ليس من السّهل أن تتبع فكراً غزيراً كفكر السيّد فضل الله، فالحوار يمثّل منهجاً في تكوين فكر السيّد فضل الله، وطبيعة فكر السيّد فضل الله تكمن كفكر متحاور ينضج وينمو في ظلّ الحوار
لمناسبة الذّكرى السنويّة الثّالثة لرحيل العلامة السيّد محمد حسين فضل الله(رض)، عقد المؤتمر الأوّل حول فكره تحت عنوان "رائد الوحدة والحوار"، أقامته مؤسسات سماحته(رض) في قرية السّاحة التراثية، بحضور النائب أيوب حميد ممثّلاً الرؤساء الثلاثة، والسفير الإيراني غضنفر ركن آبادي، وممثل الصّندوق الوطني الكويتي للتنمية نواف الدبوسي، الشّيخ محمود مسلماني ممثّل مفتي الجمهورية اللّبنانيّة الشّيخ محمد رشيد قبّاني، ممثل شيخ عقل الموحدين الدّروز الشيخ نعيم حسن، الشّيخ سامي أبو المنى، الشّيخ عبد الحليم الزهيري، رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، ممثّل قائد الجيش العماد جان قهوجي، العميد فؤاد الهاوي، الأستاذ رامي سعود ممثّل العماد ميشال عون، العقيد صلاح حلاوي ممثّلاً مدير عام الأمن العام اللّواء عباس إبراهيم، المقدّم أنور حمية ممثل مدير عام أمن الدّولة، وعدد من الشّخصيّات والفاعليّات السياسيّة والدّينيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة.
بعد تلاوة القرآن الكريم والنّشيد الوطني اللبناني، ألقى العلامة السيّد علي فضل الله كلمةً أشار فيها إلى الجهد الكبير للسيّد فضل الله في مجالي الحوار والوحدة، ومواجهة الغرائز والعصبيّات، متوقّفاً عند جملة من النقاط، أبرزها الدعوة إلى إحياء فلسفة الأخلاق وفقاً لمنهجيّة السيد فضل الله(رض)، الّذي حاور في كلّ الظروف، وحاور كلّ النّاس.. وإذا كان الاختلاف هو طابع الحياة، فإنَّ غياب مرجعيّاته الأخلاقيّة، يجعل الأمور تفلت من عقالها، ليتحوَّل الاختلاف إلى سلاح خطر، بينما يكون الاختلاف في حضرة الأخلاق صحيّاً وسليماً، حيث لا مفاعيل سلبيّة له.
ودعا سماحته إلى قيام كلّ التيّارات الفقهيّة والمدارس الدينيَّة، بالبحث العلميّ والفقهيّ والعقائديّ، محذّراً من الجمود والتحجّر في الموقف والسّلوكـ مشيراً إلى أنّنا بحاجة إلى حركة علميّة ورؤية تناقش كلّ شيء، وتعيد تعريف المصطلحات حتّى في إطار فهم المقدّسات. ورأى أنّ السيّد المرجع كان يرى أنّ الناس في عمقهم وحدويون، وأن الحقد ليس حقيقة النّاس، ودور الوحدويّين أن يذكّروا النّاس بعمقهم الّذي يطلّ على الوحدة والحوار.
وأكّد أنّ العلامة فضل الله كان يرى أنّ المستقبل هو مستقبل الدّعاة إلى الوحدة، وليس لدعاة العصبيّة والأحقاد، فهؤلاء عابرو سبيل في طريق البشريّة، والمستقبل هو للكلمة الطيّبة الّتي أصلها ثابت وفرعها في السّماء. وتوقّف عند رؤية فضل الله لمواجهة الغلوّ والخرافة، حيث دعا كلّ مذهب إلى مراجعة نقديّة في داخله، وأكّد على المشتركات..
وخلص إلى ضرورة أن تبادر كلّ فئة إلى العمل لمراجعة نقديّة ذاتيّة، أن تراجع أداءها وتعيد النّظر فيما تتبنّاه وتمارسه من أفهام، من خلال مقاربات منهجيَّة موضوعيَّة، مؤكّداً أنّ أحد أبرز عوامل التقريب بين المذاهب، هو إزالة كلّ مذهب لشوائبه، مشيراً إلى أنّ السيّد كان حاسماً وواضحاً في مواجهة الخرافيّين وعدم مجاملتهم.
جلسات المؤتمر
الدّكتور عدنان السيّد حسين
وفي الجلسة الأولى للمؤتمر الّتي ترأسها رئيس الجامعة اللّبنانيّة، الدّكتور عدنان السيد حسين، والتي عقدت تحت عنوان "آفاق الوحدة والحوار"، تحدث السيّد حسين عن السيّد فضل الله الّذي كان وحدويّاً بامتياز، وكانت الوحدة الإسلاميَّة محور عمله في حياته، وقال: "قد لفتني قوله إنّ هناك مذهبيَّة عشائريَّة وطائفيَّة وليست فكريَّة في معظم ما نواجهه، وصوَّب ذلك بأنّنا نقبل المذهبيّة الفكريّة ونرفض المذهبيّة العشائريّة".
وأشار إلى أنّ السيّد "رفض إقفال الحوار مع الآخر، ودعا إلى ممارسة الحوار بالّتي هي أحسن، وهو الأمر الّذي لا نجده في الإعلام اللّبناني والعربي، داعياً وزير الإعلام في لبنان والمعنيّين، إلى منع الإعلام التحريضي، حتى لا تنفجر القنبلة التحريضيّة في واقعنا". وحثّ السيّد حسين على "فهم رؤية السيّد فضل الله الحواريّة، ودراستها بعمق وموضوعيّة، كونها تشكّل منهجاً مهمّاً للدّارسين والعاملين".
آية الله التّسخيري
كانت كلمة لاية الله الشّيخ محمد علي التسخيري من إيران، وجاءت تحت عنوان: "ملامح الشّخصية الوحدوية عند سماحة السيّد فضل الله"، وجاء في كلمته: "فقدنا عملاقاً حواريّاً كبيراً، ومن عرف السيّد فضل الله(رض)، عرف فيه المفكّر الذي يطرح الطّروحات الّتي يقيم عليها الدلائل، وهو المجتهد الحقّ الذي درس على كبار العلماء.. فإذا تمت له عمليّة الاستدلال، راح يصّرح بها دون أن يوقفه أحد.. إنّها حقيقته التي أعلنها دون مواربة، وسواء اتّفقنا معه أو اختلفنا، فعلينا أن نُكبِر هذه الرّوح..".
وأشار التسخيري إلى التّجديد الفقهي لدى السيّد فضل الله(رض)، مشيداً بذلك، مؤكّداً في الوقت نفسه الاختلاف معه في مسألة ولاية الفقيه. وتوقف عند دعوات السيّد إلى الحوار، مؤكّداً أنّها دعوة إلى الحوار الواعي الذي لا ينحرف عن الأساس، مشيراً إلى أنَّ إيمان السيّد فضل الله كان عميقاً في مسألة التّقريب بين المذاهب الإسلاميّة، وأن المجمع العالمي للتّقريب بين المذاهب، يشعر بعظيم الخسارة لفقد السيّد فضل الله.
وأشاد التسخيري بالمواقف السياسيّة لسماحة السيّد فضل الله الّتي كانت ثابتة، على الرّغم من كلّ ما واجهه حتّى من بعض المقرّبين منه، من الذين لم نتوقّع منهم هذا الابتذال.. كما أشاد بجهود السيّد في رعاية الحركة الإسلاميّة، وجهده في نشر الوعي من خلال حضوره المؤتمرات الإسلاميّة في العالم العربي والإسلامي وفي بلدان الغرب. وقال: "لقد كان صاحب مدرسة فكريّة غذّت الكثيرين بالفكر الأصيل.. ولقد شهدت له مواقف كبيرة، وحرصاً شديداً على دعم مسيرة الجمهوريّة الإسلاميّة، وهذا ما شهد به السيّد علي الخامنئي في بيانه التّأبيني.. ومن مواقفه الكبرى، موقفه ضدّ الكيان الصّهيونيّ، حيث واجهه وفضح أساليبه، وهو ما يفسّر أيضاً رعايته للمقاومة، وهو يُعتبر بحقّ المرشد للمقاومة الإسلاميّة".
الشيخ مرسل نصر
ثم ألقى الشيخ مرسل نصر كلمةً تحت عنوان: "الرؤية التجاوزية للوحدة والحوار لدى السيّد فضل الله(رض)"، فقال: "وكأني بسماحة المرحوم آية الله الفقيد العلامة السيد محمد حسين فضل الله ردّد القول:
سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم وفي اللّيلة الظّلماء يُفتقد البدر
أجل، نذكر سماحته في كلّ يوم، وبخاصّة في هذا الزّمن الّذي لم يتأسّ الصّغير بالكبير، ولم يرأف الكبير بالصّغير، وأصبح النّاس كجفاة الجاهليّة، لا في الدين يتفقّهون، ولا عن الله يعقلون، ليس فيه شيء أخفى من الحقّ، ولا أظهر من الباطل".
أضاف: "أجل، نذكره ونتذكّر عدله واعتداله في القول والفعل، في مثل هذا الزمن الذي تقاذف فيه المسؤولون الاتهامات، وتبادلوا السجالات، وقد تركوا أدب السياسة، وتغاضوا عن مصالح الشّعب والوطن، وتجاهلوا عمّا يحيط بنا من المخاطر الّتي تتجلّى بتسابق الدّول إلى التدخّلات، وما يعانيه الشعب من المصائب، والتفنّن في تمزيقه وإفقاره، فباتت قضيّة الوحدة والحوار في تفكير السيّد(رض) حلماً يراوده لتخليص هذه الأمّة من الفرقة والتمزّق والخلاف المستمرّ على مستوى الحكّام والطّوائف والدّول والشّعوب، فكان سبّاقاً إلى الردّ على الّذين يحاولون تفريق المسلمين على أساس اللّون والعنصر والدّين والطّائفة الّتي يريد البعض إثارتها بطريقة أو بأخرى".
وقال: "وقد عرفناه من كبار الأئمّة المجدّدين، وكان يسعى جاهداً إلى التّقريب بين (مدرسة الخلافة) و(مدرسة الإمامة).. وكان يسعى دائماً إلى التصوّر العمليّ الّذي يمكن أن يقبله السني والشيعي دون كلفة على تحقيقه، ويمكن أن يحقّق الهدف الوحدويّ أو التقاربيّ، على الأقلّ بين أفراد الأمّة، حتى لا يكون التشيّع عقيدةً ذاتيّة محوريّة في نفس الشيعيّ، وأن لا يكون التسنّن في نفس السنّيّ عقيدة ذاتية يتعصّب لها لتأكيد ذاته، بحيث لا يقبل أحدهما الآخر منذ البداية، بل على الجميع أن يفكّروا في مسألة واحدة، وهي أنّهم مسلمون أوّلاً، وأنّ التسنّن وجهة نظر في فهم الإسلام، والتشيّع وجهة نظر في فهم الإسلام، وعلى الجميع أن يرجعوا إلى قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}[النساء : 59]".
الجلسة الثّانية : الحوار الإسلامي المسيحي
الجلسة الثّانية حملت عنوان: الحوار الإسلامي المسيحي، فقد ترأسها المطران كيرلليس بسترس، الّذي تحدّث عن مسيرة السيّد فضل الله في الحوار الإسلامي المسيحي، قائلاً: ليته يعود، وليت هذه الرّوح تعود إلينا، وخصوصاً في هذه المرحلة.
وألقى الأستاذ محمد السماك كلمةً تحت عنوان: "مشتركات الأديان الإسلاميّة ـ المسيحيّة من وجهة نظر السيّد محمد حسين فضل الله"، فأشار إلى أنّ السيّد فضل الله(رض) كان يقول بأنّ المسيحيّين مؤمنون حتّى وإن لم يقولوا بنبوّة النبيّ محمّد(ص)، لأنهم يقولون بالإله الواحد.
وأشار إلى أنّ السيّد كان يؤكّد أنّ المسلم لا يمكن أن يسمح لنفسه بالإساءة إلى مسيحي أو إلى ايّ إنسان، فرسول الله كان يقول إنّ المسلم هو الّذي سلم الناس من يده ولسانه، فأيّ مسلم هو هذا الّذي يقتل النّفس الّتي حرّم الله، ثم يعتبر أنّ ذلك جهاد؟!..
وقال: "لقد كان السيّد فضل الله في كلّ ما قال وكتب، أميناً لله ورسوله، وتحمّل في سبيل ذلك الكثير، وأساء إليه الكثيرون، ولكنّه استمرّ في الخطّ نفسه، داعياً بالحكمة والموعظة الحسنة... لقد وقف حياته من أجل الوحدة الإسلاميّة، ولكن أين هي هذه الوحدة الآن؟!".
وتوقّف عند رؤية السيّد فضل الله للمذهبيّة، مشيراً إلى أنّها تمثّل وجهة نظر، والمرجعيّة هي للقرآن الكريم، مؤكّداً أنّ التعارف الإسلامي ـ الإسلامي، والمسيحي ـ المسيحي، كمقدّمة للتعاون الإسلامي ـ المسيحي، هو الصّرح الذي تقوم عليه الوحدة.
وأشاد بالسيّد فضل الله قائلاً "إنّه كان رجل حوار ومن طراز نادر، فهو لم ينظر إلى الحوار من برج عاجيّ، بل عاشه وعمل له في السّاحة الإسلاميّة والمسيحيّة، وكان رافضاً للإلغائيّة...".
السيّد جعفر فضل الله
وكانت كلمة لنجل الرّاحل، السيد جعفر فضل الله، تحت عنوان: "ضرورات ومعوّقات الحوار الإسلامي ـ المسيحي كما كان يراها السيد محمد حسين فضل الله"، حيث أشار في بدايتها إلى أنّ رؤية السيّد فضل الله تملك من ذاتها قابليّة الحوار والنّقاش والاحترام للآخر. وأضاف: "الحوار ضرورة، حيث لا حياة بدون حوار، حتّى كأنّ الإسلام كلّه حركة حوار، والسيّد فضل الله كان يؤسّس لاعتبار الحوار مع الآخر ضرورة فكريّة في مسألة تشكيل الهويّة الفكريّة.. لقد حوّل السيد ساحة الحوار إلى ساحة مشتركة لاكتشاف الحقّ والحقيقة الّتي قد تكون ضائعة، فالحقيقة قد تحتاج في واقعها إلى جوانب حواريّة متعدّدة، والفكر الأقوى هو الفكر الّذي يختبر نفسه مع الأفكار المضادّة، والفكر الأقوى هو الفكر المحاور".
وأشار إلى أنّ "السيّد طرح أن يجتهد المسلمون في معرفة المسيحيّة وفهمها، وأن يجتهد المسيحيّون في فهم الإسلام من خلال مصادره الأصيلة، والسيّد يطرح الاجتهاد كقاعدة لفهم الآخر بعمق، والاجتهاد يفترض المعاصرة". وقال: "كلّ فكر قابل للحوار، وليس عند السيّد أيّ فكر غير قابل للحوار، إنّه يضع المسألة في إطار اجتماعيّات المعرفة، فالمسألة ليست أفراداً يحاورون أفراداً، بل تصبح مناخاً عاماً يلامس كلّ جوانب الحقيقة والمعرفة للوصول إلى الحقيقة الحاسمة، لأنّ احتكار المعرفة وانغلاق الحوار مرفوض عند السيّد، وعندما يقوم الحوار على أساس علميّ، فلن يكون هناك مقدّسات في الحوار كما كان يرى السيّد.. فالعقل في الإسلام هو الأساس، به تكتشف الله وتؤكّد وحدانيّته، ومن الطبيعيّ جدّاً أنّ ذلك يفترض الحريّة في الحوار...".
الأب ضو
وكانت كلمة الأب الدّكتور فادي ضو، والتي جاءت تحت عنوان "الحوار الإسلامي ـ المسيحي.. المنطلقات والأهداف، بالاستناد إلى رؤية السيّد محمد حسين فضل الله"، وجاء فيها: "ليس من السّهل أن تتبع فكراً غزيراً كفكر السيّد فضل الله، فالحوار يمثّل منهجاً في تكوين فكر السيّد فضل الله، وطبيعة فكر السيّد فضل الله تكمن كفكر متحاور ينضج وينمو في ظلّ الحوار.. وفكره هو في حوار دائم مع ذاته، وعقله حوار دائم مع الله، وقلبه في حوار دائم مع الحبّ، فهو شكّل مغامرة تجرّأت في أن تسير في طريق الحقيقة، وتركت للتّجربة أن تجدّد مسارها"..
وأشار الأب ضو إلى "أنَّ فكر السيِّد فضل الله هو فكر حديث، قلَّ أن نجد مثله في الشَّرق، وهو شخص جريء، يضع حتّى الإيمان قيد التأمّل والتفكّر...". وتوقّف الأب ضو عند منطلقات السيّد فضل الله في الحوار، "حيث لا مقدّسات عنده في الحوار، فيصبح الحوار طريقاً لاكتشاف الآخر، ولكي يُثري الإنسان الآخر. وعند السيّد، أنّ الحوار الّذي نقيمه مع الآخر هو غنى للإنسان المحاوِر والمحاوَر، وعند السيّد، أنّ قضيّة الحوار هي قضيّة الحياة؛ حوار المطر مع الأرض، حوار الزّهور بألوانها... الحياة عند السيّد تتحاور كلّها مع بعضها البعض، ولكن بصمت.. ولكن المشكلة هي أنّ الإنسان وحده هو الّذي يريد أن يفرض نفسه على الآخر.. إلا أنّ السيّد يرى أنّ التعدّدية هي الأساس، وأنّ علينا أن نتواصل ونتحاور لما فيه مصلحة الإنسان، كلّ الإنسان".