لوحظ الحريري، أكثر من مرة، يهرول قرب النهر. والحريري، كما يعرف اللبنانيّون أكثر من غيرهم، رجل يفرط في الأناقة. مبتسم دائماً. لولا ملامحه السعوديّة لظنّه الجميع فرنسيّاً ترعرع في أحياء الـ«ويتيام»
من هناك، في بيته الباريسي الهادئ، بمحلة الشانزيليزيه، شارع الملك ألبرت الأول، والمطل على برج إيفل، قرب نهر السين، يتابع الرئيس سعد الدين الحريري شؤون البلاد. يحصي أعداد الصواريخ الهاطلة عليها، وأعداد القتلى بين محاورها، بألمٍ كثير. ينعكس الألم شغفاً على «تويتر»... الذي يلي جولة الهرولة الصباحية قرب النهر..
أحمد محسن / جريدة الأخبار
ذات يوم، شوهد النائب سعد الدين الحريري، على ضفاف السين، يتمشّى مع العشاق والمهاجرين والبوهيميين الفرنسيين. وصار يتكرر الأمر. لوحظ الحريري، أكثر من مرة، يهرول قرب النهر. والحريري، كما يعرف اللبنانيّون أكثر من غيرهم، رجل يفرط في الأناقة. مبتسم دائماً. لولا ملامحه السعوديّة لظنّه الجميع فرنسيّاً ترعرع في أحياء الـ«ويتيام» (8eme أو المنطقة الثامنة في باريس). لكن الواقع، أنّ سكان شارع «ألبرت الأول» في الشانزيليزيه، حيث يقطن «الشيخ» اللبناني، يندر أن يكونوا باريسيين.
تعتقد غالبيّة الفرنسيين الذين يمرون من هناك أن هذا الشارع، تحديداً، يسكنه «الأمراء العرب» ورجال الأعمال من أصحاب الوزن الثقيل. وكما كان متوقعاً، لا أحد يعرف رئيس الوزراء السابق... «Ariri? C'est qui Ariri»، يسألون، وهم على حق في أن لا يعرفوا. الرجل أنيق ولطيف، لكنه كالجميع: يهرول قرب النهر. ليس رئيساً للوزراء هناك، بل مجرد رئيس سابق «يُتَوتر» (نسبة إلى تويتر). وما يقوله اللبنانيّون عن «الوزير الفرنسي» الذي يأخذ المترو كالجميع، والنائب الذي يقود دراجة هوائيّة، لا ينفيه الفرنسيّون، بل يستغربون أن تجري الأمور عكس ذلك. ووفقاً لهذه القاعدة، الحالة الطبيعيّة أن يكون الحريري في باريس مجرد رجل يهرول قرب النهر.
واللافت، أنه جار لرئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، في باريس أيضاً. يقع منزل الأخير في «كونكورد»، وتفصل بين المنزلين محطة واحدة في مترو الأنفاق. فلنكن واقعيين، لن يستقلّ أيٌّ من الرجلين المترو. وعلى ما يبدو، الحريري متعلق بالنهر. فهو لا يمشي إلا قربه، حتى عندما يزور السيدة نازك الحريري، في «ساحة ايينا»، حيث كان يقيم والده، يذهب بالسيارة، رغم أن المسافة قريبة بين المنزلين. وأحياناً، في منزل والده، يلتقي «صديق العائلة»، الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك. شيراك صديق وقت الضيق، وإن كان كثير من الفرنسيين يرجحون أنه مصاب بالخرف (ألزهايمر تحديداً)، ويشعرون بأن الأشياء التي يقولها «منفصلة عن الواقع». طبعاً، لا يفسد رأي الفرنسيين في ود الحريري لشيراك قضية. هو صديق العائلة في باريس، من دون أن يشارك في احتفالات 14 آذار التي تجري هناك، بعيداً عن «ساحة الحريّة».
لا يعذب أحد نفسه بحثاً عن حراس أمام المنزل. منزل لا قصر؛ وإن كان على هيئة القصور، مزخرفاً بنقش ضخم لرجلٍ قروسطي أعلى القناطر التي ترصّع الأبواب. لن يجد الباحث عن «محسوبكم سعد» في الشانزيليزيه سوى خريطة ضخمة أول الشارع، مثيلة لتلك الموجودة في محطات مترو الأنفاق، وفي الضواحي، وفي كل مكان من العاصمة. ليس من لافتة تدل على القصر. ولا شيء يوحي بوجوده. في باريس، الحريري رجل عادي، وإن كان يحظى بنافذة تطل على النهر، حيث يبدأ نهاره صحبة القهوة وبرج إيفل الشهير، وطبعاً، قبل أن يهرول قرب النهر. أخيراً، قيل إنه يمارس «البوكسينغ» في باريس، وبالعربيّة: الملاكمة. يبدو أن الرئيس، بعد ممارسته غير الناجحة لرياضة التزلج، اكتشف أنه مديني بطبعه. غالب الظن أن عادات المدينة تروقه.
وفي الحديث عن المدينة بمعناها الحداثوي المعاصر، باريس على قياس الوصف. الحريري ملاكم في باريس، لا متزلج ولا رئيس. يقطن سعوديّون قرب المنزل، لكن لا سفارة سعوديّة. لا زحمة سيارات ولا فرع معلومات ولا أبو كريم العرب «يفشّخ» على الضباط (الفرنسيين)، ولا محمد تمام برجاوي يعتقل سورياً لأنه... سوري. ثمة ممر طويل للدراجات الهوائيّة، يفصل رصيف المنزل عن الأشجار العملاقة التي تظلل النهر، الذي يهرول الحريري بقربه. لم يسبق أن شاهده أحد من سكان المنطقة على دراجة هوائيّة. العمال في المحال القريبة يجزمون بأنّ السكان في المنطقة الثامنة، في «الشان»، وهو اختصار الشانزيليزيه، ليسوا من جماعة الدراجات الهوائيّة، حتى من باب الترف. غير أن ذلك لن يمنعهم من الهرولة قرب النهر.
السياح في الشانزيليزيه كالنمل. ينظرون مبهورين إلى العمارة الفرنسيّة، وإلى كل شيء سمعوا عنه بشغف واضح. مطعم «George V» الشهير. سان لوران. نينا ريتشي. جورجيو أرماني. يقفون في صف طويل أمام محال «Louis Vuitton»، يمتد من أول الطريق ويصل إلى أحد المفترقات المؤدي إلى منزل الحريري. وهذه محال زارها الرجل، بحكم «الجيرة» وقرب المسافة و«القدرة الشرائية». لن يشتهي الرئيس شيئاً في باريس إلا ووجده قرب المنزل العملاق. حتى تمثال الجنرال شارل ديغول في أول الشارع، يمكن أن يذكّره بتماثيل والده في بيروت، مع الفارق بين الرجلين. وإذا «استوحش» قليلاً، وافتقد للسياح الخليجيين الذين ما عادوا يحجّون إلى ما يسمى «سوليدير» بعد مغادرته، سيجدهم في الشانزيليزيه، وتحديداً القطريين الذين باتوا موضع سجال بين الفرنسيين.
لم يبادر الفرنسيّون إلى القول «شكراً قطر». صحيح أنهم يبيعون قطعاً من تاريخ باريس، لكن ثمة فئة واسعة تصوب الأسئلة وتعارض «القطريين الذين يشترون كل شيء». في الواقع، لا علاقة لهذا بالحريري، ولا بضيفه الجديد الذي يقيم في أحد الفنادق الفخمة. الشيخ مالك الشعار لا يبدو مهدداً في باريس، يقول العارفون إنه يبدو سعيداً في بلاد جان بول سارتر. يتجول بين المطاعم اللبنانيّة في العاصمة الفرنسيّة، مع سائقه الطرابلسي، أغلب الوقت، ويفترش لنفسه «سفرة» طويلة، كما يتصرف بودٍّ مع النُدُل. لم يسبق للنُّدُل اللبنانيين أن رأوا الحريري في مطعم لبناني، غير أن لبنانيين في باريس، عملوا في مطاعم إيطاليّة، يشيرون إلى أن الرجل «يحب الطعام الإيطالي».
«الباستا» تجنّب الحريري عناء الجلوس إلى طاولة واحدة مع لبنانيين. فالمدير السابق للمخابرات والسفير السابق في باريس، الغني عن التعريف، جوني عبدو، «يعاني» في المطاعم اللبنانيّة. يقال إنه لا يستطيع إكمال ما في صحنه من دون التلفت إلى الوراء. لا يعني ذلك بالضرورة أن عبدو يشعر بتهديد دائم. قد تكون عادةً تلازمه منذ كان «متورطاً» في الأمن، وموغلاً في ذلك العمل «النظيف». في باريس يعرف اللبنانيّون جوني عبدو، لكنه ليس مثلاً أعلى، ولا شخصاً مهماً، كما (قد) تكون الحال في بيروت. الناس هناك أفراد لا جماعات. حتى زوجة النائب وليد جنبلاط، السيدة نورا، قد تشاهد تتسوق قرب متحف «لوفر» الشهير، على بعد أمتار قليلة من ضفاف السين. نهر السين الشهير، هناك، حيث يهرول النائب سعد الدين الحريري، ولا تصله أصوات الصواريخ التي تهطل على الهرمل، أو تنطلق من طرابلس على جبل محسن وبالعكس.
لكن الرجل، لا يفوت مناسبة على «تويتر» للتصرف كما لو أنه في لبنان. بيد أن لا قادة محاور بين «سان لازار» و«سان جرمان». قادة المحاور هنا، في طرابلس، وهم بعيدون جداً عن نهر السين. هناك، حيث يهرول الرئيس سعد الدين الحريري.