جنّ الليل , نامت العيون , وهدأت الأبصار , وجاء في جوف الليل نفرٌ قليل من الهاشميِّين ومن المحبّين الذين وقفوا مع علي (عليه السّلام) , فشيّعوها, ثمّ دفنها أمير المؤمنين (عليه السّلام) في مثواها الأخير
إنه اسم عظيم ومقدس، ارتبطت به العظمة والقداسة منذ أن ارتبط هذا الإسم بشخصية هذه السيدة الطاهرة بنت رسول الله ورحمة للعالمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقدسيتها عليها السلام ذاتية، نابعة من أعماق كيانها النوراني الذي فطرها الله عليها، وعجنها بها حتى تأهلت لذلك أن تنال وسام سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين من أبينا آدم عليه السلام إلى قيام يوم الدين.
فهي سلام الله عليها بهرت العقول والألباب، وخسأت الأنظار والأبصار عندما أرادت أن تتطلع على عظمتها، وترنو إلى جلالها، لتعرف من هي فاطمة الزهراء عليها السلام، فإنه لا أحد يعلم من هي إلا ربها وأبوها وبعلها وبنوها الأئمة الأطهار عليهم السلام. يكفيها فخراً قوله تبارك وتعالى لوالدها:
(يا محمد لولاك لما خلقت الأفلاك.. ولولا علي لما خلقتك.. ولولا فاطمة لما خلقتكما)
زَهْــرَاءُ يا اُنـسَ الوجُودِ ورُوحِهِ
غَـنّـتْـكِ أسْـرَابُ البَـهـاءِ تعـلُّـقا
وتلمْلمَتْ زُمَرُ الحُروفِ لتَحْتفي
في يَــومِ ميـلادِ البـتـولِ تنمُّـقا
لتُغـرِّدَ اللحـنَ الرّخـيمِ بمحفلٍ
جُمِعتْ بها الأنوارُ عندَ المُلتقى
هي عنصرٌ تكويني من ألطافها
نبتَ الوجودُ وأينعت فيه البقاء
هي اُمُ كلُ الكائناتِ لفضلها
سجدتْ طخومُ الشاهقاتِ ترققا
هي فاطمُ زهراءُ حسبها
أنها حوتْ النبوةَ والولاية مرفقا
وهي الرضية ما باهل الهادي
بها سادت نساء العالمين تسامقا
هي الكوكبُ الدّري.. والكوثرُ الفيّاضُ... تزهرُ لأهل السماء كما تزهرُ النجومُ لأهل الأرض
يغضب الله لغضبها... ويرضى لرضاها إنها سيدة نساء العالمين...
إنها فاطمة الزهـراء....
وصية الزهراء (عليها السّلام)
لما دنت من الزهراء (عليها السّلام) الوفاةُ أوصت أمير المؤمنين (عليه السّلام) بوصايا كثيرة , منها : (( ... واُوصيك إذا قضيت نحبي ؛ فغسلني , ولا تكشف عني ؛ فإني طاهرة مطهّرة , وحنطني بفاضل حنوط أبي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , وصلِّ عليَّ , وليصلِّ معك الأدنى فالأدنى من أهل بيتي , وادفني ليلاً لا نهاراً إذا هدأت العيون ونامت الأبصار , وسرّاً لا جهاراً , وعفِ موضع قبري , ولا تشهد جنازتي أحداً ممّن ظلمني )) .
لقد أرادت الزهراء (عليها السّلام) مواصلة الجهاد بعد مماتها , فكانت وصيتها الإعلان الأخير لموقفها الصامد والمستمر , من استشهاد الرسول (صلّى الله عليه وآله) وحتّى مرضها , وتريده باقياً إلى ما شاء الله .
في لحظاتها الأخيرة طلبت ثياباً جديدة , ثمّ دعت سلمى امرأة أبي رافع وقالت لها : (( هيِّئي لي ماءً )) . وطلبت منها أن تسكب لها الماء وهي تغتسل . ثمّ لبست ملابسها الجديدة , وأمرت أن يُقدّم سريرها إلى وسط البيت , واستلقت عليه مستقبلة القبلة , وقالت : (( إنّي مقبوضة الآن فلا يكشفني أحد )) .
تقول أسماء بنت عميس : لمّا دخلت فاطمة (عليها السّلام) البيت انتظرتها هنيئة , ثمَّ ناديتها فلم تجب , فناديت : يا بنت محمّد المصطفى , ... فلم تجب , فدخلت البيت وكشفت الرداء عنها فإذا بها قد قضت نحبها شهيدة صابرة , مظلومة محتسبة ما بين المغرب والعشاء .وكثر الصراخ في المدينة على ابنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , واجتمع الناس ينتظرون خروج الجنازة , فخرج إليهم أبو ذر وقال : انصرفوا ؛ إنّ ابنة رسول الله اُخّر إخراجها هذه العشية .
وجاءت أهم اللحظات , لحظة تنفيذ بند الوصية المهم , ذلك البند الذي سيظل شاهداً على موقف الزهراء (عليها السّلام) إلى القيامة , إنها لحظات الدفن التي يجب أن تكون سراً , وقبلها الصلاة على الجنازة الذي كان محدداً فيها ألاّ يكون فيه شخص ممّن ظلم الزهراء (عليها السّلام) هكذا كانت الوصية .
جنّ الليل , نامت العيون , وهدأت الأبصار , وجاء في جوف الليل نفرٌ قليل من الهاشميِّين ومن المحبّين الذين وقفوا مع علي (عليه السّلام) , فشيّعوها , ثمّ دفنها أمير المؤمنين (عليه السّلام) في مثواها الأخير .
واُسدل الستار على أوّل محطة سقطت الاُمّة في امتحانها ، وغادرت الزهراء (عليها السّلام) مشتاقة للقاء ربِّها وأبيها , ذهبت وهي تحمل جراحات مثخنة وآلاماً عظاماً , انتقلت لتشكو إلى الله سبحانه وتعالى ليحكم لها على مَن ظلمها وغصب حقّها .
فسلام عليها يوم ولدتْ ويوم استُشهدتْ ويوم تُبعث راضيةً مرضية .