التعليم الديني له جوانب عدّة، فمن جوانبه تنمية أفكار الناس وعقولهم «ويثيروا لهم دفائن العقول». ومن جوانبه الأُخرى درء الشبهات.\"
"التعليم الديني له جوانب عدّة، فمن جوانبه تنمية أفكار الناس وعقولهم «ويثيروا لهم دفائن العقول». ومن جوانبه الأُخرى درء الشبهات".
الإمام الخامنئي
الفصل الثاني: وظائف رجال الدين
الوظيفة الأساسية لطلبة العلوم الدينية
بيان القضايا السياسية و الاجتماعية في الدعوة
الركن الأوّل: الدافع إلى الدعوة
الركن الثاني: الهدف من وراء الدعوة
الركن الثالث: اسلوب الدعوة و وسائلها و أساليبها
عطاء رجال الدين لتحقيق أهداف الإسلام و غايات الأنبياء
الفصل الثاني: وظائف رجال الدين
الواجب الأساسي و التحدّي المهم لرجال الدين وهو ما كانت تواجهه الحوزات و علماء الإسلام في الأدوار المختلفة ـ هو تبيين و تعليم الدين بالمعنى الواسع للكلمة؛ تعليم فقه الله، فقه الدين. إنّ الفقه لا ينحصر في فروع الدين فقط؛ بل الفقه الأكبر هو التوحيد و المعارف؛ و هو ما ينبغي التوصّل إليه و فهمه من خلال الغَوْر في المسائل العقلية، و صقلها عن طريق تهذيب النفس. إذ كانوا شغوفين بتعلّم الدين و تعليمه للمتلقين. ثم إنّ تعليم الدين له جوانب عدّة، فمن جوانبه تنمية أفكار الناس و عقولهم «ويثيروا لهم دفائن العقول». و من جوانبه الأُخرى درء الشبهات. فالشبهات كانت موجودة على الدوام، إلا أنّ أنماطها متفاوتة. و قد كان العلماء الكبار في الأدوار المختلفة يرون أن احدى مسؤولياتهم هي الرد على الشبهات. و المواجهة إمّا أن تكون عن طريق الوقاية أو عن طريق العلاج. و الوقاية خير من العلاج. و ما كانوا يقومون به من تعليم الكلام و الفلسفة، و ما كان يقوم به شخصية کالعلاّمة الحلّي و هو فقيه جليل القدر، و له كتاب في الكلام، و له كتاب في الفلسفة أيضاً هو أن يستطيعوا من خلال تنمية (ترسيخ الإيمان في) عقول المتلقّين، وقايتها من تغلغل الشبهات إلى الأذهان أو رسوخها فيها؛ و لكي لا يجد ذلك المتلقّي نفسه ـ سواء كان إنساناً عادياً، أم طالب علم، أم شخصاً حكيماً و متعلّماً ـ عاجزاً أمام شبهة بدت له أو ألقاها آخر في ذهنه. و كانت مهمّتهم الأُخرى معالجة الشبهات؛ فإن كانت تَعْرضُ شبهة، كانوا يعقدون مجالس كلام و بحث و اجابات عن الأسئلة، و كانوا يكتبون الكتب من أجل تفنيد الشبهات. و هم يدرسون الفقه و الفلسفة و الكلام و التفسير و العلوم التمهيدية، من أجل هذه الغاية. و هم يقرأون التاريخ و يتعلّمون الكثير من علوم عصرهم ليتمكّنوا من تبليغ الدين؛ {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ و يُزَكِّيهِمْ و يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ و الْحِكْمَةَ} و الآخر هو التزكية. إنّ التعليم يختلف عن التزكية. و مع ان التعليم لو جرى بالاسلوب الصحيح و على الطريقة السليمة، ينطوي بين ثناياه على التزكية، إلا أنّ التزكية لها مسارها المستقل.
