الأديب المصري "يوسف إدريس" كان قد قال منذ زمن "أيها الناس اقرأوا قصص غسان كنفاني مرتين، مرة لتعرفوا أنكم موتى بلا قبور ، ومرة أخرى لتعرفوا بأنكم تجهزونها وأنتم لا تدرون " .
عبد الناصر فروانة*
الأديب المصري "يوسف إدريس" كان قد قال منذ زمن "أيها الناس اقرأوا قصص غسان كنفاني مرتين، مرة لتعرفوا أنكم موتى بلا قبور ، ومرة أخرى لتعرفوا بأنكم تجهزونها وأنتم لا تدرون " .
واليوم نقول اقرأوا قصص الأسرى القدامى وحكاياتهم مع الأسر ثلاث مرات، مرة لتعرفوا فظاعة الاحتلال وعنجهيته في التعامل معهم، ومرة أخرى لتعرفوا كم هي معاناتهم ومعاناة ذويهم مؤلمة وقاسية، واقرأوها مرة ثالثة لتدركوا كم نحن مقصرون في إسنادهم وتجاه حقهم علينا، وأن قصورنا هذا كان سببا في استمرار معاناتهم وإبقائهم في سجون الاحتلال .
"الأسرى القدامى"، مصطلح شمولي يحمل في ثناياه الكثير من الدلالات والمعاني، منها ما هو مؤلم يكشف عن وجه الاحتلال البشع وعنجهيته وقسوة ممارساته، ومنها ما هو مشرق يعكس شموخهم، وثباتهم وصمودهم وإصرارهم على تمسكم بالأمل رغم الألم، ومنها ما هو مخجل يفضح عجزنا وفشلنا جميعاً في تحريرهم .
ولهؤلاء قصص طويلة وحكايات لا تُنسى، وتجارب جماعية وفردية، تشكل نماذج فريدة ومميزة، تحتاج بمجموعها إلى أشهر الكتاب والشعراء والمؤرخين لتدوينها وتوثيقها لتملأ مجلدات ومجلدات .
" الأسرى القدامى" مصطلح يُطلقه الفلسطينيون على من هم معتقلين منذ ما قبل توقيع اتفاقية إعلان المبادئ "أوسلو" وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية في الرابع من مايو/آيار عام 1994 ولا يزالوا في سجون الاحتلال الإسرائيلي، باعتبارهم " قدامى الأسرى" حيث أن أقل واحد منهم مضى على اعتقاله تسعة عشر عاماً متواصلة، فيما بعضهم أمضى في السجن من سنوات عمره أكثر مما أمضاه خارج السجن، وبينهم من ترك أبنائه أطفالاً، ليلتقي بهم شباناً داخل السجن، وهم من ذاقوا مرارة السجون وألم القيد وقسوة التعذيب بأشكاله الجسدية والنفسية، وهم من عاصروا أجيال وأجيال، فاستقبلوا آلاف الأسرى الجدد، وودعوا أمثالهم، فيما أجسادهم لا تزال مقيدة بين جدران السجون .
"الأسرى القدامى".. كريم وماهر يونس، مصطفى وزياد غنيمات، ابراهيم ورشدي أبو مخ عيسى عبد ربه وأحمد شحادة، سمير أبو نعمة وياسين أبو خضير، وليد دقة وضياء الفالوجي والقائمة تطول، يعيشون أوضاعاً قاسية كباقي الأسرى، فلا اعتبار لكبر سنهم أو لعدد السنين الطويلة التي أمضوها وآثارها السلبية عليهم جراء ظروف السجن وتأثيراتها، ولا اكتراث لأوضاعهم الصحية الصعبة .. فالمعاناة مضاعفة، وسنوات العمر تمضي وتمضي.
"قدامى الأسرى" هم ليسوا مجرد أرقام، وان كانت الإحصائيات مهمة في بعض الأحيان، حيث بلغ عددهم مع بداية نيسان/ابريل الجاري (105) أسيراً فلسطينياً من مناطق جغرافية مختلفة، منهم (57) أسيراً من الضفة الغربية، و(25) أسيراً من قطاع غزة، و(14) أسيراً من المناطق المحتلة عام 1948، و(9) أسرى من القدس المحتلة .وأن (79) أسيراً منهم يقضون أحكاماً بالسجن المؤبد لمرة واحدة أو لمرات عدة، والباقي (26) أسيراً يقضون أحكاماً بالسجن لفترات مختلفة تتراوح ما بين 20 – 40 عاماً .
وان من بين هؤلاء "القدامى" يوجد (77) أسيراً مضى على اعتقالهم عشرين عاماً وما يزيد بشكل متواصل وهؤلاء يُطلق عليهم مُصطلح "عمداء الأسرى"، فيما قائمة "جنرالات الصبر" وهو مصطلح يُطلقه الفلسطينيون على من مضى على اعتقالهم ربع قرن وما يزيد باعتبارهم أكثر الناس والأسرى صبراً وتحملاً للبطش والعناء والعذابات، تضم أسماء (25) أسيراً، ويقف في مقدمتهم الأسيران كريم وماهر يونس من قرية عرعرة وهي إحدى المناطق التي أحتلت عام 1948 واللذان مضى على اعتقالهما أكثر من ثلاثين عاماً .
أرقام مذهلة، مؤلمة، محزنة، دخلت قسراً موسوعة "غينس" للأرقام القياسية العالمية، ومصطلحات ثلاثة هي "الأسرى القدامى" ، "عمداء الأسرى"، "جنرالات الصبر" دخلت القاموس الفلسطيني ووجد لها مكانة ثابتة فيه، وباتت معتمدة للحركة الأسيرة في سجون الاحتلال الإسرائيلي ولمن يتابعون شؤونها وهمومها وقضاياها، وهي تحمل في ثناياها معاني ودلالات كبيرة ومؤلمة .
ولكل واحد من هؤلاء "القدامى" حكايته الطويلة وتجربته الخاصة مع الأسر وآلامه ومعاناته والتي تتشابك مع التجربة الجماعية في الكثير من جوانبها .
واعتقد بأننا لو نجحنا في توثيق تلك الحكايات والقصص وتدوين التجارب بشكل علمي في إطار عمل توثيقي ممنهج، وتم نشرها بلغات عدة، يمكن أن ننجح إلى حد كبير في التأثير على الرأي العام ويمكن أن نحرك مشاعر وسواعد أكثر من مليار مسلم ومعهم كل الأحرار في العالم، ويمكن أن نجعل من قضيتهم، قضية رأي عام دولي متفهم لمعاناتهم ومدافع عن حقهم بالحرية، كمقدمة أساسية لإحلال السلام العادل والشامل بالمنطقة والذي يبدأ بإنهاء الاحتلال وإطلاق سراح كافة الأسرى .
ولكن يؤسفني القول في هذا المقام بأننا لم نمنح "القدامى" الأهمية التي يستحقونها، ولم نولِ قضيتهم الاهتمام الكافي على كافة الصعد، بدءا بالاتفاقيات السياسية ومرورا بالإعلام والتوثيق وحملات المساندة، وليس انتهاء بدور فصائل المقاومة وعجز صفقة "شاليط" على إغلاق ملفهم .
حيث أن اتفاق إعلان المبادئ الموقع في أوسلو بتاريخ 13 أيلول/سبتمبر عام 1993 لم يشمل نصاً واضحاً يمكن أن يُلزم حكومة الاحتلال بالإفراج عن جميع الأسرى، وترك هذه القضية لـ "حسن النوايا" الإسرائيلية .
فيما أن بعض الاتفاقيات اللاحقة حملت نصوصا، لكنها غامضة في بعض جوانبها و فضفاضة في جوانبها الأخرى، وافتقرت في الوقت ذاته لآليات وضمانات التنفيذ والسقف الزمني، مما أتاح للحكومات الإسرائيلية ومنذ "أوسلو" لاستغلال ذلك لتمارس الضغط السياسي على القيادة الفلسطينية وفرض شروطها ومعاييرها وتصنيفاتها في التعامل مع الأسرى حسب الإنتماء السياسي والتنظيمي ومكان السكن والتهمة الموجهة لهم، مما يعتبر مساسا بوطنيتهم ووحدتهم النضالية والجغرافية وتكريس التفرقة بينهم .
فاستثنت "الإفراجات" ما اصطلحت على تسميتهم "إسرائيل" باطلاً بـ "الأيادي الملطخة بالدماء"، كما واستبعدت أسرى القدس وفلسطين المحتلة عام 1948 بذريعة أنهم مواطنين إسرائيليين لا يخضعون لإشراف وولاية السلطة الوطنية الفلسطينية وأن اعتقالهم والإفراج عنهم شأنا إسرائيلياً .
وعلى ضوء ذلك مرّ "الأسرى القدامى" بتجربة صعبة ومريرة ما بين القيود والمعايير المجحفة التي فرضتها حكومات إسرائيل المتعاقبة حول إطلاق سراحهم، وما بين استخدام قضيتهم كورقة سياسية للضغط والابتزاز والمساومة .
وبعد ست سنوات من توقيع إعلان المبادئ جاءت اتفاقية شرم الشيخ الموقعة بتاريخ 4 أيلول عام 1999 لتشمل نصاً واضحا يكفل إطلاق سراح كافة القدامى (أن الحكومة الإسرائيلية ستفرج عن المعتقلين الفلسطينيين الذين ارتكبوا مخالفاتهم قبل 13 أيلول 1993، والذين اعتقلوا قبل 4 أيار 1994، أي قبل إعلان المبادئ وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية).
ولكن بتقديري وان كان الأمر مهماً للغاية، لكنه كان بحاجة الى سقف زمني واضح، والى قوة سياسية وأدوات ضاغطة تلزم "إسرائيل" بتنفيذها .وخلال انتفاضة الأقصى أفرجت إسرائيل عن عدة دفعات من الأسرى كـ "بوادر حسن نية" وفقا لشروطها ومعاييرها .
ولا شك بأن الثغرات والأخطاء التي تضمنتها الاتفاقيات، والتصنيفات والمعايير التي استندت إليها "إسرائيل" في تحديدها لأسماء الأسرى الذين أطلق سراحهم قد أثرت سلباً على مجمل نواحي الحركة الأسيرة.
وبعد أسر الجندي الإسرائيلي "جلعاد شاليط " بتاريخ 25 يوليو/حزيران 2006، انتعشت آمال الأسرى القدامى وانتظروا صفقة تبادل تتجاوز أخطاء أوسلو والاتفاقيات السياسية، وتفرض شروطا عجز عن فرضها المفاوض، وتحقق ما عجزت عن تحقيقه العملية السلمية باطلاق سراحهم جميعا .
ولكن وللأسف صفقة "شاليط" التي نفذت في أكتوبر عام 2011 لم تنجح هي الأخرى في إغلاق ملفهم بالرغم مما حققته من انجازات في هذا الصدد، لتثير الكثير من الاستياء لدى من استثنتهم الصفقة وأبقتهم في السجون، حيث كانت فرصتهم الوحيدة بعد أن فشلت الجهود السياسية وجولات المفاوضات في تحريرهم .
واليوم وبعد مرور ما يزيد عن العشرين عاما على اتفاقية "أوسلو"، ومرور قرابة أربعة عشر عاماً على توقيع اتفاقية "شرم الشيخ"، أشعر بالألم والمرارة لبقائهم بالأسر طوال تلك السنوات، ويجب أن نخجل جميعنا من أنفسنا ومن آدائنا وقصورنا تجاههم، ويجب أن نُقر بعجزنا الفلسطيني والعربي والإسلامي عن تحريرهم .
ويجب أن نوجه انتقاداتنا الصريحة لمؤسساتنا الرسمية والأهلية، وللمفاوض الفلسطيني الذي لم يذكرهم في نص اتفاقيات أوسلو، وراهن على حسن نوايا حكومة "إسرائيل"، ولفصائلنا الوطنية والإسلامية، بالرغم مما تحقق من إفراجات من خلال "العملية السلمية" في سنوات سابقة، أو الانجازات التي حققتها صفقة "شاليط" الأخيرة.
وهذا يدفعنا لأن نختتم بالقول بأن (لا) معنى لمفاوضات قادمة وناجحة يمكن أن تبقيهم أو تُبقي بعضهم في السجون، أو لمقاومة مثمرة تعجز عن تحريرهم .
وأن نصرة الأسرى هو واجب شرعي ووطني وديني، وأيضاً أخلاقي وإنساني .
*أسير سابق ومختص بشؤون الأسرى
مدير دائرة الإحصاء بوزارة الأسرى في دولة فلسطين
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه