تكاد تختفي مساحة الموقف التركي من الغارة الإسرائيلية على سوريا وتدمير منشآت عسكرية قرب دمشق لتحل مكانها مساحات، بلغة كرة القدم بالطول والعرض
محمد نور الدين
تكاد تختفي مساحة الموقف التركي من الغارة الإسرائيلية على سوريا وتدمير منشآت عسكرية قرب دمشق لتحل مكانها مساحات، بلغة كرة القدم بالطول والعرض، لما يمكن اعتباره العقل الباطني الذي لا يزال يحرك الكومبيوتر الخفي لـ«حزب العدالة والتنمية» ولا سيما قادته الرئيسيين.
جاء العدوان الإسرائيلي على سوريا ليكشف حقيقة التقاطع بين إسرائيل والمعارضة السورية، الخارجية على الأقل، وهو ما أشارت إليه صحيفة «زمان» الإسلامية التابعة لرجل الدين التركي فتح الله غولين المقيم في الولايات المتحدة. وقد أشارت الصحيفة إلى أن زعم إسرائيل أن هجومها على مركز البحوث العلمية في جمرايا مرتبط بالخط الأحمر لنقل أسلحة إلى «حزب الله» في لبنان، غير كاف. لكن الواقع أن الهجمات الإسرائيلية مرتبطة أكثر بمستقبل سوريا.
إسرائيل وجّهت رسالة بأنها لا تقبل أن يمتلك النظام المقبل في سوريا أسلحة كيميائية. وإسرائيل تنظر بعين قاطعة إلى أن نظام الرئيس بشار الأسد راحل، لذا تريد أن تفتح بابا للمفاوضات مع المعارضة منذ الآن. كما أنها تريد القول للولايات المتحدة إن إمكانية توجيه ضربة عسكرية إلى إيران قابلة للتطبيق. ولا شك بأن إسرائيل تستدرج دمشق لحرب تحتل فيها المنطقة الواقعة في جنوب سوريا تمهيدا لاحتمالات تقسيم البلاد، وبالتالي إقامة دولة درزية عازلة تمتد من جبل العرب والجولان وصولا إلى لبنان.
لكن الرئيس التركي عبدالله غول لم ير في العدوان الإسرائيلي على سوريا سوى أنه خطر ويخدم النظام السوري في مواصلة حربه على شعبه. أما رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان فقد قال إن العدوان أمر غير مقبول، وانتقل بعدها إلى بيت قصيد الموقف التركي، وهو ان إسرائيل قدمت العدوان على طبق من ذهب إلى الأسد «ليواصل قتل شعبه، ولا سيما في بانياس».
وفي الحالتين لم يتضمن الموقف التركي أي إدانة للعدوان الإسرائيلي. لم يكن ممكناً لأنقرة أن تفعل ذلك في لحظة كانت الاجتماعات بين المسؤولين الإسرائيليين ومدير الخارجية التركي فريدون سينيرلي اوغلو في القدس المحتلة تنتهي إلى اتفاق تام على مسألة التعويض الإسرائيلي لضحايا حادثة مرمرة الأتراك. ولم يكن ممكناً أن يصدر أي موقف آخر قبل زيارة أردوغان إلى واشنطن للقاء الرئيس الأميركي باراك أوباما في 16 أيار الحالي.
في الخطاب نفسه أمام كتلة نواب «حزب العدالة والتنمية»، الذي احتل فيه العدوان الإسرائيلي على سوريا بضع عبارات، كان الكومبيوتر التركي يفرد مساحات واسعة وغير مبررة لما يفاقم من الحساسيات المذهبية في المنطقة العربية والإسلامية.
