يجهد صانعو الوثائقي لتسويق مقولتين أساسيتين: أولاهما أن «علويي تركيا لا يحبون النظام السوري»، وثانيهما أنّ «لا علاقة بين الحكومة الأردوغانية والإخوان المسلمين، وأردوغان قطع شوطاًبحل مسألة العلويين
عرضت قناة «العربية» يوم الجمعة الماضي فيلماً وثائقياً بعنوان «علويو تركيا.. زوار بيت الجَمع» الذي كتبته وأخرجته الإعلامية اللبنانية ديانا مقلّد. يحاول الفيلم بحسب تعريف صانعيه «الاقتراب من المجموعة العلوية في تركيا التي تشكل 15 في المئة إلى 20 في المئة من نسبة السّكان... وما تعرّضت له الطائفة من ملاحقات وقمع تاريخي». ويعرض في سبيل ذلك شهادات لعدد من الأتراك، كما يستعرض معلوماتٍ عن وجود الطائفة في تركيا عبر التاريخ.
صهيب عنجريني/ جريدة السفير
للوهلة الأولى يُفاجأ المتابع للوثائقي بإنتاج القناة المعروفة بتوجهاتها الفكرية فيلماً من هذا النوع. فهو في ظاهر الأمر يحاول إنصاف طائفة مضطهدة، لم تفلح محاولاتها بعد في انتزاع حقوقها والاعتراف بها بوصفها مكوّناً أساسياً للنسيج الاجتماعي التركي... لكن الثلث الأخير من الفيلم ذي الدقائق الخمسين سيكون كفيلاً بتوضيح الفكرة التي يحاول الفيلم ترسيخها عن «المسألة العلوية» كما يسميها.
يجهد صانعو الوثائقي لتسويق مقولتين أساسيتين: أولاهما أن «علويي تركيا لا يحبون النظام السوري»، وثانيهما أنّ «لا علاقة بين الحكومة الأردوغانية والإخوان المسلمين، وحكومة أردوغان قطعت شوطاً في حل مسألة العلويين الأتراك»، وأن «الحكم السابق الذي كان علمانياً وهو النظام الكمالي قمع العلويين أكثر» وفقاً لشهادة علاء الدين عباس، والذي يوصِّفه الوثائقي بأنه «ناشط سياسي علوي». عباس ــ آخر المتحدثين في الوثائقي ــ سمح لنفسه بإطلاق حكم شامل على أبناء الطائفة العلوية فهم «أناسٌ غارقون في حبِّ قتلتهم». وفي ظل عدم تقديم الوثائقي شهادة للرأي الآخر فمن البديهي القول إنه يتبنى وجهة النظر هذه.
المغالطات التي طرحها الفيلم كثيرة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المغالطة لا تقتصر بالضرورة على تقديم معلومات خاطئة. فالاكتفاء بتقديم رؤية أحادية في سياق عرض مسألة إشكالية هي مغالطة أيضاً، بل إنها وفقاً لواحد من أبرز المنظرين لماهية الفيلم الوثائقي «ضربٌ من البروباغندا». يقول باري هامب إنّ «الأفلام التي لها دعاية (سياسية أو فكرية أو طائفية أو غيرها)، وتعرض فقط جانباً واحداً، من القضية لا تعد حقيقية إنما منحازة وعندها لا تصنف ضمن الأفلام الوثائقية». من هذه الزاوية فقط يمكن تفسير إغفال الفيلم لبديهيات مثل أسباب حب علويي تركيا لمصطفى كمال أتاتورك، الذي أسس لعلمانية الدولة، وألغى الخلافة العثمانية. وكان طبيعياً في ظل توجهه هذا أن يحدَّ من المظهر الديني للدولة، الأمر الذي اختلف مع السياسة الأردوغانية التي راحت تكشف شيئاً فشيئاً عن توجهاتٍ نحو أسلمة الدولة التركية من جديد.
أغفل صنّاع الوثائقي الإشارة إلى خطوات قام بها النظام السياسي التركي لاسترضاء علويي البلاد، وعلى رأسها قيام الرئيس التركي عبدالله غول في العام 2009 بزيارة إلى بيت الجمع في مدينة تونجلي في خطوة هي الأولى من نوعها. كما قام أردوغان في العام 2010، بالمشاركة في إحياء ذكرى العاشر من محرم.
لكن ذكر هذين التفصيلين يستلزم الإشارة إلى أنهما يأتيان استجابةً للضغوط التي يمارسها الاتحاد الأوروبي على أنقرة اللاهثة للانضواء تحت المظلة الأوروبية (طالبت عدة تقارير أوروبية الحكومة التركية بمنح الأقليات حقوقها الثقافية والدينية والتعليمية).
مرر الوثائقي في السياق عدداً من النقاط التي تستحق التوقف عندها، وعلى رأسها جملة «يمارس العلويون عقيدة توفيقية بين الإسلام والصوفية»، ما يعني أن الصوفية شيء منفصل عن الإسلام! وهذه مسألة إشكالية ما زالت مدار أخذٍ ورد طويلين، لكن الفيلم قرر البت بها! بالمجمل، فإن «زوار بيت الجمع» حاول الإيهام بأن حكومة العدالة والتنمية تسير نحو إيجاد حل للمسألة العلوية... غير أن سخرية القدر جاءت باندلاع أحداث ميدان تقسيم التركي في ليلة عرض الوثائقي ذاتها، وعبر حراك مدني بحت.