وهناك موقف جميل للصحافي أوري أفنيري ساخر من ادعاءات هؤلاء الأدباء اليساريين، التي تبدأ بالكلام: «أنا يساري ولكن لا بد من تدمير قرى جنوب لبنان.. وبعدها بسنوات يتباكى على الضحايا
تستوقفني أحيانا أراء "منفتحة" لبعض المثقفين العرب الذين ينبهرون فجأة بموقف لكاتب صهيوني أو شاعر وأديب يعترف بالحيف الذي يلحق بالفلسطينيين منذ عقود، متباكيا على روح الضحايا. ولكن ما يبهرني أنا أن هؤلاء المثقفين والكتاب الذين يدعون إلى تقبل هذا الأديب أو الشاعر الصهيوني ويتغنون باكتشافهم على قاعدة "وشهد شاهد من أهلهم" يفوتهم أن يدخلوا إلى حياة هذا الصهيوني الأديب ليتعرفوا إلى ماضيه وحياته السابقة.
إذ إن معظم هؤلاء "الزملاء" كانوا قد خدموا في جيش الاحتلال الإسرائيلي وشاركوا في مجازر عديدة سواء في فلسطين أو لبنان. فاعترافات الكثيرين من الكتاب الصهاينة، بالجرائم التي ارتكبوها في حق الفلسطينيين، تأتي دائماً متأخرة، وكأنها - في أحسن الأحوال - شكل من أشكال التكفير عن الذنب. لكنها في الحال الطبيعية ليست إلا أقنعة يخفي بها هؤلاء جريمتهم. نذكر على سبيل المثال منهم الروائي عاموس عوز صاحب "السيرة المشوهة"، ويزهار سيميلانسكي صاحب رواية «خربة خزعة»، وعاموس كينان صاحب رواية «الطريق إلى عين حارود»، وديفيد غروسمان الذي قتل ابنه في عدوان تموز (يوليو) 2006 على لبنان، وآخرون ممن يدّعون انتماءهم إلى اليسار، وينشطون في الدعوة الوهمية إلى تحقيق السلام.
عاموس عوز : يساري ولكن لا بد من تدمير جنوب لبنان
وهناك موقف جميل للصحافي والمحلل الصهيوني أوري أفنيري جاء في مقال سخر فيه من ادعاءات هؤلاء اليساريين، التي تبدأ بالكلام: «أنا يساري ولكن...». يقول إن هذه الـ (لكن) تخفي وراءها الوجه الحقيقي لهؤلاء. «أنا يساري ولكن»، لا بد من تدمير قرى الجنوب اللبناني وتحويلها أطلالاً وخرائب ميتة على رؤوس أصحابها! .. كما قال الكثيرون منهم في حرب تموز 2006 ، التي شن فيها العدو الصهيوني عدواناً عسكرياً بحجة تحـــرير جنــــديين من الأسر، قام فيه بتدمـــير قرى لبـــنانية كاملة، وشرد ما يقارب مليون مواطن لبناني من ديارهم، متناسياً أنه يأسر مئات الآلاف من الفلسطينيين، والمئات من العرب الآخرين، وأنه حوّل فلسطين كلها إلى معتقل كبير.
وهؤلاء الكتاب «اليساريون» شاركوا جميعاً في جريمة قتل الفلسطينيين واللبنانيين والمصريين والأردنيين والسوريين بضمائر ميتة، لكنها سرعان ما تعود إلى الحياة - زيفاً وكذباً - بعد انتهاء مهماتهم الدموية. فالكاتب يزهار سيميلانسكي كان ضابط استخبارات شارك في تهجير السكان الفلسطينيين من قريتهم التي سماها «خزعة». وهو لم يشعر بالذنب إلا بعد مرور سنوات كثيرة على تلك الجريمة. ولا تختلف الحال مع عاموس كينان في روايته «الطريق إلى عين حارود» التي تُظهر اليهودي باحثاً عن السلام، على عكس الفلسطيني الذي يعرف الطريق ولا يرغب في السلام. كما أنها تحذر - في شكل غير مباشر - الفلسطينيين والعرب، من محاولة مقاومة الجيش الصهيوني، لأنه - كما تشي الرواية بذلك - كليّ القدرة والمعرفة، تماماً مثل يهوه التوراتي.
ولا ننسى مذكرات عاموس عوز التي يقول فيها إن قيام دولة إسرائيل حلم تحقق. وهو تصريح يظهر الوجه الحقيقي لهذا الكاتب وسواه ممن يزعمون انتماءهم إلى اليسار، ويعلنون التحاقهم بحركات السلام وما شابه ذلك..
في الوقت الذي يدعون إلى تسوية مشكلة اللاجئين الفلسطينيين من منظور صهيوني يساوي بين الضحية والجلاد، ويحفظ استقلالية الدولة العبرية ونقاءها، أي عنصريتها، ويدير الظهر إلى حق العودة، وقضية اللاجئين، كما هي الحال في وثيقة جنيف التي كان عاموس عوز واحداً من الموقعين عليها.
حليم غوري : الأول بقائمة المتباكين على الضحية
وها هو الآن شاعر يدعى حاييم غوري ينضم إلى قائمة المتباكين على الضحية، والزاعمين صحوة الضمير، بعد بلوغهم سنوات العفة الإجبارية. حاييم غوري يتذكر ما فعله بالفلسطينيين من قتل وتدمير وتهجير، وما تسبب فيه من مآس لا يستقيم الحديث عنها في أثر رجعي، كخطأ عادي من جملة الأخطاء البشرية.
ويكتب قصيدته المشهدية التي نشرتها مجلة «مشارف» الحيفوية العام الماضي، موحياً بالشعور بالذنب والأسى، ما يستوجب طرح السؤال الملح: أين كان هذا الضمير خلال بهجة القتل التي عاشها غوري وأمثاله؟ «أنا/ مليءٌ بالموتى. أنا مليءٌ بموتى محفوظين داخلي/ أنا مليءٌ بأسماء منقوشة في الحجر/ وأَيْمانٍ وهمساتٍ ونُذور/ أنا مليءٌ بآراء مُسبق/ بـ لا خيارات وأبطال،/ وهم صناديد كالأسود، كما يُقال،/ وهم أخفُّ من نُسور./ أنا أقفُ كنشيدٍ وطنيّ،/ حتى ينتهي./ أجلسُ، أُراقبُ نقطة في المكان./ مشبوهاً كما الباقين./ أنا مليءٌ بقرى مهجورة، حاجيات متروكة،/ بنعالٍ فاغرة، مِزَق ألحفة صوفية، صُرر مثقوبة./ ببقايا تبن، أرسان ظلّت تنتظرُ حتى أعيت،/ محاريث من خشب، مناجل، غرابيل، أرغفة جفّت. (...)».
اعتراف مجبول بالجريمة تغلف "الأدب الإسرائيلي"
وإذا كان غوري وسيميلانسكي وعاموس عوز وسواهم يحـــاولون ارتـــداء هذه الأقنعة التي يطمحون من خلالها إلى إخفاء الوجه البشع، والملامح العنـــصرية والدموية، فإن ما يهمنا أكثر في هذا السياق، هو وقوع الكثير من الكتاب والمثقفين الفلسطينيين والعرب في هذه المصيدة. فما إن يقرأوا شيئاً من هذا القبيل، حتى يسارعوا إلى التغني به، وكأنهم قبضوا على شهادة حسن سلوك موقفهم من العدو نفسه. وهو ما يشير إلى حال من ضعف الثقة بالنفس، وارتباك ناجم عن نزاع داخلي أمام اختلال الموازين الدولية والإقليمية، وأمام انهيار منظومة القيم الأخلاقية والقانونية تحت هيمنة أشرس إمبراطوريات الشر في التاريخ البشري كله، أميركا التي ابتكرت أقنعة الحرية وحقوق الإنسان لتبرير جرائمها التي تعم الكون كله، وتطاول البشر والقيم الإنسانية في كل مكان على هذه الأرض.
إنهم يقتلون الفلسطينيين كل يوم، ويدمرون بيوتهم وينكلون بهم كل يوم، ويواصـــلون جــــريمتهم بمـــنع الفلسطينيين من العودة إلى بلادهم التي اغتصــــبوها تحت أنظار العالم المتواطئ، ثم يطلعون علينا ببعض الأبيات الشعرية والقصص والروايات، التي هي في الحقيقة ليست إلا نشاطاً يمارسه بعض المتقاعدين العسكريين، بعد أن يخلعوا بزاتهم العسكرية الملطخة بدمنا، وبعد أن يسلموا أسلحتهم إلى أبنائهم وأحفادهم. وما هذه الصورة إلا محاولة رخيصة ومبتذلة لنيل العفو والمغفرة. فليعودوا إلى بلادهم التي جاؤوا منها أولاً، كي نصدق شيئاً مما يكتبون.