غالباً ما كان صعود الغرب مرتبطاً في أذهان الغربيين بامتلاك نزعة عقلانيّة ليست متاحة للآخرين. وهذا الكتاب يفنّد هذا الاتجاه بالقول: إنّ العقلانيّة بصورة عامة وخاصةهما خاصيّتان تتّسم بهماالثّقافات كلها
لعلّي لا أبالغ إذا وصفت ما يقدّمه جاك غودي، في مؤلفه "الشرق في الغرب" من نقلة نوعية معرفية مائزة تصطف إلى جانب "الاستشراق" لإدوارد سعيد في إحداث انقلاب في النّظرة النّمطية الغربيّة التي ينظر بها الغربيون إلى الشرقيين. إذ إنه يقدّم رؤية جديدة للعلاقة بين الشرق والغرب عبر تحطيم المقولات التقليديّة المفسّرة للتفوّق الغربي، الواحدة تلو الأخرى. فمع غودي، الشرق ليس كياناً أزليّاً متخلّفاً، ولا الغرب "عقلانيّة" متأصّلة ومتفوّقة في طبيعتها.
تأكيد علاقة "الأخذ والردّ" بين العالمين:
يضع غودي، وبطريقة معكوسة، ملحقاً في غاية الأهمية، يختم به الكتاب، يتحدث فيه بعمق وببحث تاريخي حول الصّلات المبكرة بين الشّرق والغرب، والّتي وسمت العلاقات بتبادل في شتّى ميادين الحياة وفي مقدّمتها التّواصل الثّقافي والعلمي إلى جانب التّجاري والاقتصادي. غالباً ما كان صعود الغرب مرتبطاً في أذهان الغربيين بامتلاك نزعة عقلانيّة ليست متاحة للآخرين. وهذا الطرح لا يبدو عقلانياً من وجهة نظر مؤلّف الكتاب الذي يفنّد هذا الاتجاه بالقول: إنّ العقلانيّة بصورة عامة، أو العقلانيّة بصورة خاصة (المنطق) هما خاصيّتان تتّسم بهما الثّقافات كلها.
يبدأ المؤلف بالتّأكيد أنّ هذا الشكل المتخصّص من العقلانيّة (المنطق) ليس مقصوراً على اليونان وحدهم، بل إنّه كان موجوداً في مجتمعات المعرفة الأخرى في الشرق الأدنى وآسيا، بحيث لا يمكن لأوروبا أن ترى نفسها وكأنها المستفيد الأوحد في هذا الصدد. وعليه فللشرق - بحسب المؤلّف - أن يدّعي كثيراً من الفضل على العديد من هذه المنجزات الإغريقية قدر ادّعاء الغرب الذي أصبح بعد ذلك مهاداً لتطوّر الرأسمالية الصناعيّة ولنظم المعرفة الحديثة.
إدعاءات الفكر الأوروبي :
وتصنيف العالم إلى شرق وغرب هو بحدّ ذاته "خطأ كبير" يُضمّ إلى لائحة المغالطات الكثيرة التي وقع فيها الفكر الأوروبي عند تصنيفه العالم إلى ثنائيات متضادّة: المجتمع الحديث / التقليدي، المتقدّم / البدائي، الرأسمالي / ما قبل الرأسمالي… وهي تصنيفات يعدها غودي "فخّاً" يشوّه أيّ بحث موضوعي. الفروق بين الشرق والغرب جرى تضخيمها لفترة طويلة، لتأكيد "الطابع الفريد للغرب"، الذي أتاح له التقدّم على حساب "نقيضه الشرقي".
من هنا يبدأ الكاتب بتحطيم الفرضيّات التي تحدث نتيجة أسباب "هيكليّة" لتخلّف الشرق، متناولاً ما كان يُعدّ "ميزات دائمة للغرب" في الفكر الاستشراقي، الذي وصل أحياناً إلى حدّ القول بالتفوّق البيولوجي العرقي والاختيار الإلهي. ويعيد الباحث في مؤلّفه تأكيد علاقة "الأخذ والردّ" بين العالمين، مركّزاً بصورة خاصّة على إبراز المشترَك بين المجتمعات التي تتشاطر كلّها إرث الثورة الحضرية للعصر البرونزي: إنّه "الشرق في الغرب"، و"الغرب في الشرق"، في علاقة يمثّل فهمها مدخلاً أساسياً ليس فقط إلى فهم "الآخرين"، بل إلى فهم الغرب نفسه، بحسب غودي. وينطلق المؤلِّف من قناعة بأنّ "أسباب المنجزات سواء في الشرق أو الغرب، ترتبط أكثر بظروف حدوثها" التاريخيّة، وبشكل خاص عبر تراكم "العمليات المعرفية"، لا بسبب "عقلية خاصة" تعطي لمجتمع ما تفوّقاً على نظرائه.
وإن الاعتراف بقيمة الكتابة في النشاط الاقتصادي في أوروبا لم يكن مقتصراً بالتأكيد على تلك القارة، فهناك كما يقول مؤلف الكتاب تعاليم مماثلة في القرآن الكريم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ﴾ إلى قوله ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ﴾ (البقرة: 282). وبالإضافة إلى القيد المحاسبي، لعبت الشّراكات دوراً مهماً في تطوّر التجارة.
وقد عرفت أوروبا نوعين من هذه الشراكات: الأولى عائلية، والثانية تعاقدية. وكانت هاتان المؤسستان ملازمتين بشكل أو بآخر لأكثر العمليّات التجاريّة تعقيداً، كما أنهما ترجعان إلى مراحل تاريخيّة بعيدة ولو لم تَتّسم بالشّكل القانوني نفسه. فقد أنشأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه شراكة مع زوجته السيدة خديجة، إذ كان الشريكان متساويين، بحيث يقدّم أولهما رأس المال والآخر يدير العمل التجاري، وكان هذا شكلاً من أشكال الاستثمار الرأسمالي مزوّداً بتقدير رأسمالي للحسابات. وبناءً عليه يرى المؤلّف أنّ محاولات بعض الأوروبيين اعتبار الشّراكة أيضاً اختراعاً غربياً فيه قصر نظر تاريخي وسوسيولوجي، لأنّ ما نجده في أوروبا ليس سوى إعادة ميلاد مؤسّسة كانت قد وجدت بأشكال شتّى في الشرق الأدنى.
تعرية ادّعاء الغرب "الوعي بالتّفوق" :
يبدأ الفصل الأوّل بمحاكمة المنطق الأرسطي واليوناني، الذي يُعدّ حجر الزاوية في تطوّر العقلانيّة الغربيّة، فيشكّك في المدى الذي أدّاه في التقدّم العلمي. ثمّ يُبرز أنماط العمليّات المعرفيّة الشّبيهة في بلاد ما بين النّهرين، والهند، والصين، واليابان، التي سبقت تطوّر المعرفة الإغريقية. وينتقل في الفصل الثاني إلى بحث تطبيقات العقلانيّة في الاقتصاد مختاراً علم المحاسبة (أو مسك الدفاتر) نموذجاً تحليلياً، نسبة إلى أهميته في تنظيم الاقتصاد التجاريّ الصّاعد في أوروبا خلال عصر النّهضة، وعلاقته الوثيقة بأساليب التّرشيد العقلانية.
ويتابع المؤلّف حديثه عن التجارة الدولية والاقتصاد، في الفصلين الثالث والرابع، حيث يظهر أن الشروط الاقتصادية المسبّقة التي اعتبرها الباحثون ضرورية لنجاح التوسّع التجاري الأوروبي في القرن السادس عشر، كانت موجودة أيضاً إلى درجة كبيرة في المجتمعات الأخرى. وقد اختار الهند نموذجاً لهذين الفصلين، فحلّل بشكل مسهَب حالة التجارة هناك منذ القرون الوسطى حتى العصور الحديثة.
أما الفصلان الخامس والسادس، فيتمحوران حول بنية الأسرة في الشرق والغرب على التّوالي، ودورها في التقدّم الاقتصادي. وفي الفصل السابع، يتناول بنية العمل والإنتاج، مؤكّداً وجود بذور للمرحلة الرأسمالية خارج الإطار الغربي.
جاك غودي نجح دون شكّ في تعرية العديد من النظريات التي مثّلت لفترة طويلة أساس "الوعي بالتفوّق" التي يصوّرها الغرب عن نفسه. وهو يفاجئ القارئ، في أكثر من مكان، بقدرته على التّحليل الموضوعي المتجرّد من الأوهام الأيديولوجية - النفسية التي تظهر أحياناً لدى المفكّرين الغربيّين، عند تناول هذا الموضوع.
نظرية الكتاب على أهميتها ليست متكاملة :
لكن الكاتب، في معرض إسقاط مقولات التفوّق البنيوي، ومنها نظريّات النّظم العالميّة القائلة بالمركز والأطراف (التي لم يكن لنقدها حصّة كبيرة في متن المؤلّف)، لم يطرح نظريّة متكاملة تفسّر أسباب التفوّق ولو المرحلي للمجتمعات. وباستثناء التركيز على أهمية "العمليّات المعرفيّة"، يكتفي غودي في أكثر من مكان بنفي الفرضيّات الأخرى، والإضاءة على سلسلة من الأحداث التاريخية التي وسّعت مع الوقت هامش التفوق الغربي، تاركاً للقارئ الربط في هذا الشأن. وهو ربما بهذه الطريقة، يعيد الاعتبار إلى المجتمعات البشرية المؤهّلة جميعها، لتحقيق التقدم والتحديث، لأنّه "ليس هناك طرف واحد يحظى بمفرده بملامح فريدة ذات طابع دائم بما يمكنه دون سواه من الابتكار".