يضيء الباحث الفلسطيني على كبرى المجازر التي ارتكبها اليهود ضد المسيحيين في نجران والقدس. يبحث المؤلف في سكوت المؤرخين اليهود عن حادثتين أقل ما يُقال فيهما أنّهما في مستوى الإبادة الجماعية..
يضيء الباحث الفلسطيني على كبرى المجازر التي ارتكبها اليهود ضد المسيحيين في نجران والقدس. يبحث المؤلف في سكوت المؤرخين اليهود عن حادثتين أقل ما يُقال فيهما أنّهما في مستوى الإبادة الجماعية..
ريتا فرج كتبت في جريدة الأخبار : عصام سخنيني المحرقة التي ارتكبها اليهود
يضيء عصام سخنيني على كبرى المجازر التي ارتكبها اليهود ضد المسيحيين في منطقتين متباعدتين جغرافياً، هما نجران والقدس. في كتابه «مقاتل المسيحيين ـــ نجران 523 م والقدس 614 م» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2013) قد يصاب القارئ بصدمة مزدوجة لسببين: حجم الكره اليهودي للمسيحية إبان الفترة المبكرة، وسكوت بعض المصادر اليهودية عن مجزرتين، أقل ما يُقال فيهما أنّهما في مستوى الإبادة الجماعية.
الكتاب الذي قدّم له مدير «المركز الكاثوليكي للإعلام والدراسات» (عمان) الأب رفعت بدر يميط اللثام عن مجزرتي نجران (523) والقدس (614) المسكوت عنهما بفعل النسيان التاريخي الممنهج. استعان الباحث الفلسطيني بمجموعة من المصادر العربية والأجنبية التي ساعدته على تبيان تفاصيل الأحداث التي أودت بحياة عشرات الآلاف من المسيحيين في الفترة الزمنية المدروسة.
يؤرخ صاحب «عهد إيلياء والشروط العمرية» لتفاصيل المجزرتين ويضعنا أمام التشويه العقدي للمسيحية كديانة وعقيدة كما حاكها التلمود، فيكشف عن معطيين: الكراهية اليهودية للمسيحيين، والتأسيس لتاريخ مضاد لتاريخ المسيح.
في موازاة التشويه الإيماني لعقائد المسيحية كما وضعها التلموديون، تبرهن مذابح اليهود عن كره تأسيسي/ ديني تجاه الآخر، كرهٌ أصولي امتدّ عبر الأزمنة وطاول أسطورة أرض الميعاد التي ارتكب باسمها مذابح متتالية بحق العرب والمسلمين إبان قيام الكيان الصهيوني وبعده. تحت عنوان «مقاتل المسيحيين تحت المظلة الفارسية»، يدرس الكاتب نمط العلاقة بين اليهود والفرس في ضوء فكرة أنّ الخلاص اليهودي يتأتى من الجانب الفارسي استناداً إلى ثلاثة مزاعم توراتية: إعادة الفرس اليهود المنفيين في بابل إلى أورشليم بعد تدمير الهيكل على أيدي البابليين، وأمر الفرس بإعادة بناء الهيكل، وإنشاء مقاطعة يهودية في أجزاء من فلسطين باسم اليهود. وإذ يؤكد الكاتب أن التوراة كُتبت في فترة الحكم الفارسي لفلسطين، يرى أنّ نظرية الخلاص وجدت تطبيقاتها العملية خلال الحروب البيزنطية ــ الفارسية التي استغلها اليهود ضد المسيحيين تحت حماية الفرس أو بالتواطؤ معهم.
في نجران الواقعة في جنوب الجزيرة العربية (هي الآن في المملكة العربية السعودية)، نفذ اليهود مجازر عدة في حق مسيحيي تلك المنطقة، أدت إلى قتل عدد كبير منهم إما بالسيف أو إبادة بالحريق. محرقة نجران التي تحدث عنها القرآن في سورة البروج من دون ذكر تفاصيلها، دفعت الكاتب إلى الاستعانة بأصحاب التفسير الأقدمين، من بينهم ما رواه الطبري والقرطبي مع ترجيحه للرواية التي وضعها محمد بن إسحق.
قبل أن يفصّل صاحب «القدس: تاريخ مختطف وآثار مزورة» الحديث عن محرقة نجران، يحاول الكشف عن كيفية وصول المسيحية إلى الجزيرة العربية. هنا يورد فرضيات عدة: أولها دخول المسيحية اليمن من طريق رجل من الشام يسميه ابن هشام في سيرة النبوية «فيميون»، ثانيها تأكيد المصادر العربية أنّ بداية المسيحية كانت عندما اعتنقها أحد ملوك حمير، هو عبد كلال بن مثوب، على يد رجل من غسان قدم عليه من الشام، ثالثها، تأثير الحبشة (المسيحية) في بدايات الوجود المسيحي في جنوب الجزيرة العربية. وأخيراً، يشير الباحث إلى «كتاب الحميريين» الذي كُتب في الأصل بالسريانية، حيث ينسب بداية المسيحية في نجران إلى حيان، وهو تاجر يمني اعتنق المسيحية وأقنع أسرته وأعداداً من سكان المدينة. وبعيداً من اضطراب الروايات، يجزم بأن المسيحية ضربت بجذورها في جنوب الجزيرة في القرن الخامس ميلادي.
مَن نفّذ محرقة نجران (523) بحق المسيحيين؟ تشير المصادر العربية والسريانية التي استند إليها الكاتب إلى أنّ منفذ المجزرة كان ملكاً حميرياً يهودياً اسمه زرعة ولقبه «ذو نواس» (ذو لا تأتي بمعنى صاحب بل هي مصطلح أطلق في التاريخ الحميري على منصب رفيع يشمل ملوك اليمن) وقد خيّر هذا الملك المسيحيين بين القتل أو اعتناق اليهودية.
تبدأ المجزرة التي يصفها الكاتب بـ«الفظيعة» مع نبش اليهود «قبور الشهداء المسيحيين» الذين سقطوا في حملة الاضطهاد الأولى (لا تضع المصادر تاريخاً محدداً بدقة لهذه الحملة)، فاستخرجوا عظامهم وكوّموها في كنيسة نجران، وألقوا القبض على مسيحيين استسلموا عندما دخل اليهود المدينة، وحشروهم في الكنيسة التي ملأوها حطباً من الداخل والخارج وأشعلوا النار في الجميع واستمرت المحرقة يومين ذهب ضحيتها ألفان من الرجال وعدد من النساء.
لم تقف الإبادة اليهودية عند هذه المحطة. اقتحمت المدينة قوة من اليهود وقُتل من قُتل من نساء وأطفال. لكن ما هي قصة الأُخدود؟ بعدما ارتكب اليهود مجزرتهم، أمر «ذو يزن» أحد قواد «ذو نواس» بإلقاء جثث الضحايا ودفنها في خندق خارج أسوار المدينة. هذه الإبادة استدعت رداً من النجاشي ملك الحبشة (إثيوبيا) باعتبارها الجغرافيا المسيحية الأقرب إلى نجران، فقاد حملة أدت إلى مقتل «ذو نواس» وتعيين ملك خاص لسلطته.
تبدو مجزرة القدس (614) أشد فظاعةً. إبان الحرب الفارسية ـ البيزنطية (602 ــ 628)، انتعشت فكرة الخلاص التوراتي عند اليهود، وخصوصاً مع تقدّم الفرس على البيزنطيين عسكرياً وانهزامهم لاحقاً. فحوى الإبادة اليهودية للمسيحيين إبان الصراع البيزنطي الفارسي الذي لا يوليه الكاتب الاهتمام الكافي، أنّه ذهب ضحيتها عشرات الآلاف. المقتلة نفذها اليهود بمساندة الفرس على مراحل بعد احتلال المدينة. قاموا أولاً بملاحقة المسيحيين وقتلهم، ولم يفرّقوا بين رجل وامرأة ولا بين صغير وكبير ولا بين أناس عاديين ورجال دين، وحجزوا ثانياً الأسرى في بركة ماميلا (تقع غرب القدس قرب باب الخليل) وقام اليهود بشراء المسيحيين من الفرس، وقاموا بذبحهم، وأخيراً أحرقوا الكنائس. عدد ضحايا مجزرة القدس تفاوت بين مصدر تاريخي وآخر. بعضهم يشير إلى أنّ عددهم تخطى 66 ألفاً، في حين أنّ ثيوفانس المؤرخ البيزنطي يقول إنّ عددهم بلغ 90 ألفاً.
لا يُبرئ الكاتب الفرس من فعلة الإبادة التي تعرض لها المسيحيون في القدس، علماً أنّ الملك الفارسي خسرو الثاني أصدر أمراً إثر هذه المقتلة بإخراج اليهود من المدينة، وكان متسامحاً مع الأسرى الذين اقتيدوا إلى فارس.
يتساءل صاحب «فلسطين والفلسطينيون»: لماذا يصمت المؤرخون اليهود عن مجزرة القدس؟ ولماذا تنكر الموسوعات والمصادر الإسرائيلية مشاركة اليهود في المذبحة؟ الهدف كما يلاحظ طمس الحقيقة «وتبرئتهم ضمنياً من تبعات هذه الجريمة الفظيعة».
يدفعنا «مقاتل المسيحيين» إلى استحضار المذابح الذي ارتكبها الصهاينة بحق الفلسطينيين والعرب على مدار تاريخ الصراع العربي ـــ الإسرائيلي. ثمة بغضٌ مقدس قام عليه هذا الكيان الهجين، بغضٌ يلغي الآخر ويعمل على إبادته بعنف النص الديني.