ماذا تفعل هنا يا ولد؟ سأله مؤنبا. فبدأت أُغمم شيئا عن كوني عضوا في النادي، لكنه قاطعني بلا رحمة: "لا تجاوب يا ولد. غادر المكان فورا، ممنوع على العرب ارتياد هذا المكان وأنت عربي..!
ما زلت أذكر كيف حمل الراحل المفكر الفلسسطيني- الأميركي إدوراد سعيد حجرا عند بوابة فاطمة، بعد التحرير، ورشق الإسرائيلي بفخر واعتزاز قائلا إن "حزب الله اللبناني قد حقق له هذه الأمنية الغالية على قلبه قبل أن يدركه الموت". وهو الذي كان يعاني من مرض اللوكيميا منذ عقد وأكثر. وكتبت الصحف اللبنانية والعربية عن لقائه الذي جمعه مع سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، مركزا حواره معه حول المقاومة التي حققت ما عجزت عنه الأنظمة العربية.
إدوار المعنّف عنصرياً ينقلب إلى عروبته :
ولد إدوارد سعيد في القدس، في العام 1935، لعائلة فلسطينية مسيحية. بدأ دراسته في الأسكندرية بمصر، ثم سافر إلى الولايات المتحدة بصفته طالبا، وحصل على درجة البكالوريوس ثم الماجستير والدكتوراه. قضى سعيد معظم حياته الأكاديمية أستاذا في جامعة كولومبيا في نيويورك، لكنه كان يتجول بصفته أستاذا زائرا على عدد من كبريات المؤسسات الأكاديمية. بالإضافة إلى كونه ناقدًا أدبيًا مرموقًا، فإن اهتماماته السياسية والمعرفية متعددة تتمحور حول الدفاع عن شرعية الهوّية الفلسطينية، وعن العلاقة بين القوة والهيمنة الثقافية الغربية من ناحية، وتشكيل رؤية الناس للعالم وللقضايا من ناحية أخرى. ويوضح إدوارد سعيد هذه المسألة بأمثلة عديدة وبتفاصيل تاريخية في مسألة الصهيونية، وترعرعها في الغرب، ويشرح كيف أن الإعلام الغربي والخبراء وصنّاع السياسة الغربية والإمبريالية الثقافية الغربية تتضافر كلها لتحقيق مصالح غربية غير عادلة في نهاية المطاف، وذلك عن طريق إيجاد خطاب غربي منحاز ثقافيًا إلى الغرب ومصالحه.
ولأن الثقافة الانجليزية كانت الغالب على تربيته، في المدرسة والبيت، وحتى أثناء عيشه في البلاد العربية، كان عليه، في نهاية الثلاثين من عمره، أن يستعيد هويته العربية، قبل أن تفلت منه نهائيا، لكن منهجه في استعادتها، جعله حريصا على أن تكون الاستعادة في سياق البحث عن الانعتاق والتحرر من القوالب الجامدة للعائلة والدين والقومية واللغة أيضا. "قراءة تعيد إليّ ما كنتُ أرغب فيه من تكيّف أفضل وأكثر تناغما بين ذاتي العربية وذاتي الأمريكية. وكلما أوغلت في ذلك الجهد ازددت اقتناعا بأني إنما أسعى إلى تحقيق فكرة طوباوية.."
فتكون النتيجة العقلانية أنه: عربيًّ أدت ثقافته الغربية، ويا للسخرية الأمر، إلى توكيد أصوله العربية، وإن تلك الثقافة، إذ تلقي ظلال الشك على الفكرة القائلة بالهوية الأحادية، تفتح الآفاق الرحبة أمام الحوار بين الثقافات". ومن بين تجاربه المبكرة في الاصطدام بالممارسات العنصرية.
يذكر أنه بينما كان في طريق عودته من المدرسة إلى البيت: "عند الغسق عبر أحد الحقول المترامية الأطراف لنادي الجزيرة، اعترضني انجليزي، والد رالف زميلي في المدرسة: ماذا تفعل هنا، يا ولد؟. "ألا تعلم أنه ممنوع عليك أن تكون هنا؟" سأله مؤنبا. فبدأت أُغمم شيئا عن كوني عضوا في النادي، لكنه قاطعني بلا رحمة: "لا تجاوب يا ولد. غادر المكان فقط، وغادره بسرعة ممنوع على العرب ارتياد هذا المكان، وأنت عربيّ!".
تلك الاهانة العنصرية القاسية على نفسية صبي ممزق بين عالمين ولغتين، ستحفر جرحا مؤلما في ذاكرته، لأنها قصدت إشعاره بدونية أهليته رغم عضويته في النادي الأجنبي، وتسفيل أصله، وعزز ذلك أن أباه (الخبير بهذه الممارسات العنصرية) لم يبال بالأمر، حتى أنه:"...بدا وكأنه يوجد عقد استسلامي بيني وبين أبي توافقنا فيه على أننا ننتمي بالضرورة إلى مرتبة دنيا.... كثيرة هي التجارب المؤلمة في سيرة بحث الذات عن هويتها الوجودية في لحظة سلامها مع نفسها بعد اعتراك مضني مع الحياة والاحلام والاوهام. ودائما كان مركز الاعتراك وجوهر سطوته يدور حول الشعور بالنقص الفادح في منسوب الهوية المبددة في التناقضات: إدوارد وسعيد، فلسطيني بدون فلسطين، عربي خواجة، مسيحي بروتستانتي، أميركي الجنسية، من قبل أن يرى أميركا، يبطن هوية عربية أخرى: "لا أستمد منها أية قوة بل تورثني الخجل والانزعاج.."، حتى إنه في لحظة تعنيف المعلمة الأميركية له في الصف، تملكه شعور أن كل من في الصف من الاولاد الأميركيين يحدقون إليه باستهجان وفضول، وتخيلهم كأنهم يتساءلون: :أنه مجرد صبيّ عربي مسكين. فما الذي جاء به إلى مدرسة للأطفال الأميركيين؟ ومِن أين جاء؟".
للثقافة الغربية وشائج خاصة مع الفكر الامبريالي :
كتب العديد من النقاد والمفكرين عن كتاب "الثقافة والإمبريالية" لهذا المفكر الألمعي وجمعيهم أعلوا من شأنه إلى مستوى تمّ اعتباره أنه عظيم في مداه ورحالة أفقه وعلمه، وأنه يعد الجزء الثاني من كتاب "الاستشراق". ولكن هذا الكتاب ليس مجرد حلقة تالية لـ «الاستشراق» بل يهدف إلى دراسة أشكال ثقافية من إنتاج الإمبراطوريات الغربية الحديثة في القرنين التاسع عشر والعشرين كالرواية، التي يعتقد كاتبنا أنها كانت عظيمة الأهمية في صياغة وجهات النظر والإشارات والتجارب الإمبريالية. وهو لا يعني بذلك التركيز المحوري أن الرواية وحدها كانت هامة بل يعدها المشروع الجمالي الذي تمثل علاقته بالمجتمعات المتوسعة في بريطانيا وفرنسا ظاهرة شيقة بصورة خاصة للدراسة. والنموذج الأول للرواية الحديثة الواقعية يجده سعيد في ربونسون كروزو التي تدور «بعيداً عن المصادفة» حول أوروبي يخلق لنفسه إقطاعية على الجزيرة غير أوروبية نائية.
"الثقافة والإمبريالية" كتاب يكشف زيف الثقافة الغربية التي ادعت طوال قرون عمقها الإنساني والحضاري، بينما هي في الحقيقة كانت عملية شائكة ومترابطة إلى أبعد الحدود مع الفكر الإمبريالي للإستعمار عبر التاريخ الغربي خاصة في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. ويرى إدوارد سعيد أنه إذا كانت المعركة الرئيسية في العملية الإمبريالية قد دارت طبعاً من أجل الأرض والثروات لكن حين آل الأمر إلى مسألة من كان يمتلك الأرض ويملك حق استيطانها والعمل عليها ومن استعادها ومن يرسم الآن مستقبلها فإن هذه القضايا قد انعكست ودار حولها الجدال بل حسمت أيضاً لزمن ما في السرد الروائي.
يرصد إدوارد سعيد، على مدى فصول أربعة، بأسلوبه الذي يشكل علامة فارقة لحضوره النقدي المتوهج في العالم، بلغته المتفجرة وكلماته ذات الحقول الدلالية الهائلة، ثقافة الإمبريالية «المتفوقة» بأبعادها وتجلياتها وإبداعاتها المرعبة القبيحة. والثقافة بهذا المعنى هي مسرح من نمط ما تشتبك عليه قضايا سياسية وعقائدية متعددة متباينة، إنها قد تكون ساحة عراك فوقها تعرض القضايا نفسها لضوء النهار وتتنازع فيما بينها كاشفة، مثلاً حقيقة أن الطلبة الأميركيين أو الفرنسيين الذين يُلقنون أو يقرءوا آداب أوطانهم المكرسة «الكلاسية» قبل أن يقرءوا آداب الآخرين، يتوقع منهم أن ينتموا بولاء فيما يزدرون الآخرين أو يحاربونهم.
يؤكد سعيد، في الفصل الثاني، "رؤية معززة" أن الرواية الغربية والإمبريالية حصّنا أحدهما الأخر بحيث بات من الصعب الفصل بينهما في أي بحث نقدي ومنهجي دون التعامل بطريقة ما مع الأخرى. وذلك لأن الرواية في أوروبا ارتبطت بشكل وثيق بالطبقة البرجوازية. فالرواية الإنجليزية في القرن التاسع عشر تؤكد على الوجود المستمر "نقيض الانقلاب الثوري " لإنجلترا وعلاوة على ذلك فإنها لا تدعو أبدا للتخلي عن المستعمرات بل نراها تمارس دورا استعلائيا بجدارة ممتازة في الادعاء بأن رجال الإمبراطورية وثقافة الإمبراطورية هي الأمل الوحيد أمام الأصحاب الأصليين للمستعمرات.
وكان كبار مثقفيهم يعبر بطريقة أو بأخرى بأن انجلترا ينبغي لها أن تحكم العالم لأنها الأفضل والأنبل. "هيغل" يرى في الشرق وأفريقيا بوصفهما ساكنيين واستبدادين ودونما صلة بالتاريخ العالمي، بينما "انجليز" يقول عن الشعب الجزائري في العام 1857 هم عرق يفتقر إلى الثقة والشجاعة لأنهم كانوا مقموعين لكنهم مع ذلك يحتفظون بفظاظتهم وروح الإنتقام المتشفي لديهم فيما يحتلون على الصعيد الأخلاقي مكانة بالغة الإنحطاط.
كان لوجهات النظر الإمبريالية مدى واسع وسلطة لكن كانت لها أيضا قوة إبداعية عظيمة وهي المقدرة على إنتاج صور فكرية وجمالية مستقلة ذاتيا استغلالا غربيا. فلقد ولّدت الإمبريالية الأوربية معارضة أوربية مثل الدعاة لإلغاء قوانين الرق وهي حركات فردية وكان هناك بالمقابل حركة مناصرة للإمبريالية شكلها مجموعة كبيرة من الكتاب والمثقفين. ولكن من المهم أن نلتفت إلى أن إدوارد سعيد لا يتهم هذه النصوص الثقافية، التي أُفرزت في ظل الإمبريالية وعقلية التوسع، أو يوحي بأنها أقل إشاقة من حيث هي أعمال فنية بسبب كونها بطرق معقدة جزء من المشروع الإمبريالي. ولكنه يؤكد في المقابل أنه لم يكن ممكنا للتوسع أن يحدث ويؤدي إلى كل هذه النتائج المذهلة من عقود طويلة من الاستعمار والاحتلال لولا وجود القوة، القوة العسكرية والاقتصادية والسياسة والثقافية الكافية.
برزت أهمية الكتاب في قدرته على الخروج عن فضاء الإخضاع والهيمنة التي تفرضها سطوة القوى. والأمر لا يتعلق بتورخة أو السقوط في دوامة البحث عن السلاسل الزمنية الملازمة للنتاج الإبداعي والروائي الصادر عن الوسيط الثقافي الإمبريالي، بل التطلع هنا يبرز من خلال توجيه الرؤية نحو الاتساع في الوعي التاريخي، باعتبار البحث عن دور الفعل الثقافي في صناعة التاريخ.
ولا يتوقف الأمر عند تحديد هذه العلاقة بل يتخطاه نحو البحث في دالة التفاعل، مع الفاعل الثقافي بوصفه مكافئاً للفاعل السياسي والاقتصادي في تصنيع وتهذيب وتشذيب الظاهرة الإمبريالية. وعليه فإن عمدة الكتاب تقوم على الوقوف على الثقافة بوصفها فاعلاً رئيساً في حفز الفعل التاريخي داخل المنظمة الإمبريالية، التي قيض لها أن تبسط حضورها على الواقع بكل قوة.