ظلّت دمشق، طوال الشهرين الماضيين، تنتظر المعركة الكبرى الموعودة.
ناصر شرارة
ظلّت دمشق، طوال الشهرين الماضيين، تنتظر المعركة الكبرى الموعودة. كان تقدير طرفي الصراع أن من يكسبها يستوي على المقعد الأكثر تصدراً حول طاولة التسوية المتوقع نصبها بعد لقاء الرئيسين باراك أوباما وفلاديمير بوتين في حزيران المقبل. الجيش عمل على حماية دمشق عبر ما سمّي «الأسوار الأربعة»، ووضع «خطة الحرب الاستباقية» .
بداية الشهر الماضي كان السؤال في سوريا: من يسبق الآخر إلى البدء بإطلاق النار في معركة دمشق: المعارضة أم النظام؟ وكانت خطط كليهما مكشوفة. المعارضة لديها مجال حيوي وحيد للوصول إلى داخل نطاق العاصمة الإداري، من خلال اقتحام مسلحي بلدة جوبر لساحة العباسيين. أما النظام فهو مضطر، إذا ما قرر خوض حرب دمشق الاستباقية، أن يبدأ من نقطة السيطرة أو هزّ نقاط الارتكاز العسكرية الأساسية للمعارضة في جوبر البعيدة مسافة ٧٠٠ متر عن ساحة العباسيين، والتي «تتغذى» من دوما وحرستا الواقعتين إلى الأعلى منها، وداريا في الغوطة الغربية التي تغذي لوجستياً معاقل مهمة للمعارضة في المنطقة الجنوبية، انطلاقاً من اتصالها بها عبر بساتين كفرسوسة.
ولكن خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة، حاولت المعارضة ابتكار محور خارج خريطة الاشتباك التقليدي مع النظام بهدف كسب عنصر المفاجأة وتحقيق الخرق المطلوب استراتيجياً ودولياً لكسر الستاتيكو العسكري السائد في الميدان السوري. تمثلت هذه المحاولة بتنظيم المعارضة لمحاولة تسلل عبر «مجموعات نائمة» من حيّي برزة (بخاصة منطقة مساكن برزة) وركن الدين (مقطون بنسبة عالية من فلسطينيين وأكراد)، باتجاه جبل قاسيون المشرف على مدينة دمشق، الذي تتموضع فيه ترسانة صاروخية ومدفعية كبيرة للجيش السوري. وبحسب مصادر عسكرية، كان يمكن هذا التسلل أن يشكّل مفاجأة لولا ورود معلومات استخبارية للجيش السوري توقعته قبل حدوثه بأيام، ما ساعد على إحباطه.
الأسوار الأربعة
عملياً، تلحظ خطة الجيش السوري لحماية دمشق إمكانية حصول مفاجآت عسكرية، سواء من قبل المعارضة المسلحة أو حصول هجمات خارجية (الأطلسي وجهات أخرى). لذلك، أُحيطت العاصمة بنظام حماية تُطلَق عليه اصطلاحاً تسمية «الأسوار الأربعة». وهذه الأسوار من داخل العاصمة إلى خارجها باتجاه ريفها وخطوط تماس المواجهة، هي الآتية: سور الحرس الجمهوري ومهمته حماية جبل قاسيون، ثم خلفه سور الفرقة الرابعة الذي يقاتل مع الجيش الشعبي على تخوم العاصمة، أو ما يسمى «ريف دمشق اللصيق». السور الثالث هو الجيش الشعبي، أما السور الرابع، فيتألف من المخابرات العسكرية في عمق خطوط تماس ريف دمشق.
خطة الحرب الاستباقية
منذ نحو أكثر من خمسة عشر يوماً، أعطى النظام قيادة الجيش قرار بدء الحرب الاستباقية في منطقة دمشق. ودفعة واحدة انطلق الجيش في خوض حرب على أربع جبهات معاً، هي مجموع محاور جبهة دمشق وريفها. لكن خطة الجيش هذه المرة لا ترمي كالعادة إلى إبعاد المسلحين عن مناطق يسيطرون عليها في ريفي دمشق اللصيق والبعيد، بل تتكون من عملية إطباق شاملة، يُنجَز في إطارها هدف حماية دمشق، تنفيذ تكتيكات «تطويق مناطق سيطرة المسلحين» في ريفها. أما الهدف النهائي للخطة، فيتمثّل بأن يندفع الجيش على محاور المناطق الأربع لجبهة دمشق وريفها، بغية إنهاء الوجود المسلح منها، ولتلتقي كل وحداته خلال مدة زمنية معينة عند نقطة محددة في محور المنطقة الجنوبية، أي في مخيّم اليرموك ليكون هذا الأخير آخر موقعة عسكرية تترجم نصر الجيش السوري في معركة إنهاء كل الوجود المسلح للمعارضة في منطقة دمشق وريفها.
ما هي تفاصيل هذه الخطة؟
قبل بدء الحملة العسكرية الاستباقية الأخيرة للجيش السوري، كانت مجموعات المعارضة تتمركز في أربعة محاور حول العاصمة دمشق. المحور الأول: الغوطة الغربية ومركز الثقل فيها هو داريا. الثاني: الغوطة الشرقية. الثالث: المنطقة الجنوبية المشتملة على ضواحي التضامن والحجر الأسود والمخيمات الفلسطينية. والمحور الرابع: الزبداني ووادي برده والهامة.
محور الغوطة الغربية، حالياً، وكنتيجة لحملة الحرب الاستباقية في دمشق، سيطر الجيش السوري على داريا بنسبة تقول مصادره إنها ١٠٠ بالمئة. لم يعد يوجد في داريا مسلحون، وهذا الواقع أدى عملياً إلى شلّ رأس حربة المعارضة على هذه الجبهة باتجاه دمشق.
وبعد السيطرة على داريا، انتقل الجيش حالياً لمهاجمة المعضمية التي أصبحت الآن منطقة تماس الاشتباك بين الجيش والمعارضة على محور الغوطة الغربية.
على محور الغوطة الشرقية، ينفذ الجيش خطة عسكرية بالتعاون مع لجان شعبية عسكرية، غايتها ضرب طوق أمني يحاصر بداخله المسلحون المنتشرون في هذه المنطقة. وأدت فاعلية التطبيقات الميدانية الأولى لهذه الخطة إلى إتمام هذا الطوق، حيث أصبح الجيش السوري منتشراً الآن على طريق المطار والقرى المتاخمة له (حران العواميد، والنشابية، وعقربا...).
وضمن هذه الحملة أُنجز تطوران مهمان على هذا المحور. تمثل الأول بسيطرة الجيش على ما نسبته ٧٠ بالمئة من جوبر، والثاني سيطرته على منطقة المليحة.
يُعَدّ محور المنطقة الجنوبية الأخطر؛ لأنه الأقرب إلى النطاق الإداري للعاصمة دمشق. وأيضاً نظراً إلى كثرة وجود مقاتلي «جبهة النصرة» فيه، ولا سيما في المخيّمات (اليرموك بخاصة) والتضامن والحجر الأسود، وصولاً إلى بيت سحم.
ضمن الخطة الاستباقية، يجري التعامل مع المعاقل الأساسية في هذه المنطقة (الحجر الأسود والتضامن ومخيم اليرموك) بقصف «نوعي»، أي إنّ القصف يستهدف في توقيت محدد أمكنة توجد معلومات استخبارية بانعقاد اجتماعات لقادة المعارضة فيها أو لمواكبهم أثناء مرورها. لغاية الآن، لا يوجد تعامل عسكري بري مع معاقل المعارضة في هذا المحور، ما عدا اشتباكات كر وفر عند أطراف مخيمي فلسطين واليرموك.
ويُعَدّ مخيّم اليرموك التماس الأبرز للاشتباك في هذه المرحلة على محور المنطقة الجنوبية لدمشق. ويتكون المخيم جغرافياً من ثلاثة شوارع رئيسية: شارع الثلاثين وشارع فلسطين وفي الوسط وبينهما شارع اليرموك. وهذه الشوارع الثلاثة تنتهي من جهة عمقها المتصل مع ريف دمشق الجنوبي، عند منطقة التضامن المقطون من نازحين سوريين من هضبة الجولان.
والواقع الميداني في مخيّم اليرموك هو اليوم كالآتي: لا توجد سيطرة ميدانية لأي من الطرفين على شارع الثلاثين، في حين أنّ الجيش يسيطر على المساحة الممتدة من أول شارع اليرموك حتى ساحة «الريجة» الواقعة في وسطه تقريباً، والمسافة الباقية منه، جنوباً، باتجاه منطقة «التقدم» يسيطر عليها المسلحون. أما شارع فلسطين، فالوضع فيه من بدايته حتى «ساحة الطرابيش» تحت سيطرة الجيش، أما البقية منه حتى ببيلا فالسيطرة فيها للمسلحين.
يرسم هذا التموضع للطرفين في مخيم اليرموك معادلة عسكرية تجعل ساحة الطربوش في شارع فلسطين موازية لساحة الريجة في شارع اليرموك. وبموجب الخطة الاستباقية - بحسب مصادر عسكرية - لن يحين توقيت حسم الوضع في كل المخيم، وكل المنطقة الجنوبية إلا بعد الانتهاء من حسم المعركة في منطقة الغوطة الشرقية. ويكتفي الجيش في هذه المرحلة بحصار كل منطقة وجود المسلحين في محور المنطقة الجنوبي.
المعارك الأشرس
على المحور الرابع المتشكل جغرافياً من الزبداني ووادي بردة والهامة، هناك وجود للمسلحين في مناطقه، ولكنه ليس على شكل تموضع قوي. بمعنى أنه لا توجد لهم في هذه المنطقة معاقل قوية، كما كانت الحال في داريا بالنسبة إلى محور الغوطة الغربية مثلاً. النسبة الأكبر من مقاتلي المعارضة فيه منقادون من «جبهة النصرة». وتكثر فيه أيضاً نسبة المقاتلين الأجانب. ويشهد هذا المحور معارك ضارية منذ أكثر من شهر، رغم أن سياسة التعتيم الإعلامي على أحداثه سارية بتوجيه من مراكز إدارة إعلام المعارضة الموجودة في الخارج. وتبرير ذلك أن هذا المحور يشهد دائماً انتكاسات عسكرية للمعارضة من الصعب تمويهها، حسبما تقول مصادر النظام.
يجري التعامل عسكرياً مع هذا المحور، الذي تكثر فيه المسالك الجبلية الوعرة، بكثافة نيران وشن هجمات برية متلاحقة. وفي الحملة الأخيرة عليه ضمن فعاليات الخطة الاستباقية، تكثف القتال في وادي برده والزبداني، وذلك بهدف تحقيق الأهداف الرئيسية الآتية:
- الأول، قطع كل طرق الإمداد على مناطق وجود المسلحين.
- الثاني، قطع مسالك التهريب بين هذه المنطقة والمناطق اللبنانية المقابلة لها.
ويعتبر الجيش السوري أنّ الحسم على هذه الجبهة المتسمة بالشراسة تتحكم به نفس معادلة الحسم في شمال سوريا التي بضمنها حلب وريفها: فالأولى شرط الحسم فيها فصلها عن عمقها اللوجستي اللبناني والثانية فصلها عن عمقها اللوجستي التركي. وخلال الأيام الماضية تكثفت عمليات الجيش السوري لإخراج المسلحين من نقاط وجودهم المتفرقة، وتحت ضغط القصف والمداهمات انسحبت أعداد كبيرة منهم باتجاه مناطق متاخمة للحدود اللبنانية. وكان متوقعاً أن تقرّر «جبهة النصرة» نقل معركة طردها من معاقلها في منطقة الزبداني إلى داخل الأراضي اللبنانية وذلك حتى تتحاشى الحصار، عبر التعامل مع المجال اللبناني المجاور كما تتعامل منطقة أعزاز مع المجال التركي المحاذي. وثانيها حتى يمكن تقديم إمكانية إعلامية لدوائر المعارضة الخارجية كي تفتح حرباً إعلامية لتغطية معركة الزبداني عبر القول إنها معركة مع حزب الله بدعوى أنه ينخرط بالقتال على هذه الجبهة.
وتحذّر مصادر عسكرية وسياسية سورية من أن يتبرع أحد في الدولة اللبنانية بالقيام بإعطاء أوراق إعلامية للمعارضة في معركة الزبداني، وذلك عبر طرح هذه القضية بوصفها نزاعاً بين الجيش السوري ولبنان، لأنه لن يكون هناك تفسير لهذا التصرف سوى الانخراط في جهد انقاذ «جبهة النصرة» من حصارها المحتم في هذه المنطقة، وأيضاً خلق معطى يؤدي إلى جعل شمال لبنان وبخاصة القطاع الشرقي من الحدود اللبنانية السورية، له نفس ميزات الحدود التركية السورية.
تكشف المصادر عينها أنّه قبل أيام لجأت المعارضة المسلحة إلى عملية إنقاذ لوضعها على محور منطقة الزبداني عندما حاولت مجموعات مسلحة منها الاستيلاء على موقع الجبهة الشعبية - القيادة العامة في قوسايا، ولكن تمّ إفشال هذا الهجوم الذي استمر لساعات. وكان الهدف منه السيطرة على منطقة مطلة على خط المصنع اللبناني باتجاه بيروت ودمشق.
مسارات الإطباق
إنّ التصوّر النهائي لخطة معركة دمشق الدائرة حالياً - بحسب مصادر مقرّبة من الجيش السوري - يرسم مسالك الإطباق التي ستسلكها حملة الجيش النظامي في المرحلة الأخيرة من حسم معركة دمشق.
وهذه المسلك هي الآتية: الجيش السوري بعد داريا انتقل إلى المعضمية، بعدها سيتوجّه إلى قطنا حيث توجد مجموعات قليلة للمسلحين المعارضين، ثمّ يخطّط الجيش للانتقال من المعضمية إلى المنطقة الواقعة على يمين طريق المتحلّق الجنوبي، حيث بساتين كل من كفرسوسة واللوان، اللتين تُطلَق منهما قذائف الهاون على العاصمة.
من كفرسوسة واللوان ينتقل الهجوم إلى أحياء القدم، ويصبح الجيش بشارع الثلاثين في مخيّم اليرموك، حيث يتّصل مع قوته الموجودة حالياً في الجزء الأول من هذا الشارع، ومنها يستكمل الهجوم على الحجر الأسود والتضامن، فيما يبقى المخيّم للجان الشعبية، لأن القرار السوري هو بعدم دخوله إلى تلك المنطقة.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه