29-11-2024 04:55 AM بتوقيت القدس المحتلة

"المستقبل" وإعادة إنتاج "أسير" آخر !

يتصرف أركان تيار المستقبل وبعض حلفائه بصورة المفجوع على انتهاء ظاهرة الأسير! لا ينفك بعضهم منذ انتهاء المعركة التي فرضها الاسير على الجيش اللبناني يتحدث عن قضايا على هامش الحدث، ليشير بطريقة او بأخرى

 

علي عبادي

يتصرف أركان تيار المستقبل وبعض حلفائه بصورة المفجوع على انتهاء ظاهرة الأسير! لا ينفك بعضهم منذ انتهاء المعركة التي فرضها الاسير على الجيش اللبناني يتحدث عن قضايا على هامش الحدث، ليشير بطريقة او بأخرى الى انزعاجه من تلك النهاية المبكرة لظاهرة افترضوا انها مقلقة للمقاومة وستدوم لفترة اطول.

ومنذ ان أنهى الجيش اللبناني تلك الظاهرة الشاذة بممارساتها وخطابها الفئوي، يحضّر فريق "المستقبل" الساحة لولادة "حالة أسيرية" أخرى انطلاقا من البكاء على أطلال صيدا التي كان لهم باع طويل في جرها الى هذا المعترك. لنتذكر جيدا كيف حفظ هذا الفريق بشخص احمد الحريري الامين العام لتيار المستقبل ماء وجه أحمد الاسير بعد قيام تجار صيدا بالاضراب العام الماضي احتجاجا على اغلاق الاسير الأوتستراد الشرقي في صيدا، ما أضر باقتصاد المدينة وحركة التجارة فيها. يومها مدّ الحريري طوق النجاة للاسير وعقد معه صفقة أنهت أزمة اغلاق الطريق مقابل فك الاضراب، فسوّق الاخير النتيجة لمصلحته على انها تجاوب منه مع المساعي السياسية والأهلية. وهذا المخرج أضعف الموقف الرسمي ودفع بعض المسؤولين في الدولة لطلب التوافق مع الاسير وتلبية بعض طلباته وغض الطرف عن كثير من ممارساته، كما ان الموقف الداخلي في صيدا تفكك بسبب اللعبة السياسية التي انجرّ اليها "المستقبل" متوهماً أن بإمكانه خلق توازن مع حزب الله من خلال وضع سلاح الاسير الفوضوي في مقابل سلاح حزب الله المقاوم.

وبدا ان "المستقبل"، حتى في آخر ساعات النزع الاخير من عمر الحالة الأسيرية الدخيلة على مناخ صيدا السياسي، كان لا يزال يرى ان بإمكانه اعادة الاعتبار لها ومساواتها بالمقاومة. فيوم الاثنين 24 حزيران الجاري، وأثناء قيام الجيش بعملياته العسكرية الاخيرة في مجمع الاسير، تقدم رئيس الكتلة النيابية للمستقبل فؤاد السنيورة ب"مبادرة" من 4 نقاط لحل الأزمة صيدا، تطرق من ضمنها الى "سحب المسلحين كل المسلحين من مدينة صيدا، بما فيها المربعات الامنية والشقق المسلحة بما فيها سرايا المقاومة، وتسليم جميع مطلقي النار على الجيش اللبناني". والواقع ان هذا الطرح الذي جاء متأخرا يوضح بجلاء محاولة اعادة الاعتبار للأسير برغم ما فعله بالجيش وحصر المسألة بمطلقي النار على عناصر المؤسسة العسكرية، اضافة الى المساواة بين المقاومة وعناصر الأسير الخارجين على كل عرف وقانون (نتذكر جيدا على الأقل كيف دفن الأسير اثنين من أفراد جماعته في وسط طريق عام دون أن يأبه لأحد).   

أكثر من ذلك، وبرغم اتضاح الامور كالشمس في رابعة النهار، لا يزال فريق المستقبل ومن يدور في فلكه يحاول تأويل ما جرى بهدف إظهار ان الاسير كان ضحية "مؤامرة". ومن يليق بتحمل مسؤولية "المؤامرة" وفق معجم "المستقبل" سوى حزب الله ( نتذكر جيدا كيف قلـّبوا الامور بعد حوادث 7 ايار 2008 في بيروت وكيف ألـّفوا روايات عن حوادث "اغتصاب" لم تقع بغية تهييج الرأي العام، كما فبركوا من قبلُ ومن بعدُ أدلة وشهادات عن مسؤولية حزب الله عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري). لنعد الى السنيورة يوم الاثنين 24 الجاري ايضا، حيث اعتبر في تصريح له ان الاسير "وقع في فخ نصبه فريق من حزب الله  ليشتبك مع الجيش"! . والسنيورة على عادته في التأليف والتأويل يبدو واثقاً، ومع ذلك لا يوضح لنا كيف كان شكل هذا الفخ، ولماذا وقع فيه الأسير بطيب خاطر، معلناً الحرب على الجيش، وداعياً الى الانشقاق عنه. "المستقبل" لا يحتاج الى إبراز أدلته، فهو أدمن لغة الاتهام منذ زمن طويل، بحيث لم يعد بمقدوره ان يتروى قبل ان يطلق العنان لمخيلته في شيطنة الآخر ومحو إنجازاته الوطنية الكبرى. 

والآن، بعد هذه الحصيلة المرتفعة من شهداء الجيش خصوصاً، وهذه الخسائر الكبيرة في استقرار صيدا وحياتها المدنية، يبحث اركان فريق المستقبل عن شمّاعة يعلقون عليه المسؤولية الكبرى، وهي في نظرهم ليست الا المقاومة، إن كان عبر شقتين ( يا لهول فعلهما!) لحزب الله في عبرا، او عبر سرايا المقاومة ( هل تستحق هذه الاتهامات الكبيرة؟) او تكرار مزاعم عن وجود مقاتلين من حزب الله الى جانب الجيش في صيدا، وغير ذلك من ادعاءات تظهر الحنق مما جرى ومحاولة تعميم الخسائر على نطاق أوسع. والواضح ان "المستقبل" محكوم بمزاج سياسي حاد لا يرى الا حزب الله مسؤولا عن كل خطايا البشر انسجاما مع النظرة السعودية التي قررت مقاطعة حزب الله واعلان الحرب عليه بكل وجوهها. والملاحظ ان هذا الفريق الذي فرض نوعاً من الحصانة حول الاسير حتى آخر لحظة، يتجنب حاليا الاشارة الى الأسير وحصيلة ارتكاباته بحق الجيش وبحق صيدا وأمن البلد عموما. ولو كان الصدام  بين الجيش وحزب الله لكانت ردة فعلهم شيئاً آخر تماماً.  

وبعد، فإن أخذ العبر مما جرى يتطلب ممارسة ًمسؤولة تغلـِّبُ مصلحة صيدا على الحسابات الخاصة. ولو أردنا العودة الى الوراء، لكان أسهل تدارك كل هذه الخسائر لو ان تيار المستقبل وسواه من القوى التي تعبئ الشارع ثم تنقاد له، اتخذت موقفا جريئا من البداية حيال تصرفات الأسير الخارجة على كل آداب الخطاب واحترام القوانين العامة، بدلا من تبريرها ووضعها في مقابل سلاح المقاومة او سرايا المقاومة. البلد احتمل ويحتمل الكثير من الاخطاء، لكن الرهان على التعرض الدامي للجيش والعودة من هذه العملية بسلام كان ضرباً من الغباء الكلي. وعلى الجميع الاقلاع عن محاولة توهين هذه المؤسسة من طريق "خبريات" تخفي وراءها ضعف التزام ازاء دعم الجيش بل والسعي لتوريطه في صدام مع المقاومة لا مصلحة فيه الا لإسرائيل.    

لا يزال بعضهم يتصرف من منطلق عدم إعطاء علامة جيدة للمؤسسة العسكرية الا اذا اتخذت خيارا انتحارياً وعبثياً بضرب المقاومة وهي مقوّم استراتيجي للبنان على المدى البعيد. وهم يقيسون حساباتهم السياسية الصغيرة بعيدا عن حسابات هذه المؤسسة التي تأخذ مصلحة لبنان في الاعتبار وتنظر الى المقاومة على انها قوة استثنائية تتمتع بالرشد والحكمة وحسّ الترفع وتعرف كيف تمتص الصدمات وكيف تتحرك حين تقرر التحرك. والواقع انه بعد تجارب من الشكوك ومحاولات قوى سياسية الوقيعة بينهما، عرفت هاتان القوتان كيف تتآلفان على أرضية مشتركة إدراكاً لأهمية الافادة من الضمانة الوطنية التي يمثلها الجيش اللبناني ومن قدرة المقاومة الردعية في وجه "اسرائيل". 

إن سلوك "المستقبل" ومن يدور في فلكه انكشف عن نظرة غير ودية تجاه المؤسسة العسكرية لم تكن بمستوى التحدي الذي واجهه الجيش في صيدا، وتركيز هذا الفريق على التظلم حيال مسائل مثل الشقتين وسرايا المقاومة، وهي مسائل لم تشكل تحدياً للجيش وهيبته او استفزازا يذكر للشارع العام، إنما يؤسس لولادة ظاهرة أخرى من ذراع ذلك الساحر الذي يبدع في استنساخ تجارب تزيد مناخ التأزم السياسي في البلد.