ويعبر سعيد عن رأي الغرب المسيحي بالإسلام إذ وجد فيه خطراً عارماً بعدما أصبح بقلب أوروبا، حتى أخذ يخضعه لعمليات الاستشراق لإبعاد المسيحيين الغربيين عن معرفة الإسلام الذي غزا معظم العالم بعلومه وحضارته
بعد نحو 30 عاماً من صدوره، لا يزال كتاب "الاستشراق" للمفكر الفلسطيني – الأميركي الراحل "إدوارد سعيد" مثيراً للتأمّل بقدرته على استشراف قضايا متجدّدة حول ثنائيّة الشرق- الغرب وذلك منذ أن قال: "إن الشّرق عدوّ مفترض أو أسطورة خلقها خيال الغرب".
لقد مثّل كتاب "الاستشراق" ثورة في الدّراسات الإنسانيّة، ليس في الغرب، حيث صدر، فحسب، بل في العالم أجمع لما أحدثه من كشف فاضح للعملّيات الثقافيّة الاستعلائيّة التي كان يمارسها مفكّرو الغرب ومثقّفوه تجاه عالم الشرق وحضاراته منذ قرون عديدة. كما أنه أحدث انقلاباً في قلب المفاهيم الألسُنية والبنيوية. وينصبّ هذا التثوير للمعرفة حتى الآن على رجّ الثقافة الغربية وكشف آلية السّلطة والقوّة والسيطرة على "الخارج". فالاستشراق يعتبر ظاهرة هامّة لأنه يقدّم دراسة لكافّة البُنى الثّقافيّة للشّرق من وجهة نظر غربي.
وتستخدم كلمة "الاستشراق" أيضاً للتّدليل على تقليد أو تصوير جانب من الحضارات الشّرقية لدى الرواة والفنّانين في الغرب. المعنى الأخير هو معنى مهمول واستخدامه نادر، والاستخدام الأغلب هو دراسة الشّرق في العصر الاستعماري ما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. لذلك صارت كلمة الاستشراق تدلّ على المفهوم السّلبي وتنطوي على التفاسير المضرّة والقديمة للحضارات الشّرقية والناس الشرقيين. وجهة النّظر هذه مبيَّنة في كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق"، الذي صدر في العام 1978م من القرن الماضي، وما زال مصدراً ومرجعاً أساسياً للمفكّرين والباحثين في العالم.
هدف الاستشراق "نفي وجود الشرق"
وليس كتاب سعيد دراسة للاستشراق بوصفه تاريخاً، وشخصيات، وأحداثاً، على درجة مدهشة من حدة ونفاد الحسّ، وجوهرية التحليل لأسئلة جذرية في الثقافة والإنسان، فقد درس إدوراد سعيد علاقات الغرب بالشرق، ليكوّن فهماً للعالم الحديث يكون أكثر شمولية وانشباكاً في العالم. صحيح أنّ كتاب إدوارد سعيد يدور حول دقّة تصوّر الغرب للشّرق، ولكنّه أيضاً ينفي وجود الشرق وفق ما صورّه الغرب. فهو يتحدث عن الغرب وإشكاليّاته الفكرية، الّتي اتسمت بالعنصريّة والإجحاف بحق حضارات الشّرق وإنسانه، وهو أيضاً يظهر الخلل الجوهري في ثقافة الغرب، بين ما يراه مبادئ لتطوّره الحضاري، والبحثي والعلمي، وبين الطّريقة التي يعاين بها الآخر- حين يكون هذا الآخر الشرق- وحين تتم هذه المعاينة في إطار القوة الفوقية والسلطة.
يبحث كتاب "الاستشراق" كيف دخلت أنواع الطاقات: الفكرية، الجمالية، البحثية والثقافية في خلق تراث إمبريالي كتراث الاستشراق. لقد تمكّن إدوارد سعيد من معالجة ظاهرة الاستشراق الثّقافيّة، التّاريخيّة بوصفها نمطاً من العمل الإنساني، دون أن يُخفق في الوقت نفسه في رؤية التحالف بين العمل الثقافي والنزعات السياسية والدولة والواقعيات الخاصة للسيطرة.
تطوّر الاستشراق إلى مذهب فكري :
يرى سعيد أنّ الشّرق شبه اختراع أوروبي، وأنّ الاستشراق ليس مجرّد خيال أوروبي متوهّم عن الشّرق، بل إنّه كيان له وجوده النّظري والعملي، وقد استثمرت فيه استثمارات مادية كبيرة على مرّ أجيال عديدة. وقد أدى استمرار الاستثمار إلى أن أصبح الاستشراق، باعتباره مذهباً معرفياً عن الشرق، شبكة مقبولة تسمح منافذها بتسريب صورة الشّرق إلى وعي الغربيين... فالامبريالية السياسية تحكم مجالاً كاملاً من الدّراسات والإبداع والمؤسّسات البحثية.
ويرى سعيد أنّ تاريخ الاستشراق أدّى إلى التّعصب الشائع في الغرب ضد العرب والإسلام، مضيفاً أنّه "ممّا يزيد الأمر سوءاً عدم إقدام أيّ شخص له اهتمامات أكاديمية بالشرق الأدنى، أي عدم إقدام أيّ مستشرق قط في الولايات المتحدة، على التّعاطف الكامل والصّادق ثقافياً وسياسياً مع العرب". ولا شك أنّ بعض حالات التّعاطف قد وجدت على مستوى من المستويات، لكنّ أياً منها لم يتخذ في يوم من الأيام الصّورة المقبولة التي يتّخذها التعاطف الأمريكي الليبرالي مع الصهيونية.
منهجية السيطرة والسلطة :
الرؤى والطّروحات التي قدّمها المفكّر إدوارد سعيد جاءت نتيجة قراءة واقعية للتاريخ الإنساني ومعرفة علميّة دقيقة وواعية للأسباب والنتائج التي أثّرت في تشكيل الوعي لمعرفة حركة التّاريخ. فالعمق والأصالة والدقّة والجرأة في معالجة حالات الاستشراق تعدّ تثويراً للمعرفة الإنسانية، وكشفاً وتسليطاً للضوء على الثقافة الغربية التي تعمل على منهجية السيطرة على الآخر وفق إرادة تمليها القوة والسلطة. إنّ هذا الفهم العميق لعلاقة المعرفة، والقوة، والاستراتيجية، والتكتيك والاقتصاد جاء نتاج سعيد المعرفي ليؤسس لفهم حضاريّ للآخر عن الشرق، وليس كما يدّعي الآخر بالحتميّة التاريخيّة التي تحكم مفكّريه.
فالغرب ينظر وفق رؤى واشتراطات تاريخيّة، ودينيّة واقتصاديّة ويبني تصوّراته حسب تلك الرّؤى ويؤسّس مناهجه عن الشرق اللامتغير والشرق التاريخي. وهنا، قدّم المفكر إدوارد سعيد في الاستشراق أساليب جديدة في التحليل، والاستنتاج والقراءة الواقعية في الثقافة والامبريالية، محاولاً تجاوز الهوّة في فهم الشرق وحضارته وتشكيله الثّقافي. وهذا عكس ما طرحه صاموئيل هنتنغتون في "صراع الحضارات" أو ما طرحه فرنسيس فوكاياما في "نهاية التاريخ". فهما يعدّان الصّراع حتمياً لتفوق الغرب وهمجيّة الشرق. وهذا خلاف واقعي للتاريخ والثقافة. فثمّة إشكالات غربية طرحت وفندت على تلك الآراء غير الواقعية والمجافية للحقيقة.
أراد سعيد استدعاء التاريخ والثقافة حضورياً، للاستفادة من تثوير وعي للتعاون الإنساني يتحقق فيه الوفاق والسلام والتعاون وعدم التمّدد. إلا أنّ واقع التّاريخ لا يسير باتجاه ما يرسمه المخطّطون والسّاسة والاستراتيجيّون بشكل مطلق، فقد أعجب المستشرقون بعظمة الرموز العربيّة كالرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشخصية الإمام علي عليه السلام، وكذالك بالمنجزات الحضارية العربية.
"الاستشراق" أعطى الإسلام حقه :
لقد استجاب الاستشراق للثقافة التي أنتجته أكثر مما استجاب لموضوعه المزعوم، كما يقول سعيد، الذي كان هو أيضاً من نتاج الغرب. فإن لتاريخ الاستشراق، في آن واحد، اتساقاً داخلياً، وطقماً من العلاقات، على درجة عالية من الثّقافة المسيطرة المحيطة به. وشرح أيضا كيف استعار الاستشراق أفكاراً قوية ومعتقدات مذهبية واتجاهات تحكم الثقافة. لذا لم يكن أبداً ثمّة شرق صافٍ غير مشروط.
استطاع إدوارد سعيد أن يقدّم في كتابه التاريخي كيف قام الاستشراق بعمله، وكيف أصبح ظاهرة تاريخية أعدّت لها المدارس في أوروبا. ففي الغرب المسيحي، يؤرّخ لبدء وجود الاستشراق الرسمي بصدور قرار مجمع فيينا الكنسي في العام 1312. أما في منتصف القرن التاسع عشر فقد كان الاستشراق قد أصبح مكتنزاً علمياً من الاتساع، خصوصاً مع "معهد مصر" الذي أسّسه نابليون.
تفسيرات خاطئة للكتاب! :
ويعبر سعيد عن رأي الغرب المسيحي بالإسلام الذي وجد فيه خطراً عارماً بعدما أصبح في قلب أوروبا، حتى أخذ يخضعه لعمليات الاستشراق لإبعاد المسيحيين الغربيين عن معرفة الإسلام الذي غزا معظم العالم بعلومه وحضارته.
لقد فهم عدد كبير من مثقّفي ومفكّري العالم العربي والإسلامي، أن كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد قد تمّكن لأول مرة، في عقر دار الغرب، أن يدافع عن الإسلام ويعطيه حقه التاريخي، وهذا ما اعتبره سعيد (المسيحي ـ اليساري) تفسيرات خاطئة للكتاب الذي يهدف، وحسب قوله، إلى تخطّي الهوة بين الشرق والغرب من خلال إثارة قضيّة التّعددية الثّقافية. ومن يره مجرد رد على الغرب يسيء إليه بهذا الوصف المبسط.