28-11-2024 03:28 AM بتوقيت القدس المحتلة

جاءوا إلى بلادنا ليبنوا لنا أمة!!..

جاءوا إلى بلادنا ليبنوا لنا أمة!!..

توجهت مع الضابط الأميركي"غراي" ونحن نلبس خوذات "كيفلار" العسكرية وسترات واقية من الرصاص في شوارع العراق رأينا أطفالا يلوحون لنا لم يستطع "غراي" أن يؤكد ما إذا كان يحب مهمة بناء الأمم التي يقوم بها

أطفال عراقيون يرمون الدبابات الأميركية بالحجارةتوجهت مع "غراي" (ضابط في الاستخبارات الأميركية وقائد فريق سيكو مسكي) ونحن نلبس خوذات "كيفلار" العسكرية وسترات واقية من الرصاص عبر شوارع جانبية مكتظة بأطفال يلوحون لنا ورجال جالسين على الطرقات. لم يستطع "غراي" أن يؤكد لي ما إذا كان يحب مهمة بناء الأمم التي يقوم بها. كان يدرك تماما التناقض الذي وجدت الكتيبة نفسها فيه، حيث قال :"‘إنني لا أحب هذه المهمة ولكني سأقوم بها".


هذه القصة جزء من قصص مختلفة أوردها الصحافي المراسل لإحدى الصحف الأميركية "تي ترنت غيفاكس" والمرافق للقوات الأميركية في العراق في مقال تحت عنوان "الطريق إلى الفوضى" في العدد الصادر في 15 يوليو 2003، يصف فيه "مصارعة الجنود الأميركيين المنتصرين لبسط الأمن في العراق" يبدو أن مهمة بناء الأمم هي ما يشغل بال الأميركيين بالفعل سياسيين وعسكريين وصحفيين !! ولكنها مهمة شاقة وصعبة في ظل سياسة بلدهم التي ما تزال غامضة بهذا الخصوص، إضافة إلى "أن الجنود لم يحصلوا على المواد اللازمة لبناء الأمم".

ظروف تعيق مهمتهم "المقدسة" :
الصحافي "تي" يؤكد باقتناع بالغ أن جنود بلاده حتما يرغبون ببناء الأمم التي يدخلون إليها بالجحافل العسكرية، إنما هي الظروف الموضوعية التي تعيق مهمتهم "المقدسة" !!. ثمة مناظرة فعّالة هنا يقدمها "تي" وهو يتحدث عن هذه الصعوبة التي يلاقيها الجنود والقادة في العراق. فهو يتحدث في جهة أخرى عن سبب ثان لهذه الصعوبة هو أن الناس "لا يرحبون كثيراً بوجودنا حولهم".. فهم ملامون طبعا وفق تعبير "تي" فهي مهمة سهلة بالأساس ولكن هناك أناس يجبرونهم دوماً على استعمال لغة السلاح!.. فهو يصف إحدى الحوادث :"اقتربت سيارتنا من منزل داهمه الجنود قبل يوم..

اقتحام البيوت الامنة والعزل كانت أحد اشكال الحضارة الأميركية التي حملوه إلى العراقباختصار شديد أنه بعد عملية مداهمة وتفتيش تم الاستيلاء على عدد من الأسلحة المختلفة ومبالغ طائلة بالعملة الأميركية، ومرة أخرى يضطر "غراي"، ليس معه مترجم، إلى التفاهم عن طريق الإشارات والتمثيل واللغة المتسمة بالمبالغة التي تستخدم للتفاهم مع المصابين بالسكتة الدماغية، في الوقت الذي كانت فرقة سيكومسكي تقلب المكان رأسا على عقب .. فاتصلت النسوة بقريب لهن يتكلم الإنكليزية الذي تمكن من التفاهم مع القوة محاولا تبرئة قريبه، المعتقل منذ فترة "إنه شرطي وعليكم أن تفهموا أننا نريد سلاما جديدا يبدأ بالنسبة إلينا تماما بالطريقة نفسها التي بدأ بها بالنسبة إليكم".. فرد عليه "غراي":"هذا جيد فنحن نريد أن نكون أصدقاء، فهمس هاشم نعم ولكنهم جعلوني أجلس على الأرض. في نهاية الأمر غادر "غراي" المنزل مع فرقته، وخلال الطريق علّق بالقول :"لقد سمعنا من ذلك الرجل المتأنق هراء كثيرا.. إنني أبغض هذا النوع من العمل. أولا لأننا لم نأت إلى هنا لنتصرف بوضاعة بل أتينا لإعادة ترتيب الأوضاع في البلد على نحو سليم..".


يشعرون بأن صبرهم قد عيل:
إنها لجديرة بالتأمل هذه المناظرة الأساسية التي يقيمها "تي" في موضوع مقاله. فهي مرتبطة بعمق شديد بالمترسب الإمبريالي في الثقافة الغربية عموما والأميركية خصوصا، وتبين كيفية تمثيل "أهل البلد الأصلينيين" أو الأصلينيين في وسائل الإعلام الغربية، فهو عندما يبيّن مدى حرص "الضابط غراي" على القيام بمهمته العسكرية – الدبلوماسية، بين شعوره المتناقض تجاهها، فهي عظيمة من جهة لأنها مهمة أسلافه الذين كانوا ينشرون الحضارة بين شعوب العالم، لكنه يستصغر نفسه أحياناً من جهة أخرى لأنه يدعنا نرى بأم العين مع أي رعاع هم يتعاملون!!.. وأن الأسلحة منتشرة في بلادهم "أكثر من انتشار البعوض" ..فهولاء الناس لا يساعدونهم على القيام بواجبهم كما يجب؟!!..


الاحتلال الأميركي للعراق لم يجلب إلا الذل والعاربوسع المرء أن يستخلص كم الانفعالات التي يثيرها هذا المقال أو التحقيق، ترى معها أن أناسا كثيرين في أميركا قد بلغوا نقطة يشعرون فيها بأن صبرهم قد عيل، وأن في ما حدث الكفاية. فبعد فيتنام وإيران أصبح من الواجب الدفاع عن الحدود المرسومة. لقد تلقت الديموقراطية الغربية ضربة مؤلمة ولقد تولد شعور بعد حصول الأذى من الداخل بـ" الدمار المتبادل" بالعبارة الشاذة التي صاغها "جيمي كارتر" ذات مرة. وقد أدى هذا الشعور بدوره إلى أن يعيد الغربيون النظر في عملية فكفكفة الاستعمار بأسرها خصوصا الثقافي – المتمثل بالدكتاتورية عبر أنظمة وحكام هي تعينهم وتدير دفة حكمهم بما يخدم مصالحهم. ألم يكن صحيحاً بحسب تقييمهم الجديد، أننا نحن أعطينا"هم" التقدم والتحديث؟!.. ألم نوفر لهم نظاما ونوعا من التقدم ومن الاستقرار لم يستطيعوا منذ ذلك الوقت أن يوفروهما لأنفسهم؟..أو لم يكن من قبيل الثقة الشنيعة الموضوعة في غير مكانها أن نؤمن بقدرتهم على ممارسة الاستقلال فعليا وجوهرياً؟!..


شهامة لم تقدر حق