وقائع من مفاوضات ربع الساعة الأخير مع بري و«حزب الله» قبل أن يقول ميقاتي «باي باي»
وقائع من مفاوضات ربع الساعة الأخير مع بري و«حزب الله» قبل أن يقول ميقاتي «باي باي»
«السـفير» تنشـر الروايـة الكاملـة لاسـتقالة رئيـس الحكومـة
عماد مرمل
لا يزال الكثيرون في الوسط السياسي منشغلين بفك لغز استقالة الرئيس نجيب ميقاتي وتفسير خلفياتها، لاسيما أنها لم تكن مطروحة حين وصل ميقاتي الى بيروت، عائدا من الفاتيكان، مساء الثلاثاء الماضي. هذا ما يؤكده الذين تسنى لهم أن يكونوا الى جانبه، أثناء وجوده في الفاتيكان، وفي طريق العودة الى لبنان، على متن طائرته الخاصة. لكن، شيئا ما طرأ خلال المدة الفاصلة عن موعد جلسة مجلس الوزراء الخميس ولاحقا الجمعة، خلط الأوراق وقلب المعطيات.
عند انتخاب البابا فرانسيس الأول، اتصل ميقاتي بالرئيس نبيه بري، في بادرة، كسرت حالة الفتور التي كانت سائدة بين الرجلين، وقال له ضاحكا: تمعّن جيدا في صورة البابا الجديد... إنه يشبهني. ضحك بري من كل قلبه، ثم تصحّف بعض الجرائد، ليكتشف أن ميقاتي كان محقا في ملاحظته. «إنه يشبه البابا فعلا». قال بري لمعاونه السياسي علي حسن خليل.
رحلة الفاتيكان
لاحقا، توجه بري وميقاتي الى روما لتهنئة البابا بانتخابه. في اليوم التالي لوصولهما، اتفق ميقاتي مع رئيس المجلس على تناول العشاء في أحد المطاعم الشهيرة في قلب العاصمة الايطالية. رحّب بري باقتراح السمك، خصوصا أنه يصوم عن تناول اللحم في الخارج. وما أن همّ الرجلان بتناول الطعام حتى وصلهما الخبر السيئ: أربعة مشايخ تعرضوا للاعتداء في بيروت والشياح.
وقع الخبر كالصاعقة على الاثنين، وخصوصا على بري الذي سارع الى إجراء الاتصالات بقيادات حركة «أمل» والمسؤولين الأمنيين في الدولة، طالبا توقيف المتورطين على الفور، بل انه أبلغ من يعنيهم الأمر أنه في حال أخفقت الأجهزة الرسمية في اعتقال الفاعلين خلال نصف ساعة، فهو سيطلب من عناصر «الحركة» القيام بالمهمة، حتى لو كان هذا التصرف سيبدو ميليشياويا بالنسبة الى البعض.
وبينما كان مدير المخابرات العميد ادمون فاضل يتحدث مع ميقاتي، انتزع بري الهاتف الجوال من يد رئيس الحكومة وقال له: «لا تعتقلوا الشابين من آل منصور وحدهما بل معهما والدهما وكل سليلتهما».
شعر بري بأن الوقت يمر بطيئا في حين أن الفتنة تتحرك سريعا، فسأل ميقاتي عما إذا كانت طائرته الخاصة قادرة على أن تقلّه الى العاصمة اللبنانية فورا، لأنه يفكّر بالعودة، لمعالجة الوضع شخصيا، عن قرب، ثم ما لبث أن صرف النظر عن الفكرة مع وصول الأنباء عن توقيف المتورطين بالاعتداء.
كان بري يتكلم عبر الهاتف، مع محادثيه في بيروت، بصوت مرتفع ومنفعل، دفع معظم زبائن المطعم الايطالي الى مغادرة المكان، فطلب من باب التعويض على إدارة المطعم ان تتم دعوة كل مرافقي الرئيسين ومساعديهما الى تناول العشاء وملء الطاولات الفارغة.