دائما ما كانت توصف السياسة التركية تجاه المنطقة بالعثمانية الجديدة. وهي بالفعل كذلك، خصوصا أن أردوغان حدد للشبان الأتراك موعدا جديدا لهم للاحتفال بالتاريخ وهو العام 2053 الذكرى الـ600 لاحتلال الأتراك العثمانيين لمدينة القسطنطينية على يد السلطان محمد الملقب بالفاتح. وإذا كانت نخب «العدالة والتنمية» مسكونة بالهواجس العثمانية وتريد استعادة هيمنة انهارت قبل مئة عام، فإن تكرار الإشارة في خطب أردوغان تحديدا إلى واقعة كربلاء والحديث عن الحسين والحسن وكربلاء ويزيد باتت من الظواهر التي توجب تحليلا مغايرا للتحليل السياسي والعثماني، لتصب في خانة المحظور المذهبي، خصوصا بالنسبة لرجال الدولة.
سعى خطاب «حزب العدالة والتنمية» منذ أكثر من سنتين إلى محاولة تهشيم صورة كربلاء والحسين كرمز للمقاومة والتضحية ومحاربة الظلم، وبات يكرر في كل خطاب له لازمة لم يتعود عليها المسلمون. وكانت «باكورة» محاولة تجويف صورة كربلاء هذه مع تشبيه أردوغان لرئيس حكومة العراق نوري المالكي بيزيد قاتل الحسين، محذرا إياه من السير على خطى يزيد، وذلك بعد أيام على انفجار الخلاف مع نائب الرئيس العراقي حينها طارق الهاشمي.
لكن التركيز على كربلاء انتقل إلى سوريا، حيث كان عصب الخطاب الأردوغاني هو أن من يؤيد بشار الأسد «الذي يقتل شعبه» لا يمكن أن يكون من أنصار الحسين بل هو من أنصار يزيد.
تكررت هذه الإشارة في خطابات أردوغان، وآخرها في كلمته أمام نواب حزبه الثلاثاء الماضي. إذ بعد امتعاضه من توظيف الأسد للغارة الإسرائيلية، استرسل أردوغان في الحديــث عن كربــلاء وحماة النظام في سوريا. وقـــال «لا يمــكن أن يرتكب هــذه المجــازر في ســـوريا من يحــمل في قلبــه مثقــال ذرة من كربلاء. إن مجــزرة بانيــاس هــي مثــل كربــلاء مؤلمـــة. والقاتلون هــم مثــل يزيد ظالمـــون. وكـــل واحـــد منــهم يزيـــد».
لا يمتلك قادة «العدالة والتنمية» سوى الخطاب الكربلائي من أجل تحريف حقيقة الصراع القائم، والسياسي بامتياز، بين الغرب وإسرائيل وعملائهما وبين القوى التي تسعى لرد الهيمنة الغربية.
بعد سنتين وأكثر لم تتراجع حدة النبرة المذهبية في خطاب إسلاميي «العدالة والتنمية»، وهم في سعيهم لـ«شيطنة» الأسد «العلوي» إنما يريدون أيضا تطويق العلويين في تركيا نفسها، ووضعهم تحت الضغط وتبرير استمرار السياسات التمييزية ضدهم في كل القطاعات والمجالات، واعتبارهم «جالية أجنبية» في عصر «الجهاد التكفيري»، وهم الذين يقاربون العشرين مليونا أو حوالي ربع السكان. وهذا واضح في تكرار حوادث الاعتداء على بيوت العلويين في أنحاء مختلفة من تركيا، وآخرها وضع مجهولين علامات معينة وعبارة «الموت» على عدد كبير من بيوت العلويين في محلة «مالتبه» في اسطنبول الاثنين الماضي أعقبتها تظاهرات للعلويين منددين بهذه الظاهرة. لكن الأمر الأكثر سوءاً هو أن هذه المحاولات المتكررة لم تحقق بها السلطات التركية أو لم تدع لها أن تصل إلى نتائج، بما يشجع على تكرار ترهيب العلويين ودعوتهم للرحيل أو مواجهة خطر القتل.
الكومبيوتر التركي لا يعمل على إسرائيل، وهو لم يعمل عليها أبدا، لكنه أيضا أبعد من حنين إلى عثمانية دفنتها شعوب المنطقة إلى غير رجعة. وهنا مكمن الخطر الشديد.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه