تسرّبت إلى وسائل الإعلام العالمي أخيراً، وثائق رسميّة عن رأي مسؤولي البنتاغون في شأن استخدام الصين لقدرات الإنترنت، وطُرُق الرد عليها أميركياً. وبموجب هذه الوثائق، ما زالت حروب الإنترنت جديدة نسبياً
تسرّبت إلى وسائل الإعلام العالمي أخيراً، وثائق رسميّة عن رأي مسؤولي البنتاغون في شأن استخدام الصين لقدرات الإنترنت، وطُرُق الرد عليها أميركياً. وبموجب هذه الوثائق، ما زالت حروب الإنترنت جديدة نسبياً، في عوالم الاستراتيجيات العسكرية، كما تثير القلق بسبب تعدّد الجهات التي تستطيع الانخراط فيها، إضافة إلى صعوبة تتبع مصادرها. ويتناقض هذان الملمحان كليّاً مع هجمات الأسلحة الحربيّة التقليدية التي تستعمل غالباً من قبل جيوش أو مجموعات مُنظّمة، كما يسهل التعرّف إلى أصحابها.
واستطراداً، تشكّل سُبُل الردّ على الهجمات الإلكترونية، موضوعاً لنقاش خلافي واسع. وتُشبه حروب الإنترنت الآن ما كانته الأسلحة الذريّة عند بداية ظهورها في القرن الفائت. وحينها، تفاوتت آراء الخبراء الاستراتيجيين بين اعتبارها مجرد تضخيم لقوّة القصف التقليدي، وكونها أسلحة جديدة نوعية مختلفة جذريّاً عن سابقاتها، أم أنها شيء مختلف عن هذين الأمرين أيضاً.
الإنترنت ثورة وثروة :
استطراداً، جرى السؤال عن استخدام القنابل النووية ضد المدنيين كطريقة لجعلها أسلوباً أشد نجاعة في الردع، أو الاكتفاء باستخدامها ضد الجيوش، بل ربما ضد أسلحة مُشابهة لها بصورة حصريّة. تطلّب الرد على التحدي الذي برز مع القوّة الذريّة عقوداً من الجدال الذي انخرط فيه علميّون (خصوصاً علماء الفيزياء) واقتصاديون، إضافة إلى علماء السياسة والاستراتيجية، مع ملاحظة أن بعض هذا الجدال لم يحسم كليّاً لحد الآن.
يستتبع هذا التشابه بين سلاحي الذرّة والإنترنت، أن استيعاب الإملاءات الواسعة لاستعمال الإنترنت سلاحاً استراتيجياً، أمر يستلزم سنوات طويلة. وكذلك ربما بقي الجدال حول سلاح الإنترنت مستمراً، خصوصاً لجهة استخدامه وسيلة للردع الاستراتيجي ووضعه في آليات السياسة والحوكمة. وبعد هجمات بوسطن التي ثبت أن الإنترنت لعبت دوراً كبيراً فيها (تجذير التطرّف ولوجستيات الضربة والتأثير في الرأي العام وغيرها)، أقرّ الكونغرس قانوناً عن الرقابة على المعلومات الإلكترونيّة، لكن البيت الأبيض أبدى معارضة له لما يحمله من تهديد على الخصوصية والحريّات الفرديّة.
وثمّة رأي لخبراء الاستراتيجية الأميركية عن الطريقة التي تفهم بها الصين سلاح الإنترنت على مستوى الردع الاستراتيجي، وضمنه الردع المتبادل. وبديهي أن الاستمرار في الحكم يشكّل هدفاً ثابتاً للحزب الشيوعي الصيني الذي بات أميل للتشديد على المسألة القوميّة، إضافة إلى الجهد الاستراتيجي في مجال الاقتصاد. شهدت الصين مستويات مستمرة من النمو الاقتصادي في العقدين الماضيين. ونظراً إلى نقاط الضعف الكامنة في اقتصاد الصين، مثل عدم الكفاءة في مجال القروض، وضعف الاستهلاك المحلي، وعدم التنبّه لحقوق الملكية الفكرية وغيرها، لا يستمر النمو في وتيرة مرتفعة بصورة مستمرّة. ولا يصعب استنتاج أنّه من الأسهل للصين سرقة المعرفة والتكنولوجيا، ثم العمل على تطويرهما بنفسها لاحقاً.
ووصف الجنرال كيث ألكسندر، قائد «القيادة السايبرية» Cyber Command ومدير «جهاز الأمن الوطني»، الهجمات الصينية للحصول على المعرفة والتكنولوجيا من أميركا بأنها «أكبر عملية نقل للثروة في التاريخ». وأورد أن الشركات الأميركية تتكلف ربع تريليون دولار سنوياً بسبب الهجمات الإلكترونية، ملاحظاً أن «هاكرز» الصين مسؤولون عن قسم كبير من عملية «سرقة» المعرفة والتكنولوجيا. وحتى الآن، لم تقدّم الشركات الأميركية ولا البيت الأبيض، سبباً كافياً يجعل الصين توقف هذا النشاط، خصوصاً أن الحزب الشيوعي الصيني يرى فيه ضماناً لاستمرار نمو اقتصاد بلاده. واستطراداً، تنمو الشركات الصينية على حساب نظيراتها الأميركية، التي تعاني من اختطاف المعلومات، إضافة إلى توجّب انخراطها الدائم في إصلاح الشبكات الرقمية وحمايتها من غزوات مستقبلية. ويؤدي الأمر إلى تضييق الفجوة التي تفصل الشركات الصينية عن الأميركية.
الـ «هاكرز» وصعود الصين :
إضافة إلى النمو في الاقتصاد والمعرفة، تساهم هجمات الـ «هاكرز» الصينيين في صعود الصين الذي يروّج له الشيوعيون بوصفه ردّاً استراتيجياً على «قرن من الإذلال»، جرّه تسلّط القوى الغربية عليها. واستطراداً، تأتي استعادة «الصين التاريخية» وضمنها تايوان والجزر المتنازع عليها في الجوار الصيني، مترافقة مع تعزيز عضلات الصين على مستوى الردع الاستراتيجي في الفضاء الافتراضي («سايبر سبايس» Cyber Space). ولذا، يُرجّح خبراء الاستراتيجية في أميركا أن تستخدم الصين قدراتها في الإنترنت، في 3 مستويات متمايزة.
أولا، مشاركة «هاكرز» الصين في نشاطات استخباراتية تكتيكية واستراتيجية، على حد سواء. ويطرح هذا الأمر تحدّياً على أميركا لمواجهة استخدام الصين لسلاح الإنترنت استخباريّاً، وهو أمر يبدو معقّداً في مجال مكافحة «هاكرز» الصين ونشاطاتهم التجسّسيّة.ثانياً، استعمل «جيش التحرير الشعبي الصيني» نظماً لإبعاد القوات الأميركية عن شواطئ الصين، خصوصاً لجهة عرقلة قدرات البحرية الأميركية في آسيا والمحيط الهادئ. وإذ تُركّز هذه النُظُم على الأسلحة التقليدية، فإنها تستعمل الإنترنت في دعم هذه الجهود التي توصَف صينياً بـ «مكافحة عمليات التدخل».
وتدعم هجمات الفضاء الافتراضي هذه الجهود عبر مُكوّنات تشمل استهداف شبكات الاتصالات، والحواسيب، والاستخبارات، والقيادة والتحكّم، والرصد والاستطلاع وغيرها، بهدف جعل القوات الأميركية، وبشكل أساسي، عمياء وصماء وخرساء. ومنذ عام 2012، لاحظ البنتاغون أن أمدية العمل الشبكي الصيني، تشمل الفضاء والأقمار الاصطناعية. وبديهي أن يجري العمل أميركياً على اكتشاف نقاط ضعف في القدرات الشبكية للصين، خصوصاً إخراج الهجمات الإلكترونية الصينية من المعركة، في حال حدوث اشتباك كبير بين الطرفين.
يتمثّل المجال الثالث في تطوير الصين لأسلحة شبكية (أو «سيبرنطيقية») استراتيجيStrategic Cyber Weapons. وبرزت هذه الأسلحة عندما تقصى خبراء أميركيون في الأمن الشبكي، الهجمات الصينية للبنية التحتية الحساسة الأميركية. وثار قلق هؤلاء من قدرة الصين على استهداف شبكات الكهرباء وإمدادات المياه، بل حتى شبكات البورصة، ما يعني القدرة على ضرب عُمق الأمن القومي في الولايات المتحدة. ومع ملاحظة أن هذه الأسلحة الشبكيّة تفتقر إلى بشاعة الأسلحة النووية، بمعنى غياب الإشعاعات المميتة والتدمير الواسع النطاق، وكذلك غياب القدرة على تقصّي مصادرها، يميل خبراء الأمن الاستراتيجي الأميركي إلى القلق من إمكان أن تعتبر بكين أن سلاح الإنترنت ربما كان صالحاً للاستخدام أكثر من الأسلحة النووية.
وإذا اعتقدت الصين أيضاً أن هجوماً واسعاً عبر الإنترنت سينظر إليه باعتباره تهديداً متوسّطاً، بمعنى عدم اندراجه ضمن أعمال الاستراتيجية العليا، فلربما تتشجع الصين لاستخدامه في «صراع» مع أميركا عبر الشبكة العنكبوتية. وثمة إمكان أيضاً لأن تُدرج الولايات المتحدة الهجمات بالأسلحة الحربية ضمن سلم متحرّك في الرد على هجمات مؤذية لـ «هاكرز» الصين.