والأخطر مما تقدم كله أن هناك تغييبا كلياً لدور الله عز وجل في تسيير الأمور وتغييراتها، بل تكاد تحس بالفعل أن زعيم السحرة الطيب "دامبلدور" هو الحكيم الوحيد المستبد في مملكة السحرة!!.. وفي ذلك قصد متعمد
تضرب بالعصا الحديدية الموقد الطيني المشع بنار الخشب المحترق فتتطاير شراراته علينا ونحن نرتجف مع رعد البرق في الخارج، فنكتم ضحكات تفلت منا أحياناً بعيداً عن مرأى جدتي التي تتابع سرد حكايتها :"الشاطر حسن ما كان يقبل الانهزام أبداً ولا التنازل عن الشرف والعرض.."
ما زال وجداني يحمل صوراً جميلة من التعابير الثقافية العفوية الدفينة التي كانت تشحذنا بها جدتي، وعندما كانت تتفوه بتعبير غير مفهوم بالنسبة إلينا، فلماّ نكن بعد نستطيع فك المعاني، كان جدي يردف بالشرح بكلماته البسيطة :"ما تقصده جدتكم أنه من المشين لنا كمسلمين أن نطيع الحاكم الظالم، فأياكم أن تطيعوا غدا رئيساً مثل هذا وإلا سيصيبكم مثل ما حدث لأهل هذه القرية"...
إنها قصص مستوحاة من قلب التراث العربي والإسلامي، الذي نادراً ما يقرأه جيل اليوم وهو بالتالي يحرم من متعة كبيرة تشعر الطفل بألفة مع اللغة وتشجعه على القراءة والمطالعة في ما بعد، ويأتي السؤال : لماذا لا يقدم أطفالنا على القراءة بشغف مثلما هو حادث في العديد من دول العالم؟. ويأتي هذا السؤال بمناسبة ما تشهده بريطانيا لا بل تقريباً كل دول العالم من إقبال شديد على قراءة مغامرات هاري بوتر وبلغتها الأصلية الإنكليزية للكاتبة البريطانية ج.ل. رولينج. فالنجاح المنقطع النظير لروايات "هاري بوتر" أعاد نبش تلك الشجون العربية من على رفوف المكتبات الجامدة...
قصص "بوتر" مستمدة من قصص السحر والخرافة :
فما السر في قصص هاري بوتر؟! ولماذا جذبت الملايين من الناس على اختلاف أعمارهم واختلاف مشاربهم الثقافية؟!. العامل الأول أنها أعادت سحر الخيال الخرافي والأسطوري مرة جديدة إلى الحياة بعدما كان يعتقد أن سحر هذا النوع من القصص قد جف إلى الأبد!!..ولكن كيف؟!..نشرت الكاتبة قصصها الخرافية بعد صدمة العالم وخصوصاً الغربي بأحداث الحادي عشر من أيلول العام 2001.
وكأن هذا العالم كان بحاجة إلى ما ينقله من مرارة الواقع إلى عذوبة الحلم وإبداع الخيال فيحققون معه ما كانوا يعجزون عن تحقيقه، ويرتادون معه ما لم يحلموا بارتياده من الأماكن. والأهم من ذلك هو سحق العدو المجهول، الذي يكون من الصعب اكتشافه أصلاً. ورغم أن هذا النمط من التأليف القصصي ليس بجديد تماماً، حيث تنحصر ببطل أسطوري يدافع عن قضية عادلة ضد خصم عنيد، ولكن ارتباطه هذه المرة بصبي مراهق يعطي انطباعاً بأن جيلاً جديداً سوف ينشأ على قيم مختلفة يحاول أن يحقق ما لم يحققه الأوائل..إنها ليست أقل من حلم الإنسانية الكبير والأزلي بإيجاد عالم مثالي ينتصر فيه الحق ويسود العدل ويموت الأشرار.. نعم هذا صحيح، ولكنّ نقاداً كثراً قرأوا النسخة الأصلية بالإنكليزية، وهي سلسلة مؤلفة من 11 جزءاً حتى اليوم، وسجلوا ملاحظات نقدية مهمة للغاية.
