29-11-2024 07:41 AM بتوقيت القدس المحتلة

الاستيعاب الصعب لانتفاضة «تقسيم»

الاستيعاب الصعب لانتفاضة «تقسيم»

يشبه رجب طيب أردوغان أسداً جريحاً يستهول أن يظهر على غير الصورة التي ظهر فيها حتى الآن. وهو ما يفسر حالة العناد والمكابرة في الاعتراف بالوقائع الجديدة التي فرضتها «انتفاضة تقسيم»


داود أوغلو صامت وتوزيع أدوار بين غول وأردوغان

    
محمد نور الدين

يشبه رجب طيب أردوغان أسداً جريحاً يستهول أن يظهر على غير الصورة التي ظهر فيها حتى الآن. وهو ما يفسر حالة العناد والمكابرة في الاعتراف بالوقائع الجديدة التي فرضتها «انتفاضة تقسيم».

ذلك أن أردوغان لم يذق سوى طعم الانتصارات منذ أن بدأها كرئيس لبلدية اسطنبول في العام 1994. وعندما دخل السجن لإلقائه أبيات شعر كانت فرصة له لتعزيز صورة المظلومية عنده، وصورة الضحية التي كان نجم الدين أربكان يجيدها ليحصد المزيد من الأصوات مع الفارق الكبير في التوجهات السياسية بين أربكان المعادي لـ«الناتو» والغرب، وأردوغان المؤتمن على الدرع الصاروخية ضد روسيا وإيران.

خاض أردوغان ثلاثة انتخابات نيابية، وانتخابات محلية مرتين، وأوصل عبد الله غول إلى الرئاسة. مسيرة حافلة بالإنجازات والمعارك الرابحة.
لكن أردوغان المزهو بانتصاراته، وقع أسير عظمة اعتقد أنها أبدية، فإذا هي أوهن من بيت العنكبوت.
مع ذلك، فإن رئيس الوزراء التركي، في المعارك المتعلقة بالحريات والإصلاح والديموقراطية، استعان بكل التيارات السياسة التي لا تنسجم مع توجهاته الإسلامية، وقد وثق به الليبراليون واليساريون وحتى الماركسيون، ووقفوا إلى جانبه، ولا سيما في معركة إسقاط نفوذ المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية.

وفي الخارج، كان التفاعل مع توجهات أردوغان الانفتاحية غير مسبوق، ولا سيما لدى دول الجوار الجغرافي المباشر، مثل إيران والعراق ولبنان، وخصوصاً سوريا.
غير أن محطة داخلية أساسية جعلت أردوغان ينقلب على من وضعوا يدهم في يده، وبالتالي البدء في إطلاق مشروعه الرامي إلى التفرد والاستئثار والتسلط والهيمنة بما ينسجم مع توجهات أيديولوجية انكشفت حادة بعدها.

هذه المحطة كانت تصفية تأثير المؤسسة العسكرية في استفتاء 12 أيلول العام 2010، الذي تواكب مع تفريغ هذه المؤسسة من كل الجنرالات ومن نواتها العلمانية الصلبة، فكانت الجرأة على اعتقال المئات منهم بتهمة التخطيط للانقلاب على الحكومة وإقالة العشرات، ودفع المئات إلى الاستقالة حتى تكاد تفرغ هذه المؤسسة من نواة صلبة متماسكة يمكن أن تحرّكها الغيرة الوطنية.

أطاح أردوغان حاجز الدفاع الأول والأهم عن النظام العلماني، أي الجيش، فباتت الطريق أمامه، أو هكذا ظنّ، مفتوحة لتنفيذ مشروعه الذي كان في صلب الاحتجاجات التي انطلقت في نهاية شهر أيار الماضي، ووصلت ذروتها في الأول من حزيران الحالي ولم تنته بعد.

فكانت خطوات عملية لـ«أسلمة» الدولة واجتثاث المنظومة العلمانية، وكانت ثقة في استمرار تجاهل مطالب العلويين وفي التصدي لحرية الصحافة والتعبير وتهديد المعارضين، حتى لو كان مسلسلاً مثل «حريم السلطان».
ولم يتردد في إيلاء كل المشاريع الاقتصادية لمقربين منه ومن «حزب العدالة والتنمية»، وجيّر لنفسه، في مخالفة لأبسط قواعد الديموقراطية، التصرف بهواجس وحساسيات ومطالب أكثر من نصف المجتمع الذي عارض سياساته الاستئثارية والاستئصالية.

استشعر أردوغان في نفسه بجرعة هائلة من الثقة بأنه يستطيع أن يتفوق على أعظم السلاطين العثمانيين ويتجاوزهم. صال وجال شاهراً سيفه على الجميع، حتى بات الرعب منه يطال حتى نواب «حزب الشعب الجمهوري» وهم يتحدثون حتى خارج تركيا.
لذلك عندما انفجرت موجة الغضب في «تقسيم» وفي عدة مدن تركية، هال أردوغان أن يحدث الذي حدث، بعدما ظن أن كل شيء انتهى. وما كان لصاحب الانتصارات الستة أن تحمله الأرض وهو يراها تميد تحته، ليس على يد العسكر ولا حتى الأحزاب السياسية، بل على يد نخبة من المثقفين وطلاب الجامعات والمدارس الثانوية والفنانين وأساتذة الجامعات والجمعيات النسائية، التي اختصرت الغضب المتراكم في الصدور من استهداف الحريات الأساسية للمواطن وحقه في الحياة بحرية والاعتراض بديموقراطية.

لقد بات خط الدفاع عن القيم الأساسية للعلمانية والحريات والديموقراطيات في يد المجتمع ونواته الشابة، وهو ما يتجاوز قدرة أردوغان على التحكم به كما تحكم بالمؤسسة العسكرية.
هال الأسد أن يلسعه النحل، فواصل استكباره رافضاً الاعتراف بأن مرحلة بكاملها انتهت وأخرى جديدة بدأت. لذا لم يتصرف كمسؤول في دولة إقليمية كبرى، ولا كرائد لثورة صامتة ثانية. بل أمعن في ارتكاب الأخطاء المميتة وأقبحها بأن يصف المثقفين والطلاب بأنهم لصوص وسارقون، فيما ثبت أن علبة بسكويت واحدة لم تسرق من محل واحد في «ساحة تقسيم» ومحيطها.

وإمعاناً في المكابرة، لم يلغ زيارته إلى المغرب العربي في رسالة إلى أنه لا يزال أسداً بكامل زئيره، وتوعد المتظاهرين بحرب أهلية عندما قال إنه يستطيع أن ينزل إلى الشارع مليوناً مقابل كل مئة ألف متظاهر تحشدها المعارضة.
كما توعد بأنه سيواصل إنشاء مركز تجاري وثكنة وجامع في حديقة «جيزي» في التقسيم.
غادر أردوغان البلاد، وهو يترك كرة النار بيد رئيس الجمهورية عبد الله غول، ونائب رئيس الحكومة بولنت أرينتش.
خرج غول وأرينتش، وقد أدركا حجم الكارثة التي لحقت بسلطة «العدالة والتنمية» في الداخل وصورتها في الخارج. وكانت مواقفهما لافتة في اعتدالها الشديد ووصلت إلى حد اعتذار أرينتش من المتظاهرين، واعتبار غول أن رسالتهم محقة وقد وصلت.

لكن لن يصلح العطار ما أفسده الدهر.
أولا، لأن أي محاولة استيعابية للمتظاهرين ومطالبهم تعني أمراً واحداً: تنحي «حزب العدالة والتنمية» عن السلطة، وإفساح المجال أمام جيل جديد ليقود تركيا إلى بر الأمان، بعدما جنح مركب الحزب في الداخل والخارج وأصابته «انتفاضة» الأول من حزيران بثقب واسع، ليس يصعب، بل يستحيل إغلاقه.

إن تلبية مطالب المنتفضين تعادل ببساطة تغييراً جذرياً في سلوكيات الحزب تجاه كل المكوّنات الاجتماعية المعارضة، والتخلي عن نبرة تحقيرهم والاستهزاء بقدرتهم. لكن التغيير غير ممكن بأدوات قديمة تخطاها الزمن. وفي ظل التغيير المستحيل في السلوك الذي يعني الاعتراف بالفشل، لن تنفع لعبة «توزيع الأدوار» بين قبطان مركب «العدالة والتنمية». وحال سلطة الحزب اليوم، هي تماماً مثل حال الديكتاتوريات والأنظمة المطلقة، غير ممكن إصلاحها إلا بانهيارها. وسقوط رأس يعني تدحرج الرؤوس الأخرى. لذا فإن العد العكسي لـ«العدالة والتنمية» قد بدأ، وأردوغان وفريقه بالطبع لن يستسلما بسهولة، وقد تستغرق عملية الانتقال والتغيير بعض الوقت، لكن لم يعد ممكناً لأردوغان أن يبقى عشر سنوات أخرى في السلطة، بأن يتولى رئاسة الجمهورية حتى العام 2024، فيكون قد تربع على العرش 21 عاماً.

برع منظّرو «حزب العدالة والتنمية» في توصيف «الربيع العربي» وتحليله كانعكاس لحتمية تاريخية. لكن هذه الحتمية وصلت إلى عتبة الباب العالي من دون أن يشعر ساكنوه حتى بلفح لهبها، حتى إذا نظروا ورأوا النار داخل المنزل فوجئوا بها، ولم يجدوا بعد من التوصيفات ما يبرر تفاجؤهم.
أليس لافتاً الصمت المطبق الذي التزمبه صاحب نظرية «العمق الاستراتيجي» أحمد داود أوغلو تجاه ما يجري في ساحة «تقسيم» من حتمية تاريخية؟

     موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه