ما تدّعيه النسويّات من أنَّ عمل المرأة يفضي بها إلى تحقيق المساواة مع الرّجل لا يصحّ إلّا نادراً، والبعض يتحفّظ على عمل المرأة "خشيةً من أن يكون الإستقلال المادّي للمرأة سبيلٌ للتحرر من سطوة الرجل ..!
في ندوة حمّلت علماء الدين مسؤولية تجديد النظرة لعمل المرأة ودورها في الميدان الخاص والعام، خلت منهم تماماً، واقتصرت على حضور متأخر للسيد جعفر فضل الله، الذي ختم الندوة، التي حملت عنوان "ماذا اعطى العمل للمرأة وماذا أخذ منها"، بأن قال الشرع الإسلامي يفترض به الأخذ بمعطيات الواقع ومضمون النص الديني ليصدر بياناً عاماً حول مستجدات المرحلة وتغييراتها الاجتماعية والتربوية والثقافية ليكون قريباً من حياة الناس.
وعلى ما يبدو أن هذا الإقرار قد أراح بعض النسوة بعد نقاش كان ممتعاً في الندوة، التي دعت إليها مؤسسة الفكر الإسلامي المعاصر للدراسات والبحوث بالمشاركة مع الهيئة النسائية في جمعية المبرات الخيرية، وذلك مساء يوم الجمعة الماضي، في قاعة المتحف في مطعم الساحة في ضاحية بيروت الجنوبية. بحضور عددٍ من المثقفين والإعلاميين ومسؤولي المؤسّسات الإجتماعيّة والعديد من النساء العاملات في مختلف المجالات، حيث كان هناك مداخلات لبعض الحاضرات والحاضرين أثارت بعض الإشكالات الهامّة من قبيل اعتبار الواقع معطىً هامّاً لبتّ النصوص التي تتعلق بحقوق المرأة.
الدكتور نجيب نور الدين: المطلوب النظر لعمل المرأة بعدالة وليس بمساواة
كلمة الافتتاح كانت لمدير مؤسسة الفكر المعاصر الدكتور نجيب نور الدين، وكعادته فقد وضع كلماته في إطار وصّف الإشكالية الاجتماعية الكبرى الدائرة منذ دخول المرأة معترك الحياة العامة، بأن تساءل هل بات عمل المرأة حاجة أكثر مما هو حق بعد كل التغييرات الاقتصادية والاجتماعية التي يمر بها المجتمع؟.. وهل أن ذلك يكون بفعل إرادة حرة أم أنه يلبي حاجة المجتمع والمؤسسات، مجتمع لا يستقيم إلا بخروجها إلى العمل؟. وقال :" "إذا كان المطلوب أن يلبي عمل المرأة حاجة المجتمع إليها، فإن المطلوب في المقابل النظر إلى عمل المرأة بعدالة وليس بمساواة، وإلا إن كان عمل المرأة خارج المنزل سيضاعف من أعبائها... فإننا بذلك نكون قد أضافنا قيداً جديداً على حريَّتها، فيما المطلوب، أن يقوم العمل خارج المنزل بتحريرها من المزيد من قيودها من حيث المبدأ".
وفي حديث جانبي قبل انعقاد الندوة قال الدكتور نور الدين لموقع المنار الالكتروني رداً على سؤال كيفية معالجة سلبيات تجربة خروج المرأة للعمل، قال :" إنه لا يكفي أن تكون المرأة ربة منزل، لا بد أن تؤكد حضورها الإنساني في الساحة العامة والمشتركة مع الرجل، ولكن ألا تلغي خصوصيتها ودورها الأساسي في الأسرة. نعم خرجت المرأة للميدان العام لكن هذا الخروج ليس خروجا سويا بمعنى أنه يرهق المرأة ويستنزفها لأنه لم يجهزر العدة لدور المرأة في المساحة العامة مع المساحة الخاصة. بالتالي الإشكال المطروح هو ما الذي أخذه العمل من المرأة وما الذي أعطاها أياه؟.. وهل أخذ منها أكثر مما أعطاها أو أعطاها أكثر مما أخذ.. نحاول في هذه الندوة لفت نظر كل المعنيين بالساحة العامة أن يأخذوا بعين الاعتبار أن المرأة في الوقت الذي خرجت فيه للعمل ما زالت تقوم بالوظائف نفسها في المنزل بحيث يجب التعامل من زاوية عدالة وليس من زاوية مساواة ..".
كما كانت كلمة ترحيبية باسم الهيئة النّسائيّة في جمعيّة المبرات الخيرية ألقتها الحاجة فاديا دياب،التي ركزت على الدور الكبير الذي تلعبه المرأة في تربية الأجيال على وأد الفتن.
وبعد عرض فيلم وثائقي قصير يبرز شهادات حية لعدد من النساء العاملات في مختلف المجالات ويظهر مدى تأثير العمل على أوضاعهنَّ، قدّمت الإعلامية ليلى مزبودي للمحاضرين معتبرةً أن أغلبية الأدبيات الإسلاميَّة جعلت عمل المرأة رهناً بموافقة الرّجل أو وفقاً لمزاجيَّته، إلا أنَّها رأت أنَّ الواقع الإجتماعي كان أقوى من تلك الأدبيات.
الدكتور عزة شرارة : غير صحيح ما ندعية بأن عمل المرأة يحقق المساوة مع الرجل
مداخلة للدكتورة عزة شرارة تميزت بالأرقام والاحصائيات لدراسات علمية حاولت ان تقدم مقاربة للواقع، فتبين أن نسبة النساء العاملات اللبنانيات يشكّلن نحو 23% من مجمل النساء فوق الـ15 سنة، ( وذلك مقابل 73% من الرجال) و47% في الشريحة العمرية الواقعة بين 25 و34. ونسبة النساء العاملات اللواتي لم يسبق لهن الزواج هو 57% فيما أقل من 35% منهن متزوجات.
وأكدت أن دخول المرآة معترك العمل ليس تحقيقاً لإثبات الذات أو لتلك الشعارت التي يتغنى به بل هي حاجة ملحة في العديد من الحالات الأسرية. ولفتت إلى أن المجتمع لا يعد اهتمام المرأة ببيتها وأسرتها عملاً، بل يراه شأناً لازما عليها. ولكن من ناحية أخرى، لاحظت الدراسات :" أن عمل المرأة قدّم لها مكتسبات تمثّلت بشعورها بالثقة بالنفس ووسّع لها آفاقاً للنشاط في المجالات العامّة.. فأصبحت أكثر تأهيلاً لتحمّل الضغوط وأقل تعرّضاً للنكسات النفسية؛ لكن مع أن دوافع المرأة للعمل هي اساساً الكسب الاقتصادي، فإن ذلك الكسب يصب غالباً في موازنة اسرتها، ولا يفضي بأكثرية العاملات إلى استقلالهن الاقتصادي الكامل".
وأشارت الدكتورة شرارة إلى أنَّ ما تدّعيه النسويّات من أنَّ عمل المرأة يفضي بها إلى تحقيق المساواة مع الرّجل لا يصحّ إلّا نادراً، كما ذكرت أنَّ البعض يتحفّظ على عمل المرأة "خشيةً من أن يكون الإستقلال المادّي للمرأة سبيلٌ للتحرر الشّخصيّ من سلطة الرّجل، وحجة للإنتقاص من علو شأنه". وأضافت: "إنَّ لجوء الأسرة إلى دفع بدل مالي لعاملة في الخدمة المنزلية هو تأكيدٌ موضوعيّ لا سبيل لنكرانه إلا أنَّ صيانة حيوات أفراد الأسرة في المنزل هو عملٌ يستحقّ أجراً".
الدكتور زهير حطب : على الرجال الاعتراف إنهم بحاجة لعمل المرأة
كلمة الدّكتور زهير حطب حازت على إعجاب الحاضرين بعدما ألفى مقدمة تحدث فيها عن تجربته في المحاكم والعمل الميداني، حيث لاحظ الفرق الكبير بين حضور المرأة الحجول في المجتمع منذ ثلاثين سنة وبين حضورها القوي اليوم، وأنه لا فضل للرجل عليها بل هي ناضلت لتنال بعضاً من حقوقها، وهو تركها تفعل ذلك لأنه بحاجة إلى عملها. ومن هنا ركّز الدكتور حطب على أهميّة تعليم المرأة كتحضير أساسيّ لعملها المستقبليّ، معتبراً أن المرأة "لا تذهب إلى العمل للتسلية بل لأسباب وضغوط إقتصاديّة"، مطلقاً دعوة إلى الرجال للإعتراف بأنهم باتوا غير قادرين على تحمل التكليف الشّرعي المتمثّل بالنفقة.
وقال: "ليتنا مثل الدول الإسلامية غير العربية كتركيا وماليزيا وإيران حيث وجد الحزب الحاكم أنَّ من مصلحة المجتمع أن تنزل المرأة إلى ساحة الميدان". وقد أشار الدكتور حطب إلى أنَّ عمل المرأة يمكّنها من إقامة العلاقات الإجتماعية التي تمثل جزءاً من عالم المرأة للدفاع عن نفسها والاستقواء بالآخرين، وهي ضرورة في مشاريع التّنمية الوطنيّة بشكلٍ عام.
الباحثة أميرة برغل : العمل على سن قوانين تساعد المرأة للقيام بالدورين
ثم كان للأستاذة في البحث التربوي الحاجة أميرة برغل كلمةً تحدثت فيها عن تجربة عمل المرأة العاملة في المؤسسات الإسلاميّة، ذاكرةً إيجابيات تتعلّق بمراعاة خصوصية حركة المرأة في المجتمع والتمسك بالحجاب كشرط من شروط التفضيل، بالإضافة إلى توفير فرص عمل للملتزمات إسلامياً ومعاملة العاملين والعاملات بمساواة. ولكن في المقابل أشارت برغل إلى سلبياتٍ تمثل أبرزها بالتشجيع على تقديم العمل الوظيفي على العمل الأسري، وتقديم الرجل على المرأة في مواقع القرار، بالإضافة إلى التعامل غير الإنساني لدى بعض المؤسسات عبر تقليص إجازة الأمومة..
وشنت برغل حملة انتقادية ضد المؤسسات الإسلامية التي تنسى أنها تنطلق من روح الإسلام، وطالبتها أن تراعي ظروف المرأة الخاصة في الأسرة كسن قوانين في العمل تساعدها على إتام عملها وعدم التقصير في واجباتها الأسرية في آن واحد، كي نتمكن معا مؤسسات وأفراد أن نعمل على تكامل المجتمع الإسلامي بإعادة الإسلام إلى الوجود. وقد حتمت الأستاذة أميرة بتوصياتٍ كان أبرزها دعوة إلى علماء الدّين والمفكّرين إلى أن يعيدوا صياغة المفاهيم الحياتيَّة من منطلق المنظومة القيميَّة المتعلّقة بالنّظرة الإلهيَّة للإنسان والفرد.
وكان غريباً أن ما تطالب به السيدة أميرة برغل من تعامل عادل مع المرأة - الأم العاملة لم يلق قبولا من بعض الحاضرات. الدكتور فاطمة الزغبي، أستاذة في الجامعة اللبنانية، قالت لموقع المنار الالكتروني، أنه ليس واجب رب العمل أو المؤسسات أن تسن قوانين لتساعد المرأة على القيام بالدورين معاً، بل هو خيارها إما أن تعمل وإما ان تتفرغ لأسرتها حتى يصبح أولادها بعمر يبدأون به بالذهاب إلى المدرسة عندها يمكنها الالتحاق بالعمل. ولفتت الدكتور الزغبي إلى أن المرأة اليوم "أصبحت جشعة" تريد أن تؤدي اكثرمن عمل في الوقت نفسه إلى جانب الاهتمام بأسرتها، هنا طبيعي أن تقصر " وهذه مبالغة كبرى، فلتطمئن إلى عمل واحد مع الاهتمام بأسرتها، "لقد قمت بذلك وربيت أولادا نجحوا جدا في المجتمع".
أيات نور الدين: طبيعة الحراك المجتمعي تفضي إلى التغيير
الأستاذة آيات نور الدّين كان لها الكلمة الأخيرة في اللقاء، التي حملت عنوان "واقع النساء العاملات في النظرية والرؤية"، إذ طرحن جملة أسئلة حول ماذا تريد المرأة من العمل، وهل فعلا جلب لها الاستقلال المادي أم أنه زاد من أعبائها؟..وهل فعلا نحن النسار يروق لنا دور الضحية؟.. ما يجعل علاقة المراة بالعمل علاقة القاهر مع المقهور؟..
وقالت نور الدين :" من الطبيعي أن تستند القوانين الحاكمة لعمل المرأة إلى رؤية شاملة لا تكون حدودها المؤسسة والعمل والإنتاج.. بل يؤخذ بعين الاعتبار منظومة القيم التي تستند إليها هذه المؤسسة أو المجتمع أو الدولة". وأضافت أنه " لا يمكن إلا أن نذكر العلاقات الاجتماعيَّة التي لم تتم إعادة صوغها وضبطها في مجتمعاتنا بناء على عامل خروج المرأة للعمل، مع الإبقاء على القيم المرتبطة بهذا المجال، وإن كانت طبيعة الحراك المجتمعي تفضي إلى تغيير في هذا الإتجاه".
تصوير : زينب الطحان - محمد عمرو