وكل يوم نشهد حكاية جديدة على هذا الصعيد مع أسيوي أو عربي في بلاد العم سام تحديداً، والذي هو نفسه لمّا يشف بعد من داء التمييز العنصري ضد السود، فما بالك بالعربي "المتخلف" وغيرها من الصفات المذمومة
لن نصدق يوماً أن الغرب فعلا بملء إرادته الحرة يمكن أن يتقبل الأخر في بلاده، خصوصا عندما يكون هذا الأخر مثقفاً وأستاذا أكاديمياً مرموقاً بحجم قامة المفكر الأميركي الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد. قبل أن نخصص الحديث عن تجربة سعيد، لا بد من أن نلفت عناية القارئ الكريم إلى أن هذا التجاهل للأخر، والعصبية ضده من قبل الغربيين تجاه الشرقيين، وعلى وجه الخصوص، العرب منهم، لا ينفك دائماً لا بل ازدادت وتيرته حدة بعد حادث الحادي عشر من أيلول، في العام 2001، وبعدما فرضت العولمة وجهها البشع الحقيقي قي تصنيف الأخر "الضعيف" الذي تضمر لغته الوطنية أمام لغة "القوي" المستكبر على العالم.
وكل يوم نشهد حكاية جديدة على هذا الصعيد مع أسيوي أو عربي في بلاد العم سام تحديداً، والذي هو نفسه لمّا يشف بعد من داء التمييز العنصري ضد السود، فما بالك بالعربي "المتخلف" وغيرها من الصفات المذمومة التي تخطر ببالك، التي يوصف بها المهاجر العربي أو من تعود أصوله لجذور عربية.
في كتابه الشهير "صور المثقف" يروي بمرارة إدوارد سعيد تجربته في أداء سلسلة محاضرات "ريث" التي كانت تبث عبر أثير هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، وهو من المقتنعين بأن إحدى مهام المثقف هي بذل الجهد لتهشيم الأراء المقولبة والمقولات التصغيرية، التي تحد كثيرا من الفكر الإنساني والاتصال الفكري. لذا وافق على إلقاء هذه السلسلة عندما عرضت عليه "آن وايندر" من هيئة الإذاعة البريطانية هذا العرض. وهو يعترف أنه لم يكن يتوقع أن تقف في وجهه عاصفة من الاعتراضات التي حاول أصحابها الحؤول دون وصوله إلى منبر الإذاعة الشهير في أوروبا والشرق الأوسط، لدرجة أن عبارات على غرار "قالت لندن هذا الصباح" ما زالت لازمة تتردد في الشرق الأوسط، وتستعمل دائماً مع الافتراض بأن "لندن" تقول الحقيقة.
وهو يقول في كتابه "صور المثقف"، الذي تضمن "محاضرات ريث" التي ألقاها في هيئة الإذاعة البريطانية، إن ثمة أصواتاً دأبت منذ ارتفاعها في وقت واحد ومن اللحظة الأولى تقريبا للإعلان عن المحاضرات في أواخر العام 1992، على انتقاد الـ "بي بي سي" لأنها، في المقام الأول، وجهت الدعوة له هو شخصياً. فلقد اتهم سعيد بأنه ناشط في المعركة من أجل الحقوق الفلسطينية، وبالتالي هو غير أهل إطلاقا لإعتلاء أي منبر رزين ومحترم. "ولم تكن تلك إلا الأولى في سلسلة من الحجج المعادة بوضوح للفكر والعقلانية، التي تدعم كلها، على عكس ما هو متوقع منها، الفرضية في محاضراتي عن الدور العلني للمثقف كغير منتم وهاو ومشوش على الوضع الراهن"، كما كتب سعيد في مقدمة كتابه.
ومن المعروف أن إدوارد سعيد - رحمه الله- كان مناصرا قويا للقضية الفلسطينية في أميركا وفي المحافل العلمية والدبلوماسية التي كان يتواجد فيها، ولقد شكل صوته كلمة قوية للحق الفلسطيني على المنابر الغربية. وهذا ما لم يرق للغربيين المثقفين زملائه وأنداده في الجامعات التي كان يدرّس فيها. ويصف هذه التجربة بأنها أتاحت له أن يختبر بعض الأمور التي لم يكن يعرفها من قبل حول معوقات التواصل الحر. إذ يقول "فغالبا ما ذكر الصحافيون والمعلقون أنني فلسطيني، وهذا، كما لا يخفى على أحد، مرادف للعنف وللتعصب، ولقتل اليهود، ولم يُستشهد بأي من أقوالي. وكأن ما يقولون عني معلومات شائعة لا تحتاج إلى برهان. إضافة إلى ذلك وُصفتُ في الأسلوب الرنان لصحيفة الـ"الصنداي تلغراف" بأنني معاد للغرب، وبأن كتاباتي تركز على تحميل الغرب تبعة كل الشرور في العالم، وبخاصة في العالم الثالث".
وكان يعز عليه أن يتناسوا كل كتاباته الفكرية والثقافية المهمة التي أجرت تحولا كبيراً في بعض المفاهيم العصرية مثل "الاستشراق" و"الثقافة والإمبريالية". وهو يؤكد بأن أحد الأمور التي لم تغتفر له هو قوله المؤيد بالبرهان إن رواية "مانسفيلد بارك" لجين أوستن كانت تدافع عن الرق والعبودية واستغلال مزارع القصب التي كان البريطانيون يملكونها في أنتيغوا. وعن فضحه لبناء أوهام مثل "الشرق" و"الغرب" ناهيك عن ماهيات عنصرية مثل الأعراق التابعة، والشرقيين والأريين، والزنوج، ومن شابههم، هي الأمور التي حاولت كتبه محاربتها.
إدوارد سعيد كان يعلن مرارا أن الثقافات متمازجة كثيرا ومضامينها وأحداثها التاريخية متداخلة ومختلطة المولد كثيراً، بحيث لا يمكن فصلها بدقة إلى نقائض واسعة النطاق، وفي الغالب إيديولوجية، مثل الشرق والغرب. هذا الرأي هو على ما يبدو من أكثر الأراء التي كان يرفضها مثقفو الغرب "الاستعلائيين" وأبناء الفكر الإمبريالي والمدافعين عنه، لذا حورب سعيد وأمثاله، ولم تشفع له مكانته العلمية من شائعات عديدة حاولت أن تنال من مقامه.
وما زال يدعي الغرب أنه يؤمن بالأخر المختلف ويتقبل الرأي الأخر.. فأي تقبل هو هذا؟!!.. كلها ادعاءات زائفة.. فليراجعوا التاريخ وليروا أن المسلمين في بلادهم هم أكثر الشعوب كانت تقبلا للأخر وإجراء المثاقفة معه وحوارا نداً للند..طبعاً لا نقصد العصر الراهن حيث يعمل الحكام العرب على تجميد العقل وقتل الحواروالإبداع ونبذ الأخر المختلف .. تاريخنا اليوم يدعو للأسف..