ألا وإن النصارى إخوانكم في الله وفي الوطن وفي المصير. فأحبوا لهم ما تحبون لأنفسكم وحافظوا على أرواحهم وأموالهم كما تحافظون على أرواحكم وأموالكم ..هل مازال أبناء جبل عامل يحملون هذه الروح؟..
"أيها الفرسان المناجيد :
إن لهذا المؤتمر ما بعده, وسيطبق نبوءة الآفاق السورية ويتجاوب صداه في الأقطار العربية، ويتجاوزها إلى عصبة الأمم، وقد امتدت به إليكم الأعناق، وشخصت الأبصار ، فانظروا ما أنتم فاعلون ..
يا فتيان الحمية المغاوير:
الدين النصيحة، ألا أدلكم على أمر إن فعلتموه انتصرتم ، فوتوا على الدخيل الغاصب برباطة الجأش فرصته، واخمدوا بالصبر الجميل الفتنة فإنه والله ما استعدى فريق على فريق إلا ليثير الفتنة الطائفية ويشعل الحرب الأهلية حتى إذا صدق زعمه وتحقق حلمه، استقر في البلاد بعلّة حماية الأقليات.. ألا وإن النصارى إخوانكم في الله وفي الوطن وفي المصير. فأحبوا لهم ما تحبون لأنفسكم وحافظوا على أرواحهم وأموالهم كما تحافظون على أرواحكم وأموالكم ، وبذلك تحبطون المؤامرة، وتخمدون الفتنة وتطبقون تعاليم دينكم وسنة نبيكم".
لكم هو شبيه هذا الخطاب التاريخي الوحدوي الوطني للسيد عبد الحسين شرف الدين، في مؤتمر وادي الججير في جبل عامل من العام 1920، بخطاب العلماء في زمننا الراهن.. وعلى رأسهم سماحة السيد حسن نصرالله (حفظه لله) .. وكأن التاريخ يعيد نفسه..!! .. كيف لا وما زالت الأطماع الاستعمارية "الإمبريالية" هي نفسها رغم العقود الطوال وإن تغير الشكل والأسلوب ..
اليوم بعد مضي ثلاث وتسعين عاماً ما زالت روح هذا المؤتمر تخيم على وديان جبل عامل وأبنائه وما زالوا يحملون روح الرسالة ومسؤوليتها الدينية والوطنية معاً ..ورغم وضوح البيان وحفظ التاريخ لهذا الخطاب ألا أن بعض المؤرخين اتهموا رجالات المؤتمر وفي مقدمهم السيد شرف الدين بأنهم دعوا إلى قتل المسيحيين وتهجيرهم . فهذا أمين الريحاني، في كتابه "ملوك العرب"، وهو مصدر يعتد به ضمن كتب التاريخ، يذهب هذا المذهب ويزعم بأن "المرجع الشيعي" أفتى بذلك.. وروّج الاحتلال الفرنسي في صحفه أن أحداث "عين إبل"، التي وقعت بعد المؤتمر بعشرة أيام، تدل على أن المؤتمرين قرروا إنهاء الوجود المسيحي في المنطقة. والثابت أن المؤتمر قرر العكس تماما واستحلف الثوار ألا يتعرضوا للمسيحيين وقد تعهدوا واقسموا على ذلك، ولكن من يتعاون مع الاحتلال إن كان مسلما أم مسيحيا سينال جزاءه.
ظروف انعقاد هذا المؤتمر التاريخي :
يستحق هذا التاريخ أن نتوقف عنده لنضيء الصورة أمام الأجيال الحالية ولترى أن النهج الإسلامي كان المتصدي دوماً لكل المؤامرت ولأشكال الاحتلال المختلفة. هذا ما يقوله فضيلة الشيخ حسن بغدادي، المحقق التاريخي، لموقع المنار. وينفي أن يكون سبب انعقاد المؤتمر رداً على حركات أخرى :" انعقد مؤتمر وادي الحجيرـ يوم السبت في الرابع والعشرين من نيسان العام 1920، في تلك المرحلة كان جبل عامل يعيش مناخا شديد التوتر، فقد كان الاحتلال الفرنسي يعمل على إثارة الفتنة بين المسلمين والمسيحيين، وبدأ العملاء يعتدون على قرى إسلامية حتى وصل الأمر إلى مرحلة يقول فيها السيد عبد الحسين شرف الدين :" تناهى إلى أسماعنا أنه اعتدي حتى على بعض الأعراض".
في الحين نفسه طلب من الزعيم السياسي كامل أحمد الأسعد أن يحسم خياره، إن كان مع ضم جبل لبنان إلى سورية الكبرى أو لا؟!.. ووقع في حيرة وخوف كبيرين، فإن وافق على الضم سوف يعاقبه الفرنسيون، وإن رفض الأمر توجس منه المقاومة ورجالاتها.. فاقترح السيد شرف الدين أن يصار إلى انعقاد مؤتمر استنهاضي يضع الأمور في نصابها الحقيقية، وبشكل تحصيلي يخرج الأسعد من هذا المأزق. وكان المؤتمر بحد ذاته تحديا كبيرا للاحتلال أنذاك.
وهل لاختيار المكان دلالة خاصة؟!..
يكمل الشيخ البغدادي الرواية بأن :" هناك ثلاث أسباب لاختيار المكان. الأول: أن وادي الحجير منطقة وسطية بين شمال النهر وجنوب النهر. الثاني: هو منطقة حيوية بوجود الينابيع والمطاحن والزرع الأخضر، يسمح بتوفر أفضل الفرص لإنجاح المؤتمر. والثالثة، هي أمنية كونها منطقة مغلقة، فالوادي له مدخلان تستطيع المقاومة أن تقفلهما أميناً، لأن قادتها كانوا مشاركين أساسيين في المؤتمر (أدهم خنجر وصادق حمزة)، وكانوا مستهدفين من قبل الاحتلال فكان وادي الحجير مناسباً من الناحية الأمنية. وكان هدف السيد عبد الحسين من دعوة المقاومة للحضور هو القول الفعلي أن الخيار الوحيد لمواجهة الاحتلال هي المقاومة المسلحة. وهنا تكمن نقطة الخلاف بينه وبين كامل الأسعد الذي انزعج من حضور هؤلاء القادة وسبب توترا شديدا تداركه السيد بحكمته.
كيف تجلت قيمة المؤتمر؟:
يقول الشيخ حسن بغدادي :" قيمة المؤتمر تكمن في محلين : الأول هو إطلالة السيد عبد الحسين شرف الدين بخطاب مركزي كان اساسيا في المؤتمر، وفي تلك المرحلة التاريخية. ولو اقتصر المؤتمر على هذه الكلمة لكان كافيا وناجحا إلى أبعد الحدود. فقد قال للجماهير أنتم إما امام ذل أو عز لا تستطيعون العيش بحالة رمادية. وحذرهم من الانزلاق نحو الفتنة مع المسيحيين وقال لهم كلمته المشهورة :"إلا أن النصارى أخوانكم في الله والوطن والمصير".. في المقابل هناك أمران قام بهما السيد، كان يمنع الفتنة ويوجه الناس ضد الاحتلال. وكان يدعو إلى ضم لبنان وجبل عامل إلى سورية الكبرى لأنه كان يعتقد أن هذا الجبل مهدد بالانقراض. وهنا تميز سماحة السيد باستشراف كبير للمستقبل حين قال إن ليس الفرنسيين من يقوم بهذه المهمة بل "الدولة العبرية" القادمة هي من ستقوم بها .. وكان فعلا المؤتمر ما قبله وما بعده.
وصدر عن المؤتمر ثلاث قرارات: أولا منع الفتنة بين المسلمين والمسيحيين وعدم انزلاق المقاومة إلى وحول الفتن الداخلية وأن المستفيد الوحيد هو المحتل والخاسر الأكبر هي المقاومة والمسلمين وحتى المجتمع المسيحي، ثانيا رفض الوصاية الأجنبية، وثالثا ضم جبل لبنان إلى سورية الكبرى..
وماذا فعل السيد شرف الدين لتفعيل قرارات المؤتمر ؟.
يتابع الشيخ بغدادي سرد الحكاية :" تشكلت لجنة لمتابعة المقررات وكان من مهمتها لقاء الأمير فيصل في الشام، وإخباره بهذه الخيارات المقاومة. ولكنّ قسما كبيرا من المشاركين خافوا من هذه الخطة واقتصر الأمر على السيد عبد الحسن شرف الدين والسيد عبد الحسين نور الدين، وأثناء الطريق انضم إليهما السيد محسن الأمين. والتقوا الأمير فيصل واحتفل بهم بما يليق بمكانتهم. والرجل كان ذكيا حين قال لهم لا أريد أن أحملكم ثمن مواقفكم فأنتم في جبل عامل تواجهون ظروفا صعبة ولا أحملكم أعباء أضافية .. وفي الحقيقة عمل هذه اللجنة شكل مأزقا كبيرا للفرنسيين فبدأوا يشيعون كذبا أن السيد عبد الحسين يدعو إلى قتل المسيحيين .. فهوجمت داره وأحرقت وخسرنا بذلك مجموعة كبيرة من مؤلفات موسوعية للسيد، فلجأ السيد إلى فلسطين ثم إلى مصر وحلت الفوضى التي أرادها الفرنسيون في لبنان .. وكان الفرنسي يحمّل تبعات ما يحدث للشيعة في جبل عامل ..
- في خطاب السيد شرف الدين مفهوم الوطنية كان لبنة أساسية :
كان مدهشاً وضوح مفهوم الوطنية عند سماحة السيد شرف الدين في تلك الحفبة التاريخية. الشيخ حسن بغدادي لا يرى في الأمر غرابة لأن " الوطنية بالنسبة إلينا هي جزء من الإسلام ، الذي يدعو إلى محبة الوطن والتآلف بين أبنائه على اختلاف انتمائتهم. والإسلام هو الدين الوحيد الذي ينادي بوحدة المجمتعات في أوطانها ووحدة الأمة قبل الدعوة إلى وحدة المسلمين.. وأول من دعا إلى لغة الحوار "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم .."..
فالإسلام هو دين المحبة والسلام، والتعايش والحوار، فكان طبيعياً ان يجسد السيد عبد الحسين هذا الأفق الكبير في الوعي الديني الإسلامي للتفاهم مع الأخر ابن الوطن، خصوصا أنه كان رجلا قائدا فذا فريدا من نوعه .. وكان يعتقد ان الوطن لا يقوم إلا بجناحين، الوحدة الإسلامية بين السنة والشيعة والوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين. فهو كان يرى أن الوحدتين تشكلان ضمانة استمرار الشيعة وبقاء جبل عامل وهدم التنازع فلا يمكن لثقافة السيد الإسلامية أن تكون خارج هذا السياق".
تصوير : وهب زين الدين