من المسلّم به أنّ الإجتماع المدني يقوم على ضبط المصالح، خاصة المصالح الأساسية التي تؤكد هوية الوظيفة الإنسانية وبما يتقاطع مع غاياتها، ولا شك أن الأسرة هي نواة المجتمع، بل أساس وجوده وأدواره.
الشيخ أحمد قبلان - المفتي الجعفري الممتاز
من المسلّم به أنّ الإجتماع المدني يقوم على ضبط المصالح، خاصة المصالح الأساسية التي تؤكد هوية الوظيفة الإنسانية وبما يتقاطع مع غاياتها، ولا شك أن الأسرة هي نواة المجتمع، بل أساس وجوده وأدواره, وهذا يعني أنّ تكوين الأسرة وتمكينها من وظيفتها والأهداف المأخوذة بها يتوقف على المادّة القانونية التي ترعاها وتمكّنها من ذلك.
والمطروح الآن هو الزواج المدني كسلّة قانونيّة ترعى انعقاد الزواج والحقوق الزوجيّة، الماليّة والأدبيّة والجنسيّة ومجموع حقوق الشراكة التي تخصّ الأسرة بما في ذلك حقوق الأطفال والطلاق والحضانة والوصيّة والإرث والمحفظة الماليّة وما إليه ممّا هو من مجموعة الأحوال الشخصيّة وموضوعاتها وعين المفهوم المراد من الشراكة الأسرية وتوزيع المسؤوليات المختلفة.
ولا شك أنّ هذا المطلب من أعقد المطالب حساسيّة لما يترتب عليه من أثر اجتماعي خاص وعام، ولا أبالغ إن قلت بأنّ مادّة الأحوال الشخصيّة هي واحدة من أهم "أركان الأمن القومي المدني" بما في ذلك ركنيّتها من هيكل الإجتماع السياسي.
وما يهمّني هنا أن أؤكّد بأن مقولة "المساواة بين الزوجين" بالزواج المدني تعني بالضرورة مناصفة المسؤولية وتماثلها وهو غير موجود بل غير ممكن, ولو تمّ فهذا يعني ضياع ميزان العلاقة الزوجية وشرط استقرارها بسبب اختلاف المُؤهل للوظيفة والدور، فضلاً عن الأولاد، خاصة أن المطروح لا يتبنى أدوات قانونية ضامنة، ما يشكّل كارثة على مستوى آلية حفظ الأسرة وهو ممنوع بنظرنا أشد المنع، وعن فقرة انتظار مدة ما قبل الطلاق ثلاث سنوات أو أقل أو أكثر قبل أن يتقدم الزوجان بطلب الطلاق.؟! ومع إمكان "الهجر" وحق المساكنة الرديف.!! فهذا يعني إعدام الأسرة وتكوين عرفية جديدة مجهضة لا تلحظ مصلحة الأسرة بمقدار ما تلحظ عقدة منع الطلاق المطلق وهفوة تمدين فوضى الأسرة، وهذا غير موجود بالزواج الإسلامي ومن شأنه أن يشكل كارثة أسرية إن هو تمّ، وعن حل اختلاف الدينين مطلقا.؟!! يبدو أن من يعتقد بهذا الشرط يريد أن ينسف أساس الإستقرار الأولي للزيجات، ويمنع الشرط الديني الضروري من التأثير.. في حين التجارب عبر العالم أكدت أن الشرط الديني يشكل أرضية الزيجات المستقرة، ويكفي أن نقرأ البيانات الغربية في هذا المجال ليتأكد أن من يطالب بإلغاء الشرط الديني مطلقا لا يريد أن يقرأ، ومن يقرأ لا يريد أن يعتبر.!
والأخطر أن هذا الطرح يريد أن يفصل الإنسان بأخص خصوصياته عن القيم السماوية دون ضامن أرضي..!! وهذا ما دفع أكبر الحقوقيين في الغرب لأن يعيدوا التأكيد على أن فصل الدين عن الحياة الزوجية حوّلها إلى شركة مصادقة، سرعان ما تنهار مع أي اختبار وازن، وهو نفسه ما حوّل الزواج المدني في فرنسا والغرب إلى مادة ميتة لا حياة فيها لصالح عالم المساكنة المضطربة التي شكلت مادة الأسباب الأساسية لعدد المنتحرين.!! فهل يراد تصدير هذه الظاهرة إلى بلادنا.؟!!
وعن مبدأ تمكين الزوجة من الطلاق فهذا محلول عندنا لأن للزوجة أن تشترط على الزوج وكالتها عنه في تطليق نفسها، كما للحاكم الشرعي أن يفعل ذلك نزولا على الوصف الذي يخوله ذلك، بل لها أن تشترط ما شاءت في عقد الزواج، إلا ما يخالف الأحكام الملزمة..
