخلي من قبل الحلفاء الإسميين، خرج بعض الأحيان عن الخط المرسوم له، لكنه لم يشكّل تهديداً صريحاً لمناعة حكومة «ما بعد سعد الحريري».
رفع نبيه بري وميشال عون الصوت مراراً. لكن «حزب الله» كان حاضراً لتبريد الرؤوس الحامية. وهكذا، قدرّ لحكومة كسرت الرقم القياسي في حجم الشتائم والإهانات والاتهامات المساقة ضدها، ان تخرج «كالشعرة» من «عجينة» مؤامرات الإطاحة بها التي لفحتها من كل صوب، الى ان ضرب «الطرابلسي» يده على الطاولة... ومشى.
في جلسة الخميس، التي أقرّت فيها سلسلة الرتب والرواتب وأحيلت على مجلس النواب، مرّر ميقاتي «الحردان» رسائل مباشرة الى «صانعي الأكثرية». «أريد التمديد لأشرف ريفي، مهما كان الثمن. وكتاب استقالتي حاضر».
هَمس بعض «وزراء 8 آذار» قائلين له «لا تلعب هذه اللعبة. لسنا متمسّكين فيك. اتخذ القرار الذي يريحك. اذا تم تخييرنا بين القبول بهيئة الإشراف أو تطيير الحكومة نختار تطيير الحكومة. اذا تم تخييرنا بين القبول بأشرف أو تطيير الحكومة، فلتكن الثانية». اصرّ «دولة العنيد» على عناده. ربما، ظنّ ان المناورة تشبه المعركة التي خاضها من اجل تمويل المحكمة و«بروتوكولها» أو من أجل عدم جعل دماء وسام الحسن تهدر في الأشرفية هباءً. لكن هذه المرّة، اخطأ في الحساب.
«الوصولي والخائن» بنظر معارضيه، و«رجل المرحلة» برأي حلفائه، احسن الجمع بين النقيضين بحرفية عالية. ليس سهلاً على من «طعن الشيخ سعد بظهره»، كما ردّد مراراً «الجيش الأزرق»، ان يكبح انتفاضة الشارع السني ضده بسّلة «تمريرات» أرضت غرائزه، خصوصاً «غريزة الشارع»، وأن يكون في الوقت نفسه «حليف حزب الله الإيراني».
السائر بين الألغام نجح في تخطّي الأفخاخ على مدى سنتين وشهرين، بينها سنة وثمانية أشهر منذ لحظة نيل حكومته ثقة مجلس النواب في تموز 2011.
ومن ظنّ ان «غزوة السرايا» قد كتبت آخر سطور ساعاته في المقرّ الحكومي، ايقن لاحقاً، حين سمعه «يحاضر» في لا قانونية مذكرات التوقيف السورية، و«أهدافها السياسية» بحق الرئيس سعد الحريري والنائب عقاب صقر، وفي رفضه المطلق لإقفال الحدود مع سوريا، و«هوسه» بسياسة النأي بالنفس، بأن ابن طرابلس بات خبيراً في اصول «أكل كتف» الاستمرارية وسط براكين الداخل والخارج.
يومها، كان درساً «ميقاتياً» آخر، لمن يهمّه الامر، في محاكاة عواطف الشارع السني المحبط، وقيادته الفعلية في الرياض.
سبق ذلك، محطات من الابتكار في جمع الصيف والشتاء تحت سقف واحد: تورّط منظّم في رفد الطائفة بكل ما يلزم لإشعارها بأنها شريكة النصف في السلطة وصاحبة «الهيبة» التي لم تنكسر بانكسار «الشيخ»، حتى لو اقتضى الأمر «تغنيج» متهمين بالإرهاب، وإرضاء «شهوات» زعماء الزواريب في طرابلس. ومن جهة اخرى، ركوب «عربة الوسطية» التي يجرّها، فعلياً وعملياً، حصان «حزب الله».
فقط الأيام، وربما كتاب مذكرات عند حافة التقاعد من السياسة، سيكشفان الكلفة الحقيقية لـ«نأي» دولة الرئيس «بنفسه» عن الإعصار السوري. قبل ذلك، كلفة سعيه لوراثة كرسيّ الحريري، ثم كلفة «بهلوانيته» في التنقل بين حافتي إرضاء بيئته وعدم استفزاز حلفاء الأمر الواقع.
كان يفترض لزلزال اغتيال اللواء وسام الحسن ان يعيد ميقاتي «فوراً الى منزله». إعلان «استسلام» الرئيس عمر كرامي في العام 2005 لا يزال في البال. لكن غباء خصومه، والرغبة الدولية، وضعا حداً لرغبات «ليس وقتها الآن».
كان يفترض أيضاً بأحداث طرابلس ان تخلع «دولته» عن عرشه. لكن لا هيجان المحاور التقليدية، ولا ارتفاع جدار الصراع المذهبي فعل فعله المرجو، ولا «خيمة» المعزّين باللواء الحسن وهتافاتهم الاستفزازية المطالبة باستقالته، أمام منزله في طرابلس، أدخلت الإحباط الى مائدة رجل الأعمال.
بكثير من الخبث والاستهزاء بخصومه كان طَمأن السائلين يومها عن مصيره، بأنه يضع القطن في اذنيه، مقترحاً تزويد الخيمة وجوارها بالإمدادات الكهربائية اللازمة «لاعتصام أنجح، وأتمنى أن يستمر حتى الانتخابات»!
وبين خيمتيّ طرابلس والسرايا، فاض كأس «الحاج نجيب» بمزيد من المعنويات. ليس هكذا تطيّر الحكومات. وكلما عاد من زيارة لعاصمة اوروبية أيقن أكثر أن «العناية الدولية» الى جانبه، طالما انه يلتزم أصلاً بعدم استفزازها.
عندها، اصبح لغم المياومين، وكرة سلسلة الرتب والرواتب «الملتهبة»، والخروق المتبادلة على الحدود مجرد تفاصيل امام العنوان الكبير «استقرار الحدّ الأدنى مطلوب. وحكومة ميقاتي عموده الفقري». اما قضية النازحين السوريين والفلسطينيين، القنبلة الموقوتة برأي البعض، فلزّمت لـ«المتعهدين الدوليين» ولو أنهم ما كانوا عند التزاماتهم.
منذ نيل حكومته الثقة، ثابر رئيس حكومة «حزب الله»، بنظر «تيار المستقبل»، على «حرق أعصاب» مناوئيه ليس حباً «بالنكاية»، بل لأن «معركة الصمود» فرضت وضعه سلفاً في قفص الاتهام، فكان الدفاع عن النفس واجباً.
هو المتهم بالتغطية على «المجرمين» الضالعين في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وحامي حكومة تسهّل الاغتيالات السياسية، وتغطي على محمود حايك المتهم بمحاولة اغتيال النائب بطرس حرب، وتسمح لـ«قبضايات» آل المقداد ان يستعرضوا قوتهم العسكرية، وتسكت عن مشاركة «حزب الله» في المعارك في سوريا وفي تفجيرات بورغاس.
لم تنفع كل محاولاته في تضميد الجرح السني المفتوح بعد سحب «لقمة السرايا» من فم نجل «الشيخ رفيق». لكنه، استمر بقوة «الأمر الدولي»، ومقبولية مشاركيه في السلطة، «طالما لا بديل» عن «دولته».
كثرت الرهانات على أكثر من مطبّ كان يمكن ان يقود الى الإطاحة بميقاتي ووقفه عند حدّه. لكن «الشاطر» أصاب اكثر من هدف في مرمى المراهنين.
نفذ بريشه من استحقاقي تمويل المحكمة وتجديد بروتوكولها. قيل يومها إن «حزب الله» لم يشهر «اسلحته كافة» لمنع إقرار التمويل مفضّلا «قبة الباط» على الكباش مع الحليف المفترض الذي تحوّل الى «حاجة» وليس خياراً. فكان الحلّ السحريّ الذي توصّل اليه ميقاتي بتأمين حصة لبنان في التمويل من «جيب» رئاسة الحكومة.
وأمام شماتة الأخصام كاد خلافه مع ميشال عون وفريقه الوزاري ان يقوده الى قلب الطاولة على رؤوس الجميع. لوّح بالاستقالة جدّياً طالباً تحريره من الشروط والشروط المضادة.
وكانت الكلفة عالية بخروج شربل نحاس «الآدمي والعنيد» من الحكومة، وبتسويات مالية رُسمت من حولها اكثر من علامة استفهام.
وجدّدت الحكومة شبابها على يدّ النائب سامي الجميل يوم طرح الثقة بها خلال جلسة المحاسبة العامة في مجلس النواب. «باقة» الـ 63 صوتاً دفعت ميقاتي المزهو بـ«الفاول الآذاري» الى توزيع الحلوى على وزرائه في اليوم التالي.
كان فريق الرابع عشر من آذار يدرك سلفاً صعوبة تأمين الأكثرية اللازمة لإسقاط الحكومة بحجب الثقة عنها. ففضّل «الهجوم النووي» بالسياسة. لكن انسجام الجميل مع نفسه، ومع خطاب حلفائه القاسي وغير المسبوق بحق «حكومة حزب الله» دفعاه مرغماً الى تقديم هدية مجانية الى «دولته».
وبعد اغتيال الحسن كان يمكن تصوّر رئيس الحكومة محاطاً بعائلته، وفريق عمله، ومؤيدين يتوافدون الى دارته في فردان او طرابلس لمواساته في اعتكافه «القسّري» تمهيداً للاستقالة، ويخففون عليه صدمة الخروج للمرة الثانية من السرايا. وربما تقديم التعازي له بمصيبة شطبه من المعادلة الحكومية على الطريقة «الكرامية»، اي بعصا الشارع...
وحسناً فعل من حاول اقتحام السرايا. ومن غيرهم، كان بإمكانه ان يعوّم «دولته» دولياً وعربياً ومحلياً، ويدفعه الى مزيد من التشدّد في فرض شروطه. المعنويات بلغت سقفها الاعلى. «هاتوا قانوناً انتخابياً توافقياً، وخذوا حكومة حيادية لن أكون رئيسها».
ذهب الحاج نجيب أبعد من ذلك. انتقل من الدفاع الى الهجوم، ولم تعد مسايرة الأخصام واجبة. قالها بالفم الملآن «لا للفجور السياسي بعد اليوم». فقد اجبر، قبل اشهر، على تذكير المتناسين ان من يثابر على مهاجمته من «تيار المستقبل»، تحديداً، يتحمّل مسؤولية مباشرة في العبء الثقيل الذي تتحمّله حكومته اليوم. بعد اليوم لن يسكت «دولته». قد لا تكون الخلفية انتخابية فقط. نبض ميقاتي «العالي» كان له اسبابه، بعد ان ازيلت، في تلك الفترة، إمكانية إطاحته بالقوة من قائمة الاحتمالات الممكنة.
في الأشهر المنصرمة توضّحت الصورة اكثر: لا مجال لإسقاط حكومة نجيب ميقاتي في الشارع وبالقوة، ولا تخلِ دولي حتى الساعة عن سياسة النأي بالنفس.
اما الوضع السوري فليس في الأفق ما يوحي بأن الحسم على الأبواب. كان هذا كافياً، براي الميقاتيين، لدفع «دولته» الى التحرّر من عبء الضغوط الداخلية، ومقاطعة فريق 14 آذار للحكومة، بغض النظر عن الاستحقاق النيابي ونتائجه.
المتفائلون حلموا بأكثر: قد تكون فرصة تاريخية لنجيب ميقاتي كي «يشفي» حيثيته السياسية من «عقدة النقص» حيال «تيار المستقبل»... اذ «لا عودة للحريري في المدى المنظور الى السلطة. ووسطية ميقاتي قد تكون الأكثر قابلية للعيش في مرحلة هي الأخطر على سوريا ولبنان».
سمحت سياسة النأي بالنفس، على مدى عامين، ليس فقط بمجالسة مفاتيح القرار الدولي والعودة بـ«غلّة حرزانة» من الرضى على «رجل المرحلة» القابل للاستثمار الإيجابي لاحقاً، انما أيضاً باستجلاب «عواصم العالم» نفسها الى الساحة اللبنانية.
هذا ما حدث مع نجيب ميقاتي يوم اجتمع ممثلو هذه العواصم تحت سقف واحد دفاعاً عن حكومة «الحاج» بعد «غزوة السرايا». هذا ما لم يحدث مع سعد الحريري حين انتقل من السرايا الى المنفى السعودي امام اعين الحلفاء الدوليين والعرب. لكن «المحظوظ»، لن يكون محظوظاً بـ«وكالة» غير قابلة للعزل... بالأمس سقط «الشاطر» بقراره الذاتي ولكن بحسابات مشغولة جيداً. هل سمع أحد من اللبنانيين أو شاهد سفيراً على طريق القصر الجمهوري أو السرايا الكبيرة يحاول إقناع ميقاتي بالعكس؟
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه