نسمع كثيراً مقولة"التاريخ يعيد نفسه" فإذا عدنا إلى الوراء في تاريخ بلدنا لبنان، هل نكتشف حقيقة هذه الرؤية؟!! لبنان اليوم شبيه بلبنان الأمس ..هو بلد الطوائف المحسوب كل منها على دولة أجنبية ترعى مصالحها
نستعرض في هذا المقال كتابين رائعين في االمنهج والعرض والتحليل، وإن كنا نسجل عليهما بعض الملاحظات المنهجية حول رؤية خلفية الحدث ومحركيها. الأول يعود للعام 1967، والثاني للعام 2008. وما بين هذين التاريخين أحداث فاتت الأول، والثاني عايش الحرب الأهلية واتفاق الطائف.. فكان هذان الكتابان يرويان فصولا من تاريخ لبنان "الطائفي"..
"تاريخ لبنان الحديث" - كمال صليبي
قيل عنه أن ما يتميز به من .."الموضوعية المدهشة التي يروي فيها المؤلف وقائع ما زال ذكرها يثير شعور مواطنيه. فهو لا يتهرب من المسائل الحساسة، بل يعالجها بتجرد يجعلها خالية من أي أذى. والكتاب ليس استعراضا رائعا لتاريخ بلد مهم رغم صغره فحسب، بل هو أيضا شهادة على أن اللبنانيين بدأوا يتفهمون واقع تاريخهم". نشر هذا الكتاب " تاريخ لبنان الحديث" للمؤرخ اللبناني كمال صليبي، الصادر عن دار النهار، في العام 1967، وما زالت تتكرر طبعاته حتى وصلت إلى العدد العاشر في العام 2008.
فقد عرف هذا الكتاب نجاحا منقطع النظير. فحين صدر للمرة الأولى توالت شهادات فيه من المؤرخين واللبنانيين والعرب والأجانب تمتدح موضوعيته وعمقه وبساطته. وقد عرف الصليبي كيف يروي في منهجية المؤرخ العلمي، الوقائع التي شهدها لبنان منذ أوائل القرن السابع عشر حتى لبنان الكبير مروراً بالأمارة الشهابية والقائمقاميتين وأعوام الفتنة وحكومة جبل لبنان. وعالج الصليبي التاريخ الحديث للبنان بموضوعية ووعي عميق بالروحية اللبنانية من دون أن يتهرب من الحقائق المثيرة والأليمة التي عرفها لبنان. وهو لا ينسى في الوقت نفسه أن يعرج على التاريخ القديم إلى أيام الحروب الصليبية ليبين كيف أن المسيحيين، الموارنة تحديدا، تعاملوا مع الصلبيين ضد أبناء بلادهم المسلمين، وكيف مزقت الدول الأجنبية، الاستعمارية منها خاصة فرنسا، أواصر الإمبراطورية العثمانية.
فقد حاولت الأكثرية المسيحية في جبل لبنان، بين 1840 و1860، أن تجعل من ذلك القطر وطنا قوميا مسيحيا، بمساعدة فرنسا وغيرها من الدول الكاثوليكية، فأثارت هذه المحاولة ردة فعل عنيفة عند الدروز أدت، أخر الأمر، إلى مذابح العام 1860. وهنا يكشف المؤرخ عملية التزوير التاريخية التي حاولت الدول الأوروبية إلصاقها بالإمبراطورية العثمانية واتهامها بأنها هي من قام بهذه المذابح البشعة.
يبين المؤرخ كيف تدرجت حدود لبنان وتغيرت عدة مرات بفعل الضغوط الأجنبية، فمن ولاية طرابلس وصيدا إلى ولاية بيروت، إلى متصرفية جبل لبنان، حيث الحاكم مسيحي غير لبناني وذلك رغبة من الدول الأوروبية من ذلك إلى الوصول إلى دولة لبنان الكبير. هذه التقسيمات وهذه المتصرفيات أتت بعائلات وأمراء لبنانيين من المعنيين إلى الشهابين، حيث كانت العائلات المسيحية والدرزية والمسلمة لا صولات وجولات فيما بينها من الخلافات والوفاق، الازدهار والتقهقر وكل مرة كان "الحكم العثماني" والدول الأوروبية هم من ينمون الفرقة والخلاف بين اللبنانيين حتى كان إعلان دولة لبنان الكبير ومن بعدها الاستقلال حيث أرست الدولة والحكومة اللبنانية دستور لبنان الجديد. ولما كان لبنان، كوحدة تاريخية، مجموعة من الطوائف المتآلفة ضمن إطار سياسي واحد، فقد آثر أن ينطلق من روايته لتاريخ لبنان من هذا الواقع، وأن يصف تطور العلاقات بين مختلف الطوائف اللبنانية عبر القرنين الأخيرين وصفاً كاملاً.
تاريخ لبنان الحديث: فواز طرابلسي
تعلمنا، نحن اللبنانيين من التجارب، أن لا تاريخ حقيقياً لنا، طالما أن هذا التاريخ يشبه الحاضر، ويتماهى معه المستقبل. لا تاريخ حينما يكرر التاريخ نفسه بلا كلل ولا رحمة. هكذا لا يعود اللبنانيون هذه الأيام، يشبهون حاضرهم، أكثر من آبائهم، كما يقول المثل العربي الذي يستشهد به مارك بلوك في كتابه “دفاعاً عن التاريخ”، والذي يضعه فواز طرابلسي بدوره في بداية الفصل الأول من كتابه “تاريخ لبنان الحديث –من الإمارة إلى اتفاق الطائف، الصادر لدى “دار رياض الريس للنشر”، والذي “يقترح”بدوره رواية جديدة، منقّحة، وجامعة، حول تاريخ لبنان الحديث، الذي يتفق اللبنانيون على بعضه، ويختلفون على بعضه الآخر.
الكتاب يأتي في 471 صفحة، ويحوي ثلاثة عشرة فصلاً، و”خاتمة موقتة” هي عبارة عن شرح لإتفاق الطائف والتباساته وتناقضاته، كما يصفها طرابلسي.يحاول الكتاب أن يحيط بمرحلة طويلة من تاريخ لبنان الحديث من العام 1528حتى العام 1990، يبدأ طرابلسي بتفنيد الحوادث والوثائق والتواريخ منذ بدايات لبنان، “بما هو كيان سياسي”، كما يقول، أي يربط بين التاريخ والكيانية السياسية، ويتعاطى مع التاريخ بوصفه حال سياسية، وليس حال تقترن بها السياسة والإجتماع واللغة والدين والثقافة والإقتصاد… كلها مجتمعة. مع أن طرابلسي يكتب منذ البداية عن كل هذه العوامل المؤثرة في الحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية في إمارة لبنان وتطورها، لا في أصل تكوينها وسببه. فهو لا يعطينا حجة وسبب وجود الإمارة، واستقلالها عن السلطنة، بل يعرض لواقع الإمارة وحالها في تلك الفترة، ويأتي تالياً على نظام الحكم فيها، وعلى علاقة الإمارة بالسلطنة لجهة استقلالها النسبي المترافقة مع ولائها الكامل للسلطنة.
كان الصراع على هوية لبنان في ذلك الحين بين المسيحيين والدروز، الذين يتمتعون بامتيازات. ويلخص الصراع بين الدروز والمسيحيين في جبل لبنان، والذي سيدوم ويتكرر في فترات لاحقة من تاريخ لبنان، وفي فصول آتية من كتاب طرابلسي. في الفصل الثالث، يحدثنا طرابلسي عن متصرفية جبل لبنان، وهنا، على عكس الفصل الأول، يضعنا أمام تاريخ تأسيس المتصرفية وكيفية ذلك، بالإضافة إلى جغرافيا المتصرفية التي هي “أول وحدة إدارية عثمانية تلي الولاية ويحكمها متصرّف”. بيروت المدينة هي محور الفصل الرابع من الكتاب، الذي يتضمن عرضاً جميلا وسلسا للحياة الثقافية والسياسية والإجتماعية والإقتصادية في بيروت بين 1820 و1915.
فهو يكتب عن ازدهار المدينة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتطور هذه المدينة على صعد التجارة والخدمات والسياحة، فيصفها وأحوالها، من مبانيها إلى أبنائها وطرقها، وصولاً إلى الترمواي والسكك الحديد والعربات التي تسيّر رحلاتها بين بيروت ودمشق وحوران. ويعطي احصاءات محددة لعدد سكان هذه المدينة، الذي وصل إلى 120ألفاً عشية انشاء “لبنان الكبيرعام 1920.كما يروي انشاء المجلس البلدي في بيروت، وتزويدها الكهرباء، وحركة النزوح إليها، والتنوع الإثني والطائفي فيها: “وبين أحد عشر تاجراً للقطن تاجر مسلم واحد. المصارف المحلية تملكها أسر مسيحية، بإستثناء إثنين لأسرتين يهوديتين”. هنا يتحدث عن رجوح “كفة القوة الإقتصادية للتجار المسيحيين الذين سيطروا على تجارة الإستيراد الدولية فيما اضطر التجار المسلمون إلى الإكتفاء بالتجارة بين مرافئ السلطنة”.
يتطرق طرابلسي في الفصل الخامس إلى العلاقات بين كيان لبنان الذي لم تقم له قائمة قبل أيلول 1925، والكيان السوري الذي يقول البعض بأن لبنان جزء من سوريا الطبيعية. لهذا يضع طرابلسي قولاً ليوسف السودا في مقدمة هذا الفصل الذي يحمل عنوان “جدليات الإتصال والإنفصال”:“لبنان الصغير موت اقتصادي، الإتحاد مع سوريا موت سياسي”، وهو خير تعبير عن العلاقات اللبنانية –السورية منذ تكوين الكيان حتى أيامنا هذه التي تشهد جدالاً حول هذه العلاقات التي شهدت قبولاً سورياً بإنشاء علاقات ديبلوماسية بين البلدين.
وينتقل في الفصل اللاحق إلى الحديث عن مرحلة الإنتداب التي انتهت إلى استقلال لبنان في العام 1943، ويأتي على مرحلة الإستقلال التي يسمّيها بـ”جمهورية التجار” وامتدت من عام 1943 إلى العام 1952، ويمر بالمرحلة الشمعونية، ثم الشهابية، والأوضاع التي شاعت في تلك الفترة، الإقتصادية منها (قضية بنك إنترا)، والسياسية والإجتماعية (الفلسطينيون ومنظمة التحرير)، وصولاً إلى الحرب العام 1975.
هنا تبدأ فصول أخرى من رواية التاريخ اللبناني الحديث، عايشها فواز طرابلسي وكان طرفاً فيها، فتارة ينجح في عرض الحقيقة المجردة، وطوراً يقع في فخ إبداء وجهة نظره الخاصة والمنحازة إلى طرف دون آخر، ويظهر هذا في وصفه لميشال عون بأنه “بشير جميل رقم 2″، وبأن “النزعة الشعبوية التي كانت تحرك ميشال عون وحيدة الجانب واختزالية إلى حد كبير”. وفي هذا الوصف ما يشبه وصف الحركة الوطنية للمسيحيين بأنهم “إنعزاليون”، طبعاً بعد عزلهم.لكن مع ذلك يمكن الاستفادة كثيراً من المعلومات والوثائق والروايات والتواريخ التي جمعها فواز طرابلسي في كتابه، ويمكن أيضاً الإستفادة من وجهة النظر الأخرى هذه لقراءة التاريخ اللبناني المتعدد الوجوه.