واللافت جدّا أن النتائج المسحيّة أكدت أن التساوي المحض بهذا الحق شكّل سببا لانهيار عقود الزواج بسرعة رغم أن حجم الخلاف لم يكن بهذا الحد الذي من شأنه أن يهدم عقد الزواج.. وهذا ما دفع كثيراً من الخبراء لتقنين حق الطلاق، بعدما تبين أن التساوي المحض يشكّل خطراً أكبر على العائلة والأسرة وفق ميزان المنافع والضرورات.
وعن الإرث؟! فالأمر عندنا محسوم، لأنّ تحقيق المساواة بين الذكر والأنثى له أبواب تعويضيّة منها: الوصيّة أو الهبة المشروطة حال الحياة وما إلى ذلك من أبواب التّصرف المالي وما أكثرها.. وهي تعتبر تصرّفا تاماً يضبط مالية الذمة عند الزوجين ومتعلقاتها في الحياة والموت.
على أنّنا لو أردنا أن نعدد الأزمة البنيويَّة لهذا الطرح لطال بنا المقال، وبعيدا عن فقه الأديان.. التجربة الغربية خير مثال على ذلك لدرجة أن الفرنسيين أنفسهم أقرّوا بأن مشكلة الزواج المدني أعقد مما تصوره الآباء المؤسِّسون..!!
ويبقى على الطرح الحالي أن المساواة بين الزوجين بمعنى التّماثل تعني كارثة.!! ودون التماثل تعني إقراراً منهم بأزمة جهل في المطلب.!! وهذا ما قرأناه في مجموع الطّرح الذي يبدو منه أنه مجرد هروب جهتي!!
كما أنّ التجريد والأوصاف المحضة دليل آخر على أن "عزل الأسرة" عن حاضنتها يعني تحويل الأسرة إلى حقل تجارب مكرر، دلت التجارب الغربية على فشلها رغم أن الغرب حاول تأمين ما أمكن من هياكل حضانة قانونية.!!
مع أنّ "فقه الأسرة" يعني بناء "الهياكل الحاضنة"، قبل المادة القانونية لمنع تعطيل الأسرة أو تعطيل مفاعيل الزوجية، كالهجر أو انتظار سنوات لتقديم طلب الطلاق مع "حق الحياة الفردية" في هذه الفترة هو عين الأزمات القاتلة التي طالت الزواج المدني في الغرب، وبالأخص فرنسا..
على أننا تعلمنا أن "المشترع القانوني" في المدارس الوضعية يلحظ "العقل الجمعي والكثرة" كأساس لضبط "المصالح النوعية" فما باله في لبنان يجافيه..؟!! أم أن القضية تتقوعد هنا على طريقة الدعاية القانونية دون فهم حيثية الأساس المصلحي للمفادات القانونيّة..؟!!
ثمَّ ألا ترى أن "أساس القوننة" يعني تحصيل "السبب الترجيحي" للحائط النفعي الدائم كطريقة تضبط معنى المصالح الأسرية.؟!! فلماذا غاب هنا.؟!! أم أن لعبة السياسة الإرتجاليّة تقتضي تمرير بعض السُّموم القانونية كمخدر شعبوي.؟!!
أخيراً: فقه القانون الأسري يعني الإجابة عن معنى "الجامع الأسري": زوجاً وزوجة وأولاد فضلاً عن المتعلقات، وهذا يقتضي تبرير "ميزان المنافع" وفق منطق الأشياء ومحلها من الطبيعة والغايات المشتركة: وجوداً وتكويناً وأساسات توظيفيّة، وليس على قاعدة أن التجربة حلوة حتى لو جاءت النتائج مرّة..!!! فأنت تعلم أن هذا من العيب الأخلاقي والقانوني والسياسي أيضاً..
وفي الختام: إن أيّ تكوين فقهي أسري يحتاج إلى كلمة فاصلة على مستوى خبراء القضيّة الأسريّة، وبما يتفق مع الحاضن الأخلاقي، والوجودي، والدّيني.. وأيّ عزل لهذه المعاني سيعني نسفاً للأساس الذي يضبط ميزان "الأمن القومي الأسري"، والذي مِن شأنه أن يحوّل الأسرة اللبنانيّة إلى أرخبيل تتمزّقه أنياب الهواة السياسيين.. وهذا ما نرفضه بقوة بل نصرّ على رفضه..
وفي التّعقيب: أعتقد جازماً أنّ استنساخ هذا النّحو من صورة الزواج المدني المُسرطَن رغم موته السّريري في مهده يعني مزيداً من الأسباب "القاتلة" التي ستصيب الأسرة بالإندثار والإنهيار، وسط فوضى سياسيّة، وشلل قضائي، وأزمات معيشية تكاد تبتلع أسباب "الأمن الأسري".. ما يوجب علينا رفضه بكل صراحة، على أن أوّل معاني "ضمانة الذات" يفترض علينا أن نأخذ بأعناق البشر، نحو الله ليشكّل الدين أساس مفاتيح "الضامن الأسري"، وليس العكس..!!