فعبارة المواطنين"التي ترتكز عليها الديمقراطية الحديثة لا وجود لها في الإسلام. والعبارة التي تملأ المجتمع الإسلامي هي عبارة "المؤمنين" بالإسلام
في أربعة أجزاء متتالية، يقدم الدكتور والبروفيسور الإيراني علي أكبر ولايتي، موسوعة شاملة تبحث في تاريخ العلاقة بين الدين الإسلامي وبلاد فارس في كتابين حملا عنوانا واحدا "موسوعة الإسلام وإيران: ديناميكية الثقافة وحيوية الحضارة". قبل الغوص في الحديث عن الموسوعة يجدر بنا تقديم فكرة مختصرة عن تاريخ الكاتب. وهو رجل جمع بين العلم والفكر والسياسة.
من هو الدكتور ولايتي :
فقد عمل بروفيسورا متخصصاً في الطب ووزيراً للخارجية ومؤلفاً للكتب الثقافية. وسيرته الذاتية تؤكد أنه كان في آن واحد كاتبا في التاريخ وباحثا في الطب ومسؤولا للسياسة الخارجية لبلده في أصعب الظروف. وهو من مواليد طهران في العام 1945. وأستاذ في كلية الطب في جامعة طهران منذ العام 1974. وتقلد منصب وزيرا للخارجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية ستة عشر عاما من 1981 إلى غاية العام 1997.
له الكثير من المقالات العلمية المنشورة في المجلات المتخصصة. ويشغل حاليا موقع مستشار سماحة السيد علي الخامنئي (حفظه المولى) للعلاقات الدولية. وهو عضو في مجمع تشخيص مصلحة النظام، وعضو في المجلس الأعلى للثورة الثقافية، إضافة إلى مسؤولياته العلمية والثقافية الأخرى.
الحضارة الإسلامية كانت منتشرة في العالم :
يقول الدكتور ولايتي في مقدمة الجزأين الأول والثاني أنه بصفته مسلما إيرانيا كان ينتابه هاجس الهوية الثقافية والحضارية للإسلام وإيران، ولذلك كان ينطلق بشوق إلى أية جهة يحتمل أن يجد ضالته فيها، حتى أدرك تدريجيا مدى الظلم العظيم الذي "لحق بأمتنا وشعبنا وثقافتنا وحضارتنا بفعل سوء نية الأجانب وتكاسلنا. فالأجانب أنكروا من جانب فضائل المسلمين، والمسلمون تساهلوا من جانب أخر في كتابة وعرض إنجازاتهم ومكتسباتهم العلمية والثقافية، فانتشر بالنتيجة هذا الخطأ العالمي حتى بين المسلمين، وهو أن الغربيين يتفوقون على غيرهم في الخلقة ويتميزون بذكاء استثنائي لا نظير له بين الأمم الأخرى بما فيها الأمة الإسلامية".
هذا الكتاب نتيجة جهد طويل وعلى أساس تفكير عميق قسم فيها المراحل التاريخية إلى عشرة تحدثت عن تاريخ الإسلام من مكة المكرمة بدعوة الرسول الأكرم محمد (ص) وهذه بداية الحركة في تاريخ الثقافة والحضارة الإسلاميتين، وفي المرحلة الثانية تبلورت هذه الحركة في تاريخ الإنسان المسلم وفي المرحلة الثالثة انتشار الإسلام في جهتين، في الجزيرة العربية وفي العالم المتحضر أنذاك مثل بلاد ما بين النهرين وإيران وغيرها. والمرحلة الرابعة هي عبارة عن مجاورة الثقافة والحضارة الفتية الإسلامية للحضارات العالمية القديمة، والسعي لمعرفة تلك الحضارات ونقلها إلى عالم الحضارة الإسلامية.
وفي المرحلة الخامسة عصر إزدهار الحضارة الإسلامية الذي بدأ منذ القرن الثالث واستمر حتى القرن الخامس الهجري. في المرحلتين السادسة والسابعة تطورت فيه الحضارة الإسلامية في الأدب وفن العمارة والخط والرسم والترجمة، بينما كانت المرحلة التاسعة عنوان الغزوان الكبيران الطويلان الصليبي والمغولي من غرب وشرق العالم الإسلامي، وما خلفا من أثار ونتائج وخيمة على الأمة استنزفا طاقات المسلمين وأشاعا الخرائب والدمار. وفي المرحلة التاسعة كان عصر التجديد الأول لحياة العالم الإسلامي. فالهزيمة التي لحقت بالصليبيين في الشام وفلسطين في 1187م والمغول في عين جالوت على يد مماليك مصر (1260) خلقت محيطا أمنا في الشام والروم وشمال أفريقيا استطاع الحفاظ على كثير من التراث العلمي والثقافي المتبقي.
أما الغزو الاستعماري كان في المرحلة العاشرة وبدء عهد الجمود الثاني، حيث سعت بلدان قوية في أوروبا إلى غزو بلدان العالم الإسلامي. ولا ينسى الدكتور ولايتي هنا الإشارة إلى الغزو الغربي الثاني الذي حمل عنوان الحروب الصليبية الثانية والذي يعد أعقد من الغزو الأول. ففي هذه المرة استهدفت تغيير الثقافة الإسلامية وتدمير عقيدة المسلمين وسائر الأمم التي أخضعوها لسيطرتهم.
الجزء الأول من الموسوعة (1/2) يشمل أربعة أبواب رئيسية موزعة على فصول عدة تتمحور حول علمي التفسير والحديث والفقه والأصول عند الشيعة والسنة، والتصوف والعرفان، بينما الباب الثاني يتحدث عن المؤسسات الإدراية والاجتماعية في الحضارة الإسلامية، والباب الثالث يختص بالفن في الحضارة الإسلامية، أما الباب الأخير يتوقف عند تأثير الحضارة الإسلامية على الحضارة الغربية. وبدورنا نتوقف هنا لنظهر أهمية ما تدلي به الموسوعة في هذا القسم، حيث يبرز الدكتور ولايتي الأثار الإيجابية الهائلة للحروب الصليبية ونقل ثقافة الإسلام ومعارفه وعلومه إلى أوروبا. وما لها من تأثير على تطور وازدهار العلوم والحضارة والآداب الأوروبية حتى أن بعض الكلمات العربية لازالت مستعملة في اللغات الغربية. كما لا ينبغي نسيان علاقات الدول الغربية بأسبانيا وصقلية، ولا تجاهل احتكاكها بعالم الإسلام على مدى قرون في شرق وغرب السويس.
الاستعمار وانواعه :
في الجزء الثاني من الموسوعة(3/4)، التي تتوزع على ثلاثة أبواب تحمل فصول متعددة، تتمحور حول الاستعمار وأنواعه، ودخوله إلى العالم الإسلامي، وظهور الصهيونية وانتشارها، وأهداف الاستشراق. يتناول الباب الثاني الصحوة الإسلامية خلال قرنين، في العالم العربي وإيران وتركيا وأفغانستان، وأسيا الوسطى وفي جنوبي شرقي آسيا. أما الباب الثالث يتخصص في نقد الحضارة الغربية. في فصل محدد يتعرض الدكتور ولايتي إلى الإسلام والديموقراطية ويبين إذا كان هناك ثمة تعارض. ويعرض كيف تدعي الولايات المتحدة الديمقراطية وكيف تمارسها فعلاً بحق شعبها. في قراءته للإسلام والديمقراطية يعرض كيف تلتقي الديمقراطية الإسلامية مع الديمقراطية الحديثة في بعض الوجوه. لكنها تختلف عنها في وجوه أخرى عديدة. ففي وجوه التوافق: إن الإسلام، الذي جاء في القرن السابع الميلادي، كان رائداً من روّاد الفكرة الديمقراطية.
وقد كان العالم العربي بحق المهد الأصيل لهذه الديمقراطية. لقد نادى الإسلام بالحرية والمساواة والعدل كما نادت الديمقراطية الحديثة بهذه المبادئ أيضاً. وإذا كان "روسّو" قال في القرن الثامن عشر أن الأفراد يولدون ويعيشون أحراراً، فقد قال قبله بكثير الإمام علي (ع):"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً". وإذا كانت الثورة الفرنسية نادت بالمساواة والحرية، فقد جاء الإسلام يساوي الناس فيما بينهم دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو اللغة. كما جاء محترماً للعقائد الدينية الأخرى، معتبراً أنه "لا إكراه في الدين". ودعا إلى التسامح في الحوار الديني. وأباح حرية الحوار والجدل والتعليم تماماً كما نادت الديمقراطية الحديثة في القرن الثامن عشر وفي القرون اللاحقة. وإذا كانت الديمقراطية الحديثة تؤكّد المساواة أمام القانون فإن الإسلام قد سبقها في إقرار المساواة أمام التكاليف العامة حرصاً على مصلحة الجماعة الإسلامية. وحدد واجب توزيع موارد الدولة على الفقراء والمساكين وغيرهم من المحتاجين، وألزم الغنيّ مساعدة الفقير، وأدخل المبادئ الاشتراكية والعدالة الاجتماعية قبل أن تتعرّف الديمقراطية الحديثة إلى تلك المبادئ.
الحاكم يستمد سلطاته من الأمة :
وإذا نادت الديمقراطية الحديثة بالعدالة فقد سبقها الإسلام إلى ذلك. والعدل في الإسلام عدل مطلق يطبق على الذات وعلى ذوي القربى. وإذا كان "روسّو" وضع نظريته القائلة بأن الحاكم يستمد سلطاته من الأمة نائباً عنها نتيجة عقد حرّ بينهما، فقد أدرك فقهاء الإسلام قبل "روسّو" أن مبايعة الخليفة هي عقد حقيقي يربط الأمة بالحاكم ربطاً متيناً. أما في وجوه الاختلاف يبين الدكتور ولايتي أنه إذا كانت الديمقراطية الحديثة تعني حكم الشعب بواسطة الشعب ولأجل الشعب، أي أنها تعطي المرتكز الأساسي للسيادة في الدولة للشعب وللأمة القائمة ضمن حدود جغرافية وقومية، فإن للأمة في الإسلام مفهوماً أعمّ واشمل. فالأمة الإسلامية هي مجموعة المؤمنين الذين اتخذوا الإسلام ديناً لهم. والإسلام هو الجنسية التي يحملها كل مسلم. فعبارة المواطنين"التي ترتكز عليها الديمقراطية الحديثة لا وجود لها في الإسلام. والعبارة التي تملأ المجتمع الإسلامي هي عبارة "المؤمنين" بالإسلام. ذلك لأن الإسلام جاء عالمياً فلا تحده حدود قومية أو جغرافية. وقد جاء في القرآن الكريم:"وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً".
ونلاحظ أن أهداف الديمقراطية الحديثة هي أهداف دنيوية تسعى إلى إسعاد جماعة الناس المقيمة في إقليم محدد وفي إطار قومي. أما الديمقراطية الإسلامية فتهدف إلى تحقيق غايات زمنية وروحية في آن معاً. وهي في مداها تتجاوز الحدود الجغرافية والعنصرية. والغاية القصوى التي يهدف إليها الإسلام هي الآخرة. وما الحياة الدنيا سوى مطية لهذه الآخرة. وإذا كانت الديمقراطية الحديثة تحدد مدة زمنية معينة لتولي الحكّام وظائفهم، فالإسلام لا يعرف فكرة التحديد الزمني لولاية الحكام. فمتى تمت المبايعة لخليفة أو إمام بقيت الرئاسة له ما زال متمماً لشروط الولاية. فمدة الولاية تحددها الصفات الذاتية التي فيه. وقد يبقى الخليفة أو الإمام طوال حياته متمتعاً بالولاية. أما الديمقراطية الحديثة فلا تعرف حاكماً فعلياً للشعب يحكمه مدى الحياة. وتقوم الديمقراطية على مبدأ العلمانية وفصل الدين عن الدولة، أما الإسلام فقد جاء ديناً ودولة في آن معاً.
ولا يمكن للديمقراطية الحديثة أن تعيش في مجتمع لا يؤمن بضرورة هذا الفصل. ذلك بأن الغرب لم يحقق ديمقراطيته إلا بعد أن تخلّص من نفوذ رجال الكنيسة وبعد أن أصبح "ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، وبعد أن تقوقع الباباوات في الفاتيكان والمطارنة والقسس في أديرتهم.