اتصال الحريري
وخلال وجوده في الفاتيكان، تلقى بري اتصالا هاتفيا من الرئيس سعد الحريري، وهو افترض للوهلة الاولى أن الأخير يريد الاستفسار حول حقيقة ما جرى تداوله في بعض وسائل الاعلام عن حصول اتفاق بينه وبين البطريرك بشارة الراعي والرئيس ميقاتي في شأن قانون الانتخاب. إلا أن الحريري فتح مع بري ملفاً آخر هو التمديد للواء اشرف ريفي، قائلا له: دولة الرئيس، أتمنى عليك الدعوة الى عقد جلسة تشريعية عاجلة من أجل التمديد للواء ريفي، وهناك اقتراح قانون معجّل مكرر بهذا الصدد مقدم من نواب «14 آذار».
ولمَ العجلة؟ سأل بري رئيس الحكومة السابق، فأجابه الحريري بأن الوقت أصبح داهما لأن ولاية اشرف ريفي تنتهي في الاول من نيسان المقبل، ويجب أن نفعل شيئا قبل فوات الأوان...
تنبّه بري الى أن موعد إحالة ريفي الى التقاعد اصبح وشيكا بالفعل، فما كان منه إلا ان طرح على الحريري عقد جلسة تشريعية، يتضمن جدول أعمالها، الى جانب اقتراح القانون المتعلق برفع سن التقاعد للقادة الأمنيين، اقرار قانون انتخابي جديد.
أراد بري بذلك استدراج فريق «14 آذار» للعودة عن قرار مقاطعة المجلس النيابي على قاعدة أنه هو من يقرر جدول الأعمال وليس أي أحد آخر.
وما لبث الحريري ان أضاف الى تمنيه أن تعقد الجلسة، إشارة الى أن فريقه يقوم بتوقيع عريضة نيابية تمهيدا لرفعها «الى دولتك».
استفز موضوع العريضة بري. قال إن أي دعوة لعقد جلسة عامة ستكون محكومة بجدول الأعمال الآتي: اولا مشروع «اللقاء الأرثوذكسي» بعدما جرى إقراره في اللجان، وثانيا، تمديد ولاية كل القادة الأمنيين، مذكرا الحريري بأن عضو كتلة « التنمية والتحرير» علي بزي قدم اقتراح قانون بالتمديد لقائد الجيش منذ شهور عدة.
وصلت الرسالة الى الحريري بشكل واضح، فيما بقي موضوع التمديد لريفي في مجلس النواب من دون حسم، ومفتوحا على مزيد من التشاور والاتصالات. حتى تلك اللحظة، كانت الكرة لا تزال عند بري، ولم تكن قد وصلت بعد الى ملعب ميقاتي.
لم يلمس بري في روما وجود أي من «عوارض الاستقالة» على سلوك ميقاتي، بل ان كل شيء كان يوحي بأن الرجل باق في السرايا الحكومية، عدا عن أن رحلة الفاتيكان، ساهمت في إعادة الحرارة الى اسلاك العلاقة السياسية والشخصية بين بري وميقاتي، في أعقاب مرحلة من البرودة على خلفية الخلاف حول مسائل عدة، منها ما يتعلق بالتعيينات وسلسلة الرتب والرواتب.
وأكثر من ذلك، تباحث الرئيسان في كيفية احتواء تداعيات أي قرار يمكن ان يتخذه رئيس الجمهورية بتعليق مشاركته ووزرائه في جلسات الحكومة، عند سقوط هيئة الاشراف على الانتخابات بالتصويت.
مفاجأة تنتظر ميقاتي في بيروت
بعد عودة ميقاتي الى بيروت، بدأت المعادلة تتغير تدريجيا. يطلب أشرف ريفي موعدا عاجلا عصر الثلاثاء من رئيس الحكومة. يسحب ريفي من ملفه ورقة رفيق الحسن، مدير عام قوى الأمن الداخلي في زمن رفيق الحريري الذي تم التمديد له بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء. وفق المرسوم جرى التمديد للحسن باستدعائه من الاحتياط، من قبل وزير الداخلية قبل أربعة أيام من بلوغه سن التقاعد، وتكرر التمديد في السنوات اللاحقة.
تشاور ميقاتي مع معاونيه. أُحرج الرجل بالصيغة التي اذا تعذر عليه تمريرها سيقال أنه فرّط بالموقع السني الأمني الأول. صباح الأربعاء، اجتمع ميقاتي لعشر دقائق مع السفير السعودي على عواض عسيري الذي سلّمه رسالة من الأمير مقرن بن عبد العزيز يشكره فيها على تهنئته له بتعيينه نائبا ثانيا لرئيس مجلس الوزراء. بعد ذلك، استدعى رئيس الحكومة وزير الداخلية مروان شربل، وقال له: «أود منك أن تدرس الملف وأن تقدم صيغة الى مجلس الوزراء بالطريقة نفسها». وقد أعجب وزير الداخلية بالصيغة وتعهد بدرسها وإعطاء جواب عليها».
مفاوضات مع «حزب الله»
طلب ميقاتي من الحاج حسين خليل جوابا على الاقتراح، فجاءه على غير ما اشتهاه. دخل على الخط اللواء عباس إبراهيم، فقال له رئيس الحكومة: «أنت ضابط وتستطيع تقدير الموقف. أرجو أن تحاول إقناع الحزب بالموضوع. أنا لا أريد التمديد سنة لأشرف بل لثلاثة أشهر فقال له ابراهيم: «لتكن ستة أشهر (حتى نهاية أيلول)، وإذا حصل تمديد في أول تشرين لقائد الجيش يشمل التمديد كل القادة الأمنيين والعكس صحيح».
عاد ابراهيم بالجواب في اليوم التالي بأن الحزب وميشال عون لن يسيرا بالطرح. ولم يمض وقت حتى اتصل الحاج حسين خليل بميقاتي وقال له: «يا دولة الرئيس. لا تتعب نفسك. ما قلته لك واضح بالنسبة إلينا، ولا ضرورة لتوسيط أحد بالموضوع».
الاستعانة ببري
قرر ميقاتي أن يذهب الى بري، بعدما شعر أن هامش المناورة لديه يضيق، وأن الخيارات أمامه تتقلص الى حد اختصارها باثنين: إما التمديد لريفي الذي بات يمثل تقاطعا سنيا ـ سعوديا ـ غربيا، وإما الاستقالة.
وما زاد من حراجة موقف ميقاتي «تشدد» رئيس الجمهورية ميشال سليمان الذي كان قد هدد بتعليق ترؤسه لجلسات مجلس الوزراء إذا لم تُقر هيئة الاشراف على الانتخابات. حسبها ميقاتي، فوجد انه سيكون من غير الملائم ان يقف مكتوف اليدين إذا جرى تعطيل التمديد لريفي، في وقت بلغ رئيس الجمهورية في دفاعه عن صلاحياته حد مقاطعة الحكومة.
تحت وطأة هذه الحسابات، زار ميقاتي صباح الجمعة الماضي رئيس المجلس الذي كان قد تلقى في الليلة السابقة إشارات الى احتمال استقالة ميقاتي وهو لم يتردد مساء في القول لأحد سائليه: «لا أعرف إذا كانت الحكومة ستبقى».
في عين التينة، أخرج رئيس الحكومة ورقة رفيق الحسن وابلغ بري انه متمسك بالتمديد لأشرف ريفي، وأنه يريد جوابا واضحا، شاكرا بري على موقفه وتعاونه وتقديره لحساسية موقفه سنيا.
دعا بري ضيفه الى التروي. ولفت انتباهه الى أنه مرّ خلال العامين الماضيين في اختبارات أصعب، تجاوزها بنجاح، ومنها تمويل المحكمة الدولية، مبديا استعداده للمساعدة في تجاوز العقدة الحالية، كما فعل في الماضي. وأبلغ رئيس المجلس ميقاتي أنه شخصيا لا يعارض التمديد لريفي، وأنه سيطلب من وزرائه التصويت الى جانب كل ما يمكن ان يطرحه رئيس الحكومة في جلسة مجلس الوزراء بعد الظهر.
وبالفعل، تواصل بري مع معاونه السياسي الوزير علي حسن خليل ووزير الخارجية عدنان منصور، وأبلغهما بوجوب التجاوب مع أي صيغة يقترحها ميقاتي.
الفرصة الأخيرة
غادر ميقاتي عين التينة، قرابة الظهر، لأداء الصلاة، تاركا باب الاحتمالات مفتوحا على مصراعيه. بعد قليل، وصل قائد الجيش العماد جان قهوجي الى مقر الرئاسة الثانية، حيث كان بري ينتظره الى مائدة الغداء، للتداول في وضع طرابلس، ولكن باله ظل مشغولا بمصير الحكومة مع اقتراب موعد انعقاد مجلس الوزراء عند الرابعة بعد الظهر.
خلال الغداء، راودت بري فكرة تأجيل البحث في التمديد لريفي، وقرر ان يكلف معاونه السياسي بمناقشتها مع رئيس الحكومة، فاتصل بميقاتي وقال له بأن الوزير علي حسن خليل في طريقه اليه، مقترحا عليه أن يصطحبه معه في سيارته الى قصر بعبدا، على أن يبلغه في الطريق الرسالة التي يحملها.
وبالفعل، وصل خليل الى السرايا على عجل، وتوجه مع ميقاتي الى بعبدا. حاول المعاون السياسي جاهدا أن يقنع رئيس الحكومة بعدم طرح مسألة التمديد لريفي خلال جلسة مجلس الوزراء، من أجل إعطاء فرصة أخيرة لمحاولة إيجاد حل، في الايام الفاصلة عن انتهاء ولاية ريفي، غير أن ميقاتي أراد جوابا واضحا: اذا تم التأجيل الى ما بعد عودة رئيس الجمهورية من الدوحة، هل تضمن لي أن الاقتراح سيسلك طريقه في مجلس الوزراء؟ وكان متعذرا على خليل أن يقدم ضمانة لميقاتي.
باي باي!
أدرك ميقاتي حساسية موقف بري، فأجرى اتصالا بالحاج حسين خليل وطلب اليه أن يبلغ تحياته الى السيد حسن نصرالله، مؤكدا الآتي: إما أشرف ريفي أو باي باي». اجابه خليل: «ماذا تقصد باي باي». رد رئيس الحكومة: الاستقالة.
بعد قليل، رن هاتف ميقاتي وجاءه جواب «حزب الله» عبر خليل: «التمديد لريفي لن يمر واعمل ما يريحك يا دولة الرئيس».
الجلسة الدراماتيكية
ومع انطلاقة جلسة مجلس الوزراء، تسارع إيقاعها الدراماتيكي. بند هيئة الاشراف فجّر اشتباكا سياسيا بين الرئيس ميشال سليمان ووزراء «8 آذار»، انتهى الى سقوط الهيئة وتعليق رئيس الجمهورية حضوره لجلسات الحكومة. وفي ظل هذا المناخ المتوتر، طرح ميقاتي موضوع التمديد لريفي، وفق الاخراج القانوني الذي بات معروفاً.
اعترض وزراء «التيار» و«حزب الله» و«القومي»، فطلب من وزير الداخلية أن يخرج الصيغة من ملفه، وجاءه الجواب من حيث لم يكن يحتسب. قال شربل الذي سعى الى تدوير الزوايا وسحب فتيل ريفي قبل أن يشتعل، أن الموضوع يحتاج الى تدقيق قانوني، وأنه لا يمكن إقرار المرسوم الا بعد انتهاء ولاية ريفي في الأول من نيسان. صُعق رئيس الحكومة من الجواب وضرب يده على الطاولة غاضبا.
في تلك اللحظة، اختار ميقاتي أن يخرج من رئاسة الحكومة، خاسرا في جلسة مجلس الوزراء ورابحا في شارعه. وهكذا، عاد الى السرايا، حيث وضع اللمسات الأخيرة على خطاب الاستقالة، وقبل عشر دقائق من المؤتمر الصحافي أجرى آخر محاولة مع «حزب الله» عبر عباس ابراهيم وجاءه الجواب سلبيا.. عندها تلا رئيس الحكومة بيانه، ومضى الى السهرة حيث كانت مورا كونيلي وآخرون في انتظاره.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه