لم تعد الأزمة السورية موضوعا قـُطرياً يخص سوريا وأبناءها بعدما دخلت عليها كل عوامل التدويل. من حق الجميع ان تكون لهم مواقفهم بصرف النظر عن اتجاهاتها
علي عبادي
لم تعد الأزمة السورية موضوعا قـُطرياً يخص سوريا وأبناءها بعدما دخلت عليها كل عوامل التدويل. من حق الجميع ان تكون لهم مواقفهم بصرف النظر عن اتجاهاتها، ما دامت تهدف الى تقديم ما هو أفضل لسوريا في سبيل ان تنتهي من أزمتها- أزمة الجميع وان تستعيد عافيتها التي بها تتعافى المنطقة من تداعيات تبدو متعاظمة.
الرئيس محمد مرسي قال ما لديه عن سوريا والأزمة، قال كلاماً تبدو منه الغيرة على مصلحة الشعب السوري، واصفاً ما يتعرض له من "مجازر" و"اجرام" و"ابادة" و... ، واضعاً المسؤولية كلها على النظام (هل يمكن تبرئة الجماعات المتطرفة من المجازر ؟ هل يمكن تبرئة ممولي ومسلِّحي الجماعات المسلحة من المسؤولية، وبعضهم اصدقاء للحكومة في مصر؟)
من حق الحكومة السورية ان تـَسأل هنا: ماذا عن مجازر الجماعات المسلحة في سوريا: ألم يرتكبوا الكثير منها بالسيارات المفخخة المحملة بأطنان المتفجرات في الشوارع المأهولة في المدن؟ ألم يلجأوا الى القتل الجماعي والنحر وافتخروا بذلك بالصوت والصورة؟ ألم يلجأوا الى السلاح الكيمياوي، كما أكدت كارلا دي بونتي من لجنة التحقيق الاممية في سوريا؟
كلام الرئيس مرسي جاء في سياق مهرجان تضامني مع الشعب السوري اتخذ منحى تعبويا شعبيا، وبدا محاولة للتعويض عما فات الرئيس مرسي من مواقف طوال الاشهر الماضية في خضم الازمة الداخلية الناشبة في مصر. كما جاء توقيته مباشرة بعد المهرجان الذي نظمته في القاهرة الاسبوع الفائت جماعات ذات وجهة متشددة صورت ما يجري في سوريا على انه "حرب على الاسلام والمسلمين" (ممن؟ وهل هناك فريق غير مسلم - بالمعنى العام- في هذه المواجهة؟ ) وتضمن البيان الختامي حملة عنيفة على حزب الله من فئات تجاهر علناً بمذهبة النزاع وتكفر بصورة او بأخرى طائفة كبيرة من المسلمين بسبب خلاف يمكن ان يقع في مكان آخر بين فريقين من نفس المذهب والدين. المهم ان جماعة الاخوان المسلمين في مصر وجدت نفسَها محرجة بسبب هذه التوجهات المتطرفة الفاقعة ممن وصفوا أنفسهم ب"علماء الامة الاسلامية" وجلـُّهم سلفيو التوجه (بالمعنى الضيق للسلفية) او ممالئون لهؤلاء ولا يتقنون غير لغة التحريض ووضع المزيد من الحطب على نار مشتعلة تأكل من رصيد الجميع بدلاً من العمل لمحاصرتها.
جاء مهرجان "الاخوان" في مصر ليميزوا خطابهم عن خطاب الآخرين الذين يريدون القطيعة بين مكونات الامة الاسلامية، وهذا يُحسب للاخوان الذين لا يزال قسم منهم يرى الامور بمنظار المصلحة العامة المحكومة بالعمل المشترك ووضوح الرؤية، بدلا من الانقياد لفئات ذات أجندة محدودة (إن لم نقل ان بعضها مشبوه التوجه) والخوض مع الخائضين. وقد لاحظنا ان بيان جماعة الاخوان المسلمين في مصر يوم 12 يونيو/ حزيران الجاري كان معتدلا نسبيا، وخلا من الإشارات المذهبية، خلافاً لما يشتهي أصحاب الغايات.
غير ان خطاب الرئيس مرسي اتخذ وجهة شعبوية قد لا تتلاءم مع الدور المنتظر من مصر لإطفاء نيران الأزمة. ذلك انه بصرف النظر عمن له الحق او عليه الحق في ما يجري في سوريا، هذا جدل لا طائل منه في هذه الآونة، هناك فرصة أمام الحكومة المصرية وأمام الدول الاسلامية الاخرى للاضطلاع بدور يؤدي الى وقف التدهور ونزع فتيل الازمة. وهذا يحتاج الى جرأة تتجاوز التوقف عند التحليل والتنظير والمواقف المبدئية الى مبادرات عملية تنقذ سوريا من الوضع الحالي ومن مخالب التدخل الاجنبي الماثل.
ويلفت في خطاب الرئيس مرسي النقاط الآتية:
- تباهيه، وهو على حق، بالثورة السلمية للشعب المصري ضد نظام مبارك وتنديده بأي لجوء الى العنف من جانب المعارضة المصرية الحالية، في وقت لا يرى غضاضة في الفساد المتأتي من حمل السلاح في سوريا: هل يجوز في سوريا ما لا يجوز وما لا يُحمد في مصر؟ وماذا لو طورت بعض الدول الخليجية معارضتها لحكم الاخوان المسلمين في مصر وعمدت الى تمويل وتسليح معارضيه، كما تفعل مع معارضي الحكومة السورية، هل كان ليكون لها موقف آخر من هذه الدول؟ ولماذا تحسست مصرُ وأنذرت بعضَ الدول الخليجية من التدخل في شؤون مصر، وتقبلُ ذلك لسوريا حيث يتخذ دعمُ المعارضين طابعاً لا مثيل له من حيث التمويل والتسليح؟ مع التذكير بأن التسليح عاد بعواقب وخيمة على سوريا أمناً واقتصاداً ومجتمعاً، حتى ان العديد من المعارضين باتوا يعتقدون ان مفاسد التسلح المتفلت أكبر من منافعه، علما ان بعضهم يعتقد ان "الثورة" انتهت منذ خطفها "قبضايات السلاح" الذين أقاموا نظامهم الخاص في كل المناطق التي سيطروا عليها، وقد كانوا يفرضون بالقوة اغلاق المحلات التجارية يوم الاضرابات والنزول الى الشارع للتظاهر وأخذوا الناس بالشدة في العديد من المناحي.
- تطرق الرئيس المصري ايضا الى ما وصفها "مجازر النظام" وكرر ذلك مرات ومرات في خطابه، وفي ذلك- كما قد يرى حريصون على دور إيجابي لمصر في ما يجري- تبرير لنوع من الاستقالة من المساعي السياسية التي كان يؤمل ان تكون قاعدة عمل مشترك يضم مصر وايران وتركيا والسعودية .. والواقع ان التردد المصري الرسمي حيال المشاركة في الرباعية الاقليمية قد أدى الى شلل في دور مصر الدبلوماسي حيال الازمة، ربما تلافيا لإغضاب السعودية التي لا ترى أولوية ً أولى من اسقاط النظام السوري واستخدام كل الوسائل لذلك. وبذلك ضاعت فرصة كانت لتعود- لو استـُغلت- بالخير على مستقبل سوريا والمنطقة.
- وفي السياق، لا معنى للإعلان عن قطع العلاقات الدبلوماسية مع النظام السوري الحالي، وهي خطوة ربما يرى خصوم سوريا انها أتت متأخرة كثيرا بعد سنتين ونصف من الازمة، بينما قد يرى حلفاء سوريا انها تهدف لاسترضاء الرياض والجمهور "المتسلف" الذي يضغط على الموقف المصري الرسمي.
- اتخذ الرئيس مرسي موقفاً معارضاً من "عدوان حزب الله على الشعب السوري"، وهو كلام لم يكن ضرورياً لا في التسمية ولا في حدة العبارة، في حين انه يسكت عن استقدام آلاف المقاتلين من اقطار الدنيا المختلفة وهم بالتأكيد أكثر عددا من مقاتلي حزب الله. هل المشكلة في تدخل حزب الله في القتال لحفظ الجبهة الخلفية للمقاومة، ام في محاولته حمل الجهات الراعية للحرب في سوريا ودفعها لليأس من الاستمرار في الرهان على العمل العسكري وإشعال جذوة الحرب، وقد بدأنا نسمع بوادر هذا اليأس من قبل الجماعات المسلحة ومن قبل الجهات الاقليمية والدولية الراعية لهم؟ وماذا عن تدخل كل الاطراف في المعسكر الآخر: لماذا لم يسم واحداً منها، وهل ينفع الكلام العام الملطَّف عن التدخل الاميركي في التسليح: نعارض التدخل الاجنبي؟!
- لقد رفض الرئيس مرسي كل أشكال التدخل الدولي، ثم نراه يدعو لفرض منطقة حظر طيران بإشراف مجلس الامن. وهل مجلس الامن إلا واجهة لشرعنة التدخل الاميركي، كما حصل في تجارب عديدة؟ نحن نعرف ان الحظر الجوي- اذا فـُرض- ستنفذه اميركا حصرا، وسيخدم سياساتها واهدافها حصرا، وما هو الا مقدمة لتدخل اكبر، كما حصل في العراق عندما فرض حظر الطيران في التسعينيات واستمر الى العام 2003 حين جاء وقت حصاد الحصار.
ختاماً، إن لمصر وزناً لا يُنكـَر في المحافل الاقليمية والدولية، وهي الى الآن لم تستخدم هذا الوزن الا في منحى خطابي. ربما يعود ذلك الى انشغالها في هذه الآونة بمشاكلها الداخلية، ولكنه يعود ايضا الى انها لم تـُؤسس لنفسها موقفا مستقلا تماما وما زالت تحت تأثير بعض الدول التي تلعب في الساحة السورية بصورة مدمرة (على طريقة "الأفغنة")، الأمر الذي يلحق اضراراً جسيمة بالوضع العربي والاسلامي عموما. أضاعت تركيا من قبلُ فرصة ذهبية في استغلال علاقاتها مع النظام السوري ومع المعارضة من اجل تقريب المواقف وانتاج حل مشترك بذهابها بعيدا في استفزاز النظام على طريقة تصريحات اردوغان النارية، والآن تسلك مصر – مرسي نفس الطريق وكأن لا أحد يرغب في أخذ العبر والاستفادة من بقية فرص متاحة، لأن البعض يظن ان لا سبيل إلا بركوب الموجة الشعبوية في بعض البلدان، فذلك أخف حملاً وأقل إثارة لحفيظة بعض الدول المتحكمة بالمسار الحالي.