الوظيفة الأساسية لطلبة العلوم الدينية :
الوظيفة الأساسية التي تقع اليوم على عاتق الطالب الشاب و الفاضل في الحوزة العلمية هي مواجهة الأمواج الفكرية و الاستعداد للتصدّي و المجابهة؛ و ليس من الضروري أن تكون هذه المجابهة بالكتابة و اعتلاء المنابر؛ و لكن من الضروري أن تقترن بالابداع و تنمية الفكر. و هذا بطبيعة الحال يحتاج إلى مقدّمات، و يأتي على رأسها بالدرجة الاولى المثابرة في الدراسة. فعلى الطلبة الشباب أن لا ينسوا بأنّ عليهم أن يدرسوا. فطالب العلوم الدينية إذا أراد أن يقف في وجه من ينسب إلى الدين كل ما يأتي على لسانه من رطب و يابس بفعل تأثير القراءات الدينية المختلفة، و إذا أراد هذا الطالب أن ينطق بكلمة الدين، فعليه أن يتحلّى بالمقدرة على معرفة سفسطته لكي يتمكّن من نقض تلك السفسطة و المغالطة. فالدخول إلى ساحة الأفكار الدينية يحتاج ـ مثل أي شيء آخر ـ إلى العلم و المعرفة بهذا العمل. هذا هو الشرط الأوّل. و طبعاً هناك شرط التقوى أيضاً. فهذا الطريق طريق التقوى. وهو طريق لا يجني فيه المرء شيئاً فيما لو جانب التقوى و تلوّثت أذياله بالدنس؛ بل تركس أقدامه في الوحل. واكتساب التقوى في الشباب أيسر بكثير من سنوات الشيخوخة. البعض يظنّ ان اكتساب التقوى في سن الشباب أمر مستصعب، و ان الانسان إذا شابَ لازمته التقوى بشكل طبيعي؛ إلا أنّ هذا الظن خاطئ. فمن لا يطاوع قلبه للحقيقة، و لا يفتح نافذة قلبه نحو نور المعرفة و العبودية، فمن الصعب عليه جداً أن يحقّق هذا العمل في طور ما بعد الشباب و في طور الشيخوخة. طالب العلوم الدينية إذا قام بهذا العمل في سنوات شبابه سيقطف و يذوق في طور الشيخوخة الثمار اليانعة لعمله. إنّ وقت التقوى هو طور الشباب. التقوى معناها الاجتناب و الحذر من التخطّي و تجاوز الحدود.
إن مسألة الدعوة واحدة من المسائل الأساسية في الحياة الاجتماعية، و لا تختص بعصر معيّن. إنّ الدعوة التي عبّر عنها القرآن بكلمات مثل «البلاغ» و «البيان»، و «التبيين»، و ما شابه ذلك، واحدة من الوظائف المقدّسة، و هي وظيفة الأنبياء، و العلماء، و المفكّرين، و المصلحين. الدعوة تعني الابلاغ. و لكن ابلاغ أي شي؟ ابلاغ تلك الحقائق إلى أذهان و قلوب المتلقّين، التي لولاها لمنوا بخسران. و هذا هو ما يسمو بقيمة الدعوة. إنّ الدعوة التي أمر بها الإسلام و بقي علماء الإسلام و رجال الدين الشيعة متمسّكين بالعمل بها على امتداد التاريخ، وظيفة ذات جانب إلهي من جهة ـ {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ و لاَ تَكْتُمُونَهُ}. و ذات جانب انساني من جهة أُخرى؛ لأنّها استنقاذ لقلوب و أذهان و اناس يفتقرون إلى العلم، أو مأخوذين بالشك و الجهالة. ينبغي النظر إلى هذه الوظيفة بهذا المنظار.
لقد أضحى علم الاتصالات اليوم علماً راقياً و في غاية التعقيد. و معرفة كيفية التواصل مع قلوب الناس و عقولهم بمختلف الطرق و الأساليب ـ و أعني هنا الدعوة ـ بحد ذاته علم.
يمكن بطبيعة الحال اخضاع أساليب التبليغ و هو عملية حصرية فريد من نوعها و شديدة التأثير ـ أي اعتلاء المنبر و مقابلة الناس وجهاً لوجه، و مجالس تفسير القرآن و بيان المسائل الدينية ـ يمكن اخضاع هذه الامور لضوابط معينة لكي تلتفت أذهان المبلغين لأهمية هذه القضية. إنّ طلبة العلوم الدينية يستخرجون مبدءاً أو فكرة إسلامية من الكتاب و السُنّة، ثمّ يعيدون صياغتها و ترتيبها ثمّ يضعونها على شبكة المعلومات (الانترنت)، أو يقدّمونها إلى الجامعات و إلى الاذاعة و التلفزيون. فهم يبحثون عن الثغرات ومناطق الفراغ، ليبادروا إلى ملئها بإبداعهم و حسن ذوقهم.
إذا أراد رجل الدين أنْ يعلم بما ينبغي عليه فعله، لابدّ أن يكون على معرفة بطبيعة مجتمعه ـ «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس» ـ و إن لم يكن كذلك، يجد ذاته قد تخلّف عن الركب. و من الطبيعي ان هذا الشأن له مقدّماته، و الاصلاح و تبيين الحوزة العلمية و مناهجها، كلّه مقدّمة من أجل أن يكون رجل الدين في موضعه المناسب من حيث الجانب الوظيفي، و ليعلم ما هي وظيفته؛ أي أن يظهر إلى الوجود ذلك الكيان الذي يتولّى اداء الأعمال و المسؤوليات التي كان يقوم بها رسول الله عليه و على آله الصلاة و السلام. يجب على رجل الدين أن يوجد هذه الخصائص في ذاته، و أن يتّصف بالوعي و اليقظة.
متلقّو خطاب الداعية الديني اليوم هم الشباب؛ و عليه ينبغي أن تتركّز الجهود؛ «عليك بالأحداث». و لكن لا ينبغي الإعراض عن غير الشباب. و ما فاض عن ذلك يصل إلى غير الشباب و يكفيهم. ينبغي أوّلاً معرفة ما الذي يريده الشباب، و ما الأسئلة و الاستفهامات التي تراود ذهنه. يجب أن تنصبَّ الجهود على المحتوى. و يجب معرفة التساؤلات التي تدور في أذهان الشباب من أجل أن تأتي الاجابة في موقعها، و إلاّ لربّما كانت هناك في ذهنه شبهات غير أن الخطيب فوق المنبر يتحدّث عن شيء آخر. و حين يجد الشباب ان كلام الخطيب لا يلامس ما في خلده، يعرض عنه و لا ينتبه إلى كلامه أصلاً. و لكن حين يجد أن الخطيب يستجلي ما يدور في خلده من تساؤلات و غوامض ثمّ يبددها و يزيحها، عند ذاك يجد في ذاته رغبة لحضور ذلك المجلس اليوم و غداً، و يكون حينها قد تأثّر بالكلام. إذاً ينبغي أوّلاً معرفة مشكلته و السؤال الذي يدور في خلده. و ثانياً يجب حتماً التحدّث بأسلوب علمي لمعالجة تلك المشكلة. هاتان الملاحظتان إذا أُخذَتا بنظر الاعتبار، فسيكون و سيبقى رجل الدين و الأوساط العلمية و الدينية في قمّة التأثير الدعوي العميق.
اليوم هناك سببان يدعوان إلى أن تكون الغالبية العظمى من المتلقّين الذين يُوجّه إليهم الخطاب من فوق المنابر، من الشباب؛ السبب الأوّل: إنَّ أعداء الدين يخطّطون منذ مدّة مديدة لاستهداف المتلقّين الشباب. فهم يحاولون عن طريق المذياع، و الكراسات، و الأساليب الأُخرى التي تنسجم مع طبيعة الشاب و مع شهوات شرائح من الشباب، لاستمالة قلوبهم و أفكارهم و الاستحواذ عليها و التحكّم فيها.
السبب الثاني: هو أنّ الشباب أرقّ قلباً و أسرع قبولاً؛ و ذلك لأن قلب الشاب نيّر. و قلوب الشباب لم تتلوّث بعد بقدر ما تلوّثت به قلوب أفراد من أمثالي ممّن تصرّمت أعمارهم، و لم تصبح قلوبهم بعد متمنّعة و عصيّة على التلقّي و القبول. فقلوبهم نيّرة؛ و يمكنهم بكل سهولة إدراك الحقيقة، و أن يأتوا للاستماع إليها و قبولها.
على رجال الدين اليوم أن يبيّنوا للناس من فوق منابر الخطابة ما يرسّخ معتقداتهم الدينية؛ غير أن بعض المعتقدات لا تتزعزع و لا يعتريها اضطراب. على من يريد توجيه المتلقّي صوب سبيل الهداية أن يدرك ما يعتور ذهنه من مواطن الخلل و نقاط الضعف. عليه أن يعرف تلك الأمواج التي تستهدف أذهان المتلقّين و ترمي إلى تخريبها، ليكون على علم بما يحتاج إليه الشباب لكي يلقيه إليهم. و ينبغي أن لا يكون الكلام بعيداً عمّا يدور في خلد المتلقّين من عشرات التساؤلات، و بدلاً من الاجابة عن تلك التساؤلات تراه يطرح على بساط البحث موضوعاً آخر لا يكون موضع تساؤل عند اولئك المتلقّين.
اليوم حيث يضخّون إلى أفكار شتّى الشرائح الاجتماعية ـ و الشباب منهم على وجه الخصوص ـ شبهات و تساؤلات و استفهامات مختلفة، يفترض بالخطيب و الداعية أن يعرف تلك الشبهات و ذلك الموج الهدّام و المفسد و المضرّ، ليعلم ما الداء الذي يريد معالجته، و ما الثغرة التي يريد سدّها.
اليوم، بالإضافة إلى ما ينبغي أن يُطرح من قضايا الإسلام العقائدية، و ترسيخ الايمان بالإسلام في العقول و القلوب، يجب أيضاً ترسيخ الاعتقاد بحكم الإسلام. و هذا ما كان يتطلّع إليه مسلمو العالم على مدى قرون متمادية و خاصّة كبار المفكّرين في القرن الأخير ـ ابتداءً بالسيّد جمال الدين الأسد آبادي إلى اقبال اللاهوري، و إلى أعلام الفكر و العلم، حيث كانوا يسعون إلى تحكيم دين الله استمراراً لطريق الأنبياء. اليوم هناك أيدٍ و ألسن، و كتابات، و أمواج دعائية ترمي إلى إثارة شكوك و تساؤلات حول هذا الأمر البيّن. و هذه العقيدة يجب ترسيخها في الأذهان. يجب أن يعلموا أن حكم الإسلام معناه بسط العدل و العلم و الإنصاف بين الناس. و هو الحكم الذي يمكن أن يُعنى بأبدان الناس، و بقلوبهم و أخلاقهم و يبني حياتهم الواقعية و حياتهم المعنوية و يعمّر دنياهم و آخرتهم. و هذا هو معنى حكم الدين.
بيان القضايا السياسية والاجتماعية في الدعوة :
الخطأ الذي ارتكبه من تخلّوا عن طرح القضايا السياسية في الدعوة في الماضي، هو أنّهم حصروا العبودية لله في الدائرة الفردية. و قد أخطأوا في فهم هذا الأمر و أخطأوا في التعاطي معه. نعم إن الهدف هو اجتذاب الناس نحو العبودية لله؛ غير أن العبودية هذه تغطّي دائرة واسعة من حياة الناس، و هذه الدائرة غير محصورة بالأعمال الفردية.
حين ينطبق معنى العبودية على عمل مجتمع بأسره، و على عمل عدد غفير من الناس، و على شعب بأكمله، سواء على عمله الاقتصادي، أم عمله السياسي، أم مواقفه السياسية، حينذاك يمكن بل و يجب أن تشمل دعوة الدعاة هذه القضايا و الامور.
يجب على الدعاة أن يطرحوا القضايا الأخلاقية، كما يجب عليهم أن يتحدّثوا عن الأخلاق السياسية أيضاً، و يتحدّثوا كذلك حول الجوانب الأخلاقية و المعنوية، ثمّ يقدّمون تحليلاً سياسياً. و يشرحوا عن العدو الباطني ـ و هو النفس الأمّارة بالسوء أو الشيطان الرجيم ـ و عليهم أيضاً أن يتحدّثوا عن الشيطان الاجتماعي ـ و هو الشيطان الأكبر أو الشياطين الآخرين ـ و أن يكشفوا أيضاً عن عملاء الشيطان و أذنابه. فإذا أصبح معنى العبودية لله شاملاً لهذا المعنى الذي يدعوه إلى اجتناب «أنداد الله» و التبرّي منهم، يجب علي المرء أن يتبرّأ من كلّ أشكالها. «أنداد الله» قد تكون تارة النفس الانسانية الخبيثة التي بين جنبيه «أعدا عدوّك نفسك التي بين جنبيك». و قد تكون تارة أُخرى الشيطان الذي جاء وصفه في أحد أدعية الصحيفة السجادية انه «الشيطان الذي جعلته في وجودي ومكنته مما لم تمكنّي منه»، و تارة أُخرى ينطبق هذا المعنى على الشياطين الكبار في المجال السياسي الذين يتربّصون لإضلال الشعوب و التسلّط عليها و سلب ثرواتها و النيل منها و دفعها نحو هاوية الجحيم. هؤلاء هم الذين جعلوا أنفسهم أنداداً لله. إنّ العبودية لله تستدعي نفي هؤلاء الأنداد.
من جملة الامور التي ينبغي أن تُقال للمتلقّين و خاصّة في ما يتعلّق بالشباب، و يُدعَوْن إليها، و يُوَجّهون نحوها، حثّهم على التفكير، و التعقّل، و التحلّي بالأخلاق الإسلامية، و الاتصاف بالحلم، و الابتعاد عن التسرّع و العجلة في الامور، و تحاشي الحدّة و ممارسة العنف. ففي الأجواء الإسلامية يمكن غرس الحقائق في أعماق القلوب حين تُتّبع لغة اللين، و السلوك المنطقي و المتعقّل و حينما يكون هناك حلم في التعامل.
الدعوة لها أركان أساسية ثلاثة و هي: الأوّل، الدافع إلى الدعوة؛ و الثاني، الهدف من وراء الدعوة؛ و الثالث، أدوات الدعوة و وسائلها و أساليبها.
الركن الأوّل: الدافع إلى الدعوة
يجب أن يكون الدافع وراء الدعوة الفكر، و العقل، و الإخلاص، و المعنوية. أي يجب أن تكون الدعوة مستمدة من مصدر نوارني. و امّا إذا جاءت الدعوة انطلاقاً من أهواء النفس، و بدوافع سقيمة، أو إذا جاءت بعيدة عن أساس العمل و مجرّدة عن منطلقاته، فلن يكون لها ذات التأثير الذي يأتي انطلاقاً من ذلك المصدر الفياض، و مستقىً من مصدر عزيز و ثَرًّ، و انّما ستكون بتراء و غير سليمة المصدر يجب أن يكون الفكر و التأمّل و التدبّر و الدراسة من جهة، و الإخلاص للمتلقّي و النصيحة له و محبّته من جهة أُخرى.
إذا دخل الداعية إلى الساحة بهذا الشعور و بهذه الدواعي الفكرية، فسيجتذب القلوب كالمغناطيس، و سيكون فعله كفعل قطرات الماء الزلال التي تؤثّر في أشدّ الصخور صلابة، و تنمّي الغرس في الأرض الخصبة.
الركن الثاني: الهدف من وراء الدعوة
يجب أن يكون الهدف من وراء الدعوة {صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} و هو {صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}، {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ}. هدف جميع الأنبياء استمالة الناس إلى الصراط المستقيم. و الصراط المستقيم معناه العبودية لله؛ {وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}.
يجب حث الناس على العبودية لله، و ذلك هو الصراط المستقيم. و هذه العبودية لها تطبيقاتها في مجال الأخلاق، و في مجال العمل الفردي و العمل الاجتماعي. و حين يصل الدور إلى بحث العمل الاجتماعي، ينبغي عند ذاك طرح البحوث السياسية، و التحليلات السياسية، و تسليط الأضواء على الشؤون السياسية.
الركن الثالث: اسلوب الدعوة ووسائلها وأساليبها :
هذه الآية الشريفة التي سبق ذكرها و هي: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} بيّنت اسلوب الدعوة. فالكلام الحكيم هو الكلام الرصين، و الذي لا شبهة فيه، و لا وهن و لا ضعف. الحكمة تنطوي على كلّ هذه المعاني. الكلام الحكيم هو ذلك الكلام الذي يتّصف بالحكمة؛ أي أن المُحكم على الضدّ من المتشابه؛ {بِالْحِكْمَةِ و الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ و جَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. الحوار، و النقاش، و مواجهة الأفكار، و توجيه الكلام إلى القلوب و الأفكار، و التحدّث بلسان مبين و اسلوب ودّي و أخوي. هذا طبعاً شيء في غاية الأهمية.
هناك فارق جوهري بين الدعوة في الوسط الشيعي و مِن قِبَل رجال الدين الشيعة و بين سواها من الدعوة في الأوساط الأُخرى، و هو أنّ الدعوة من قبل رجال الدين ليست وظيفة حكومية مقررة و مهمّة رسمية و جافّة، و إنّما فيها حوافز ذاتية، و منها الحوافز الإلهيّة و المعنوية، كما ان للذوق أيضاً تأثيره فيها. هذا من جانب نقاط قوّة الدعوة.
و في الوقت ذاته فإن جوهر العمل في أوساط رجال الدين الشيعة جوهر خاص. فالشعور بالتكليف الإلهي هو أكثر ما يدفعهم إلى الدعوة. و هذا لا يعني طبعاً انعدام الدوافع المادية تماماً، و لا يعني أنّ الدافع الإلهي يتنافى مع بعض الدوافع المادية لدى الداعي. المهم هو أن يقدم رجل دين بإرادته على الدعوة و إذا كان ذا إخلاص و تقرّب إلى الله و وعي بالمعطيات المعنوية للدعوة، لانفتح أمامه ميدان الدعوة إلى الله. هذه فرصة لا يستهان بها متاحة لرجال الدين الشيعة.
عطاء رجال الدين لتحقيق أهداف الإسلام و غايات الأنبياء :
لقد حافظ العلماء على الدين الإسلامي و معارفه و فقهه، و تفادوا وقوع تحريف في حقل الأحكام الإلهيّة و أضاءوا شعلة الايمان في قلوب الناس و جعلوها تواصل وهجها. و استقطبوا اهتمام الناس و استمالوهم نحو القرآن و نحو تعاليم أهل البيت (ع). فالعلماء هم الذين قارعوا الظلمة طيلة التاريخ، و كانوا ملاذاً للمظلومين و للشعوب الضعيفة و للناس المستضعفين. و العلماء هم الذين استثمروا ما حان من الفرص لنشر المعارف الإسلامية و ترسيخ الايمان الإسلامي و الروح الدينية لدى الناس في كلّ ارجاء البلاد الإسلامية، و تعريفهم بمحبّة أهل البيت (ع) و بسيرتهم. لقد عاش العلماء على نمط ما كان عليه الأنبياء و الأولياء.
السيف لم ينشر الإسلام في كلّ بقاع البلدان الإسلامية. فالسيف لا يغرس الايمان في القلوب. إنّ ما يمكن أن يُنبت زهرة الايمان في القلوب، الموعظة و تبيين الأحكام و المعارف الإلهيّة. إنّ الفكر الإسلامي حي اليوم بفضل الله في جميع ارجاء البلاد الإسلامية. و على مدى القرنين الأخيرين إذا كانت المشاعر التحررية قد استفاقت لدى الشعوب في مختلف البلدان، فإن سبب ذلك يُعزى إلى أن العلماء قد نجحوا في النهوض بدورهم و في قيادة الثورات.
إنّ ما استطاع في شرق العالم الإسلامي ـ أي في شبه القارة الهندية ـ و في غرب العالم الإسلامي ـ أي في أفريقيا ـ و في ما بينهما، أن يقطع أيدي المستعمرين و يحافظ على الثقافة الإسلامية، و يقف في وجه الثقافة الغازية، هو نفوذ العلماء. ففي إيران كانت ثورة التبغ و محاربة الاستعمار الأجنبي و استنهاض أبناء الامّة، و كذلك الحركة الدستورية (المشروطة)، و مقارعة الاستبداد الذي فرضه رضا خان، و استمرار هذه الانتفاضة إلى حين انبثاق الحركة الإسلامية الكبرى المقدّسة، كانت كلّها بزعامة العلماء و قيادتهم و ريادتهم، و إلاّ لما أحرزت ما أحرزته من نجاح. هذه مناقب مسطورة، و هذا تاريخ، لا يمكن أن ينكره إلا مغرض أو جاهل يلقي بكلام و يرمي من ورائه إلى اخفاء حقيقة.