الأسطورة الهادفة عندنا "فاشية الأخلاق" عندهم:
أهم المأخذ النقدية، وإن استلهمت الأحداث الدرامية وتسلسلها الشيق والمثير من عالم "ألف ليلة وليلة"، إلا أنها قصدت انحرافاً حاداً، ففي الوقت الذي استخدمت في قصص "ألف ليلة وليلة" وغيرها عالم السحر والسحرة والجن والتعاويذ، وبالطبع هذا لا نحبذه أو نمدحه، ولكن فيها خيط هادف يسعى إلى تنمية فطرة الكمال الإنساني في بني البشر وتعود بهم إلى رحاب الإيمان ودوحة الدين، وتحثهم على الاعتماد على أنفسهم لابتكار عوالهم الخاصة والمتفردة بهم وتعلمهم أنه مهما بلغت قدرة السحر، يبقى الإيمان بالله وبالقدرات الذاتية هي الحل لمشاكلنا.
أما مع قصص هاري بوتر فقد كان الاتجاه مغايراً تماماً ولأهداف يمكننا أن نطلق عليها دون تردد صفة ترسيخ العنصرية وتمجيد الشعب المختار والاستقلال عن قدرة الله الجبار. فشخصية بطل السلسلة الصبي هاري بوتر مبنية على الجنس النقي والسلالة المميزة التي يتحدر منها، بالإضافة إلى مجتمع السحرة بوجه عام كفئة مميزة ذات قدرات خاصة تحصل عليها بحكم المولد وليس عن طريق اجتهاد أو عمل يعينه، ويعد هذا ترويجاً للقيم الفاشية، حيث تقوم فكرة القصة بداية على شخص وفئة مختارة chosen one وينسحب هذا التمييز تلقائياً على هاري بوتر بشكل خاص وكل فئة السحرة بشكل عام. كذلك لا يوجد في مدرسة السحر المتعالية على البشر العاديين سوى الجنس الأبيض المتسيد، فلا يوجد زنوج او هنود أو عرب أو لاتين أو غيرهم من الاجناس والاعراق بخلاف العرق الانجلو ساكسوني ذي الاصل البريطاني، كذلك لا يوجد في مدرسة السحر معوقون حركياً على سبيل المثال وهو ما يدعنا من جديد اتهام القصة بالفاشية وبالتركيز على عنصر مميز وتجاهل وجود العناصر الأخرى.
وأيضاً بسبب تركيب القصص العنصري فهي تتسم بعدم التسامح مع قيم العبودية بسبب التنظيم الاجتماعي في مدرسة السحر والذي يقنن الوضع المتدني للأجناس غير البشرية وهي في القصص أقزام الجان المعروفة في قصص أدب الأطفال House Elves حيث تؤكد القصص أن هذه الفئة مخصصة للخدمة وسعيدة بهذا التنظيم الاجتماعي ولا تسعى لتصحيحه أو تغييره لأنه ملائم لطبيعتها !! وما يثير العجب أن أحد أقزام الجان الطيب في الكتاب الثاني من القصة بعنوان "غرفة الأسرار" يمتلك من القدرات السحرية ما يفوق سيدة الشرير، وحتى قدرة البطل الأسطوري، وهو مع ذلك يستسلم لأوامر سيده بخوف وجزع ..إلى أن يحرره هاري بوتر من هذا الخوف، إنما يبقى عبداً سعيداً بانتقال "رسنه" إلى سيد طيب!!.. والأخطر مما تقدم كله أن هناك تغييبا كلياً لدور الله عز وجل في تسيير الأمور وتغييراتها، بل تكاد تحس بالفعل أن زعيم السحرة الطيب "دامبلدور" هو الحكيم الوحيد المستبد في مملكة السحرة!!.. وفي ذلك قصد متعمد إبعاد الطفل عن فطرة الإيمان بالخالق!!.
عالم ساقط وتجارة مربحة:
واللافت للنظر أنه رغم الفارق بين الظاهرة الفنية وجدواها المبدع إلا أنها جزء من ظواهر الرأسمالية المتعولمة الجشعة. فقد تحولت المؤلفة الانجليزية من أرملة تعيش على معونات الدولة إلى المرأة الأكثر ثراء في بريطانيا حالياً وتتعدى أرباحها السنوية من مبيعات الكتب والأفلام واستغلال علامة هاري بوتر نحو 48 مليون جنيه استرليني !! ..
وتحقق الشركات التجارية المتعاقدة معها أرباحاً خيالية في فروع صناعات لعب الأطفال كافة والبرامج الالكترونية التي تحمل ملامح قصص هاري بوتر.