وعند وصول كولومبس إلى العالم الجديد، مارس السياسة الاستعمارية نفسها في إبادة الهنود الحمر عبر مذابح جماعية لم تتوقف حتى مطلع القرن العشرين.. ليحل مكانهم الزنوج الأفارقة في أكبر عملية رقّ شهدها التاريخ
تعلمنا في كتب التاريخ، التي درسناها في الصفوف الابتدائية، أن الرحالة الاسباني كريستوف كولومبس هو "الفاتح الأول" لقارة أميركا.. وعلق في أذهاننا أن قارة أميركا أرض كانت خاوية أو عذارء لم تطأها قدم بشري وكولومبس اكتشفها ليقدمها هدية لملكة بلاده!!.. رهيبة هي الثقافة التي تزور التأريخ وتجعله سيرة ذاتية تمجد المتجبر والمتسلط وتصوره على أنه "الواهب" و"المعطاء" بينما هو في الحقيقة المدمر الأول للقيم الانسانية والمجرم الأول بحق الكرامة والشرف، والإرهابي الكبير الذي أباد صفحات من حضارات عريقة ليسود هو وشعبه وثقافته "الحضارية"...
إذا كنت حريصا على أن تتبلور فكرتك أكثر عن "ألاعيب" "الثقافة المزورة" عليك أن تشتري "الكتاب الأسود". يرصد «الكتاب الأسود» الذي ترجمته «دار قدمس» تاريخ الاستعمار، استناداً إلى شهادات كتّاب بارزين بينهم سارتر وكامو .. والجميل في الأمر أن 21 كاتباً وكاتبة يرصدون نحو 400 سنة من الاستعمار في مجلّد ضخم حرّره المؤرخ الفرنسي مارك فيرو بعنوان «الاستعمار: الكتاب الأسود: 1600ـــــ2000». وقد صدرت طبعته العربية عن «دار قدمس» العام 2007 (ترجمة محمد صبح ومراجعة زياد منى). ويمثل الكتاب خريطة عالمية لتاريخ الخزي في العالم ومحاولة لاستكشاف مظاهر الندم والصدمة الارتدادية للحقب الاستعمارية في ما يسمى لاحقاً الكولونيالية.
افتتح كريستوف كولومبس الحقبة الاستعمارية باحتلال جزيرة هاييتي (1493) ليدشّن تاريخاً طويلاً من الإبادة والعبودية والعنصرية، لا بقصد اكتشاف جزيرة مجهولة بل بحثاً عن الذهب في حرب غير عادلة أطاحت معظم السكان الأصليين، فيما أُرسل الأسرى إلى إسبانيا ليعملوا عبيداً.
وعند وصول كولومبس إلى العالم الجديد، مارس السياسة الاستعمارية نفسها في إبادة الهنود الحمر عبر مذابح جماعية لم تتوقف حتى مطلع القرن العشرين... ليحل مكانهم الزنوج الأفارقة في أكبر عملية رقّ شهدها تاريخ العالم. هكذا نشأت تجارة جديدة ورابحة هي تجارة الرقيق لتأخذ العبودية شكلاً مختلفاً عما كانت عليه في عهد الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية البيزنطية. إذ حلّ العمل القسري مكان العبودية، وقد ورث العرب والعثمانيون هذا الوضع حتى القرن التاسع عشر وحاولوا في ما بعد وضع حد لتجارة الرقيق.
بعد الحقبة الإسبانية للاستعمار التي ترتبط بالنظام القديم المتمثل بالعنف لترسيخ الغزو وهدم الأطر التقليدية للسكان الأصليين بدمجهم في الأطر الإدارية، توسّعت خريطة المستعمرات نحو أميركا اللاتينية وأفريقيا. وسوف تحوّل فرنسا "عصر الأنوار"، فردوسَ مستعمراتها إلى «جحيم منفى الأشغال الشاقة» من الهند الصينية إلى الجزائر. أما بريطانيا فستفتتح تاريخها التوسعي باستعمار الهند (1757) ولن تخرج من هذه الإمبراطورية المكونة من فسيفساء ثقافية إلا بعد تقسيمها إلى أربع دول، وإثر مقاومة طويلة وتمردات سلمية قادها المهاتما غاندي.
ستجد بريطانيا العظمى نفسها في مواجهة فواتير باهظة بعد استعمارها ربع العالم. وهو ما لفت إليه إدوارد سعيد في كتابيه «الاستشراق» و«الثقافة والإمبريالية» بفضح التمثلات الاستعمارية للمجتمع الهندي باعتبارها ابتكارات للخيال الغربي المدفوع بتعطشه للهيمنة. فالشرق كان اختراعاً من المستشرقين لتسويغ تفوّق الرجل الأبيض على باقي البشر. هكذا صدّر المستعمرون سياسة الأرض المحروقة والنهب واستنزاف البلاد، على اعتبار أنّ «الصيني لص والياباني قاتل والفييتنامي هذا وذاك».
أفريقيا منجم الثروات ووجبة شهية للمستعمر، سواء أكان فرنسياً أم برتغالياً أم بلجيكياً أم أميركياً. إذ بلغت طرق الاحتلال درجة من الوحشية جعلت منها نموذجاً في تاريخ استعمار القرنين التاسع عشر والعشرين، مؤكدة على عنصرية لا مثيل لها. وهو ما أفرز مقاومة شرسة. هكذا، شهدت أفريقيا نحو 23 ثورة كبرى، في مواجهة التمييز العنصري الذي استمر حتى مطلع تسعينيات القرن العشرين لتطوى صفحة نظام «الأبارتايد» في جنوب أفريقيا إلى الأبد والتي كانت صورة سافرة لانتهاك القوانين وحقوق الإنسان.
اللطخة السوداء في تاريخ فرنسا الاستعمارية هي الجزائر. هذا ما تشير إليه نصوص جان بول سارتر وألبير كامو ومئات الشهادات التي تفضح تاريخ الخزي والعار لدولة كانت تتغنى على الدوام بالحرية والتنوير. فميراث قوانين «فيشي» في القمع هو الأكثر سطوعاً في الذاكرة. يقول الفيلسوف بول ريكور في هذا الشأن «إن الخطيئة الأصلية للاستعمار تسبق الاعتداءات من طرف الأهالي... وإن العنصرية هي عيب الفرنسيين في المستعمرات». ويضيف في مقال له نُشر في عام 1947 «نعم لحركة التاريخ التي تخلق الحرية، حتى لو كانت هذه الحرية ملوّثة بالوهم وبالعنف، فهي في الأساس قيمة إيجابية. إنها كنز للأمم».
في هذا التاريخ، كانت تحصل أسوأ مجازر ما بعد الحرب العالمية الثانية في مدغشقر، فيما كانت خرافة «الجزائر هي فرنسا» تتفكك أمام حرب التحرير الجزائرية. وهناك فييتنام أيضاً التي حاول الاستعمار الفرنسي طمس هويتها من دون نجاح. وها هي تغطس في الوحل على مهل، وسوف تعيد أميركا لاحقاً التجربة على نحو أكثر بشاعة وستغوص في مستنقع أكبر اسمه «عار فييتنام». كذلك سيستنجد فرانسيس كوبولا برواية جوزف كونراد «قلب الظلام» ليكتب رؤيته عن الحرب في فيلم «القيامة الآن». أما ايليا كازان فسعى في فيلمه «الزوار» (1972) إلى تحسين صورته المكارثية بتسويغ الاغتصاب والوقوف إلى جانب الجلادين باسم مقاومة الشيوعية.
ولا ننسى أن هناك أيضا الإمبراطورية السوفياتية التي جرى تفكّكها أخيراً على نحو مدهش وبطريقة فريدة بدت كما لو أنها نهاية لعبة شطرنج خاسرة. وهي إمبراطورية محيّرة فعلاً سواء في نسختها الروسية أو نسختها السوفياتية. إذ لطالما فرضت هيمنتها تحت شعارات دينية أو ايديولوجية، فشكلت فسيفساء ضخمة من القوميات في مختبر تقليدي للاستعمار امتدّ زمنياً من القرن السادس عشر إلى أواخر القرن العشرين، على شكل حروب ابادة، نجد صداها في أعمال بوشكين وليرمنتوف وتولستوي.
ميراث الاستعمار لا يتوقف عند حدود الإبادة والتذويب وتحطيم التاريخ والهويات واللغة، بل يتجاوز مفهوم الشرعية وحقوق الإنسان إلى مديح العنصرية والتفوق الحضاري وتسويغ الاحتلال والمذابح والعسف. ولعل في الصحوة المتأخرة في كشف أهوال الاستعمار القديم ونسخته الجديدة بعض الاعتذار والندم. وقد لا يكفي أن تُقام اليوم متاحف لأحفاد العبيد وأخرى للأبارتيد كي تُصحح الصورة البشعة للاستعمار.
لكن المدهش حقاً في هذه الشهادات أن يغيب الكيان الصهيوني الغاصب (إسرائيل) تماماً عن هذه القائمة السوداء باعتبارها آخر الأمثلة الحيّة على استمرار الاحتلال القسري لبلاد شعب آخر!... فنكتشف ولمرة أخرى أنه ما زال صعبا على الغربي عموما أن يقدم الحقيقة كاملة، ربما لأن لجذوره ارتباطا وثيقاً بالروح "الاستعلائية" ومن الصعب جدا أن يتخلص منها نهائياً..