مدرسة قطر انتقلت إلى الشاشات اللبنانية وعلى معظمها سواء تلك التي تنتمي إلى هذا الفريق أو ذاك. وتحت عنوان أن "الإعلام يعكس حقيقة المجتمع" لا تجد على الشاشات إلا "رموز الشارع الغرائزي"
في كل مراحل الحرب الأهلية في لبنان عند اشتدادها كان هناك تلازم بين الدعوة إلى وقف النار وإلى وقف الحملات الإعلامية. في بداية الحرب الأهلية في العام 1975 كان الإعلام المكتوب هو الأساس. لم يكن بعد للشاشة ذلك الحضور المتنوع الذي نشهده حاليا مع الإعلام المرئي والمسموع والإلكتروني حيث الأنظار مشدودة إلى المتحاورين بالصراخ والسباب والشتائم والشحن الطوائفي...
* رئيس المجلس الوطني للاعلام عبدا لهادي محفوظ / موقع النشرة
مدرسة "الصراخ" كانت قناة "الجزيرة" هي السباقة مع الإعلامي فيصل القاسم ببرنامجه "الإتجاه المعاكس" حيث كل جهة تتشبث بمواقفها وحيث يغيب الحوار أو يُغيَّب. مدرسة قطر انتقلت إلى الشاشات اللبنانية وعلى معظمها سواء تلك التي تنتمي إلى هذا الفريق أو ذاك. وتحت عنوان أن "الإعلام يعكس حقيقة المجتمع" لا تجد على الشاشات إلا "رموز الشارع الغرائزي" أو من يحاكيهم ويشبههم. واللغة المستخدمة تتدرج من "يا وقح. يا ابن الزانية. الظالم المجرم. الدعوة إلى الجهاد في الداخل اللبناني. لو دخل النبي محمد بحد ذاته. بيلبس تنورة... يا واطي... يا..."
هذه اللغة لم يتعوَّد عليها اللبنانيون في تخاطبهم السابق. فالسباق هو على رفع نسبة المشاهدين كما يتم الإدعاء. وقد يكون الأمر هو أبعد من ذلك. فالحرب الإعلامية تهيئ للفتنة بمفردات الغرائز وإلغاء الآخر ومعه "المشترك" بين اللبنانيين. وبالتالي تكون الكلمة أكثر فعلا من الرصاص. ذلك أن الشارع هو محتقن أصلا ويتم تحريضه بكلام عالي السقف من الضيوف.
وكل ذلك يتم تحت عنوان "الحريات الإعلامية وحرية التعبير". لكن من قال أن حرية التعبير تعني الفتنة الأهلية والقدح والذم والمساس بالسلم الأهلي وبالنسيج الإجتماعي. ومن قال بأن الخبر يتحول إلى رأي سياسي. فبعض الذين يديرون المؤسسات المرئية يعتبرون أن مقدمات الأخبار أشبه ما تكون بالإفتتاحية السياسية لجريدة يومية وبالتالي تتضمن الرأي السياسي...
وهذه مغالطة فالفارق بين المؤسسة المرئية والجريدة واضح لجهة أن من يقرأ المقالة السياسية لا يستخدم "الفضاء" الذي هو ملك عام أعطيت المؤسسة المرئية الحق بالظهور عليه بترخيص مقابل الإلتزام بشروط الموضوعية وبحيث لا تقوم بعملية التوجيه السياسي للخبر لأن الشاشة تدخل إلى كل بيت وتملك تأثيرا كبيرا على الرأي العام عبر الصوت والصورة وهي ملزمة بتقديم الحقيقة تلبية لحق المواطن بالإطلاع والإستطلاع. فالخبر وفقا للقانون هو واحد. والفارق هو في الأسلوب لا في "صناعته" وفبركته وإعطائه الإيحاءات السياسية التي تـُفقده معناه.
في التقرير الأسبوعي الذي يعده المجلس الوطني للإعلام والذي يتناول رصد 75 ساعة للأخبار والبرامج السياسية في المؤسسات المرئية و65 ساعة للمؤسسات الإذاعية السياسية (فئة أولى) يقع المراقب على تفسيرات متناقضة لنفس الخبر بين مؤسسة وأخرى. هذه هي الحال مثلا بالنسبة لمتابعة موضوع القصير أو لظاهرة التمديد للمجلس النيابي أو بالنسبة للطعن بالتمديد أمام المجلس الدستوري. وفي الحصيلة لا تمييز بين ما هو خبر وما هو رأي سياسي ولا أخذ في الإعتبار لضوابط القانون المرئي والمسموع ودفاتر الشروط النموذجية.
وبدلا من تضمين المواقف في مقدمات النشرات الاخبارية بلغة هادئة يتم في أحيان كثيرة التحريض والإثارة السياسية واستفزاز الغرائز ما يدخل بعض النصوص في حكم الإفتراء والقدح والذم دون أي مستند أو دليل. كما أن المراقب يتفاجأ بحجم التغطية الكثيفة لشخصيات هدفها الإثارة وإعطائها مساحات كبيرة و"منفوخة" على الهواء السياسي عبر برامج الحوار ودون مراعاة دفاتر الشروط لجهة منع الترويج والتشهير.
والملاحظ أن بعض مديري الحوارات يتدخلون للحد من التشهير والتصادم وتبادل الشتائم. وهذه ظاهرة صحية، فيما البعض "يتلذذ" بمناخات الشتائم والصراع أو "يتصنع" الإستنكار بحركات تـُشعل النار بين المتحاورين. بعض المؤسسات المرئية اعترضت على "المخالفات" الواردة في تقارير المجلس الوطني للاعلام واعتبرت أن ذلك يشكل تحريضا عليها لدى الرأي العام. وواقع الحال ليس المطلوب سوى تصويب الأداء الإعلامي والإستجابة لقواعد القانون واحترام دفاتر الشروط.
ومن هنا كان "الإتفاق" أن تطلع أولا المؤسسات المرئية على تقارير المجلس الوطني وأن تعطي رأيها بمضمونه وملاحظاتها عليه، لأن الخطوة اللاحقة ستكون إحالة هذه التقارير إلى المدعي العام التمييزي خصوصا وأن اجتماعات سابقة كانت قد جمعت بين ممثلي المؤسسات المرئية والمجلس الوطني للإعلام والمدعي العام التمييزي وتناولت علاقة القضاء بالإعلام والأداء الإعلامي عموما وصلته بتوجيه الرأي العام وامتصاص الإحتقان المتفجر في المجتمع السياسي والأهلي.
أخيرا ثمة سؤال مطروح حاليا ولا يلقى الإجابة المطلوبة: لماذا تغيب وتـُغيَّب النخب الثقافية والأساتذة الجامعيون عن الحوارات السياسية؟ هؤلاء جميعا هم مع فكرة المواطنة والدولة الجامعة ولسان غالبية اللبنانيين. هذا السؤال جوابه الحقيقي ما نلمسه من تفكك الدولة ومن كون لبنان ضحية "لعبة الأمم" بحيث يصبح المطلوب تعميم ثقافة الإنقسام والمخاوف من الآخر. وهنا مسؤولية الطبقة السياسية على اختلافها تتجاوز مسؤولية الإعلام. إذ صحيح مطلوب تصويب الأداء الإعلامي لكن هذا "التصويب" مربوط تزامنا بتصويب الأداء السياسي واعتماد الحوار وتبادل التنازلات.
موقع النشرة