عندما هاجمتْ إحدانا بشير الجميّل وسمير جعجع وإيلي حبيقة، قائلاً إنّ الأول كان «يدافع عن وطنه بوجه غزاةٍ أجانب» (قاصداً منظمة التحرير الفلسطينيّة) وإنّه على أيّة حال أفضل من ياسر عرفات!
نتالي أبو شقرا, أميرة عبد الفتاح / جريدة الأخبار
نحن ناشطتان عربيتان في المهجر، يجمعهما النضالُ في مجال مقاطعة داعمي العدو الصهيوني، ومناهضةِ التطبيع، ودعمِ حركات التحرر الوطني العربي. وهنا واحدة من أعتى قلاع الرأسماليّة، وأهمّ حلقات النظام المالي العالمي. فيها يفرّخ المجتمعُ أفراداً تعوزهم القدرةُ على إنشاء روابط اجتماعية متماسكة أخلاقيّاً. وفي غمار هذه الحمّى الفردانيّة، مددنا أيدينا إلى مَن حسبْنا أننا قد نجد في حضرتهم عبقَ الأرض التي جُبِلنا من أديمها وعفويّة أهلها الطيّبين.
هكذا التقينا رجل دين من لبنان، وبدأنا نتردّد على كنيسته التابعة للملكيين الكاثوليك منذ بضعة أسابيع. هناك وجدنا فُسيفساء جميلةً من أبناء الجالية العربيّة كانت تعيدنا إلى رائحة الياسمين الدمشقي، وإلى صوت فيروز مهيباً بنا أن «الآن الآن وليس غداً أجراسُ العودة فلتُقرَعْ»، وإلى جسر المسيّب الذي تغنّى به ناظم الغزالي شاكياً قسوة المحبوب، وإلى هيبة البابا شنودة الذي عاش وفيّاً لعروبته حتى الرَّمَق الأخير.
استقبلنا الرجل بالترحاب، معبّراً عن سعادته بلقاء شابتين عربيتين من تونس ولبنان. في لقائنا الأول تجاذبنا معه أطرافَ الحديث في شؤون الوطن، فأبدى استياءه الشديد من تفاقم ظاهرة التعصب الديني، وجهر بتأييده لعلمنة الدين ومناهضته الشديدة لـ«الجشع المادي» و«الفساد» الطاغي على المجتمعات الحديثة.
دأبنا على حضور قدّاس الأحد كلّما تسنّى لنا ذلك. حتى حلّ يومُ أحدٍ بدأ فيه أبونا صلاته بالدّعاء إلى الله كي يرأف بسوريا الجريحة وبأطفالها المشرّدين، ثم أعقب ذلك بالدّعاء للملكة وللعائلة المالكة البريطانيّة بمناسبة الذكرى الستّين للتتويج! نعم، أبونا دعا للعائلة التي حكمتْ إمبراطوريّة ابتدعتْ فنوناً في إرهاب شعوب المستعمرات وسوْم المتمرّدين ألوانَ التعذيب والإذلال والتهجير؛ إمبراطوريّة ضخّتْ مليارات الجنيهات لتجنيد الجهاديين العرب والأجانب ليخوضوا في أفغانستان حرباً بالوكالة ضدّ عدوّها اللدود الاتحاد السوفياتي، فتقتل المدنيين الأفغان بالعشرات كلّ يوم؛ إمبراطوريّة سوّغتْ إقامة وطن قوميّ لليهود على أرض فلسطين التاريخيّة؛ وتموّل الآن جهاديي المعارضة السوريّة المسلحة وتؤمّن تسليحهم، في خرق تامّ للسيادة السورية وميثاق الأمم المتحدة.
واجهْنا «أبانا» بهذه الحقائق، فتلبّدتْ معالمُ وجهه، وانبرى مدافعاً عن أهميّة طاعة أولياء الأمور و«ممارسة المواطنة عبر الانتخاب»، معيّراً إيّانا بانتمائنا الطائفيّ، وواصفاً إيّانا بـ«المحرضين» و«المعادين للديموقراطيّة». بل اتّهمنا بأنّنا من دعاة تهجير «مسيحيي الشرق» عندما هاجمتْ إحدانا بشير الجميّل وسمير جعجع وإيلي حبيقة، قائلاً إنّ الأول كان «يدافع عن وطنه بوجه غزاةٍ أجانب» (قاصداً منظمة التحرير الفلسطينيّة) وإنّه على أيّة حال أفضل من ياسر عرفات! ثم ذهب إلى أنّ الفلسطينيين «باعوا ثلثيْ أرضهم للصهاينة»، وأنّهم وحدهم يتحمّلون تبعات نكبتهم.
كالصاعقة نزلتْ علينا أكاذيبُه التي نجحت الدعايةُ الصهيونيّة في ترسيخها على مرّ العقود. فصرخنا به أنّ الصهاينة لم يمتلكوا سوى 5% من أرض فلسطين التاريخية عند صدور قرار التقسيم، وأنّ معظمَ مَن باعوا أرضهم عائلاتٌ من كبار ملّاك الأراضي من لبنان وسوريا (أبرزُهم آل سرسق وسلام وتويني والخوري والعيتاني واليوسف والمارديني والقوّتلي والجزائري والعمري)، وأنّ نحو 800 ألف مهجّر لم يرحلوا من تلقاء ذاتهم، بل دفعتهم إلى ذلك المجازرُ المروّعةُ التي ارتكبتْها عصاباتُ «الهاغاناه» و«الإرغون» الصهيونية الحاقدة.
رفض الرجل الإنصات إلى ما عرضناه من حقائق موثقة أتى على ذكرها مؤرّخون عرب وإسرائيليون، كوليد الخالدي وشلومو ساند وإيلان بابيه. وواصل توصيفه للكيان الغاصب بأنه دولة ديموقراطية، وبأنّ «مواطنيه العرب» أفضل حالاً من بقيّة الدول العربيّة. وذهب إلى أنّه «لا يحقّ لنا مناصبة إسرائيل العداء ما لم نحققْ ما حقّقته من ديموقراطيّة وازدهار»! ثم نهض على عجل، ورمقنا بنظرة استخفاف وازدراء، قبل أن يغادر المكان. وما لبثتْ أن وصلتنا رسالة يقول نصّها إنّه «كان يعلم منذ البداية أنّنا مدفوعتان من طرف جهات سياسية إلى كنيسته»، وأنّنا لم نكن نتردّد على الكنيسة «للصلاة أو لتعلّم الديانة المسيحيّة». ثمّ «طردنا» (!) من جنّته الموعودة التي يملك مفاتيحها، متمنّياً لنا «حياة سعيدة».
هكذا، خلال بضعة أسابيع، سقط القناع عن أحد المتدثّرين بلبوس السلام والمحبة والتسامح، فتكشّف الوجهُ الطائفي الانعزالي، الذي يجيد لعبة استدرار العواطف، وأداءَ دور الضحيّة (على الطريقة الصهيونيّة). وما أكثر أمثاله بين ظهرانينا، نراهم كلّ يوم يخطبون، مؤجّجين الانقسامات الطائفيّة، ومدافعين عن العملاء لدواعٍ طائفيةٍ محض. ولعلّ أقرب هؤلاء إلى الأذهان فقيهُ «الناتو» العلامة يوسف القرضاوي، الذي أعلن أنّ «الجهاد ضدّ العلويين والشيعة في القصير خصوصاً، وفي سوريا عموماً، واجبٌ على كلّ مقتدر».
ختاماً، متى يتحرر الدين من ربقة عملاء الاستعمار ومنفّذي أجنداته الخبيثة لتفتيت الوطن إلى أشلاء وإقامة دويلات الطوائف والكانتونات التي يسْهل على العدوّ ابتلاعُها والسيطرةُ على مقدراتها؟ متى يرجع الفنّ الموجّه والدينُ الموجّه نحو التحرير والتنوير على النهج الذي خطّه الزعيمُ الراحل جمال عبد الناصر، علّ هذه الأمة تلملم جراحها وتنهض من كبوتها؟.
* ناشطة مستقلّة من لبنان، وطالبة دكتوراه في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية في لندن
** ناشطة مستقلّة من تونس، ومهندسة رياضيات وكمبيوتر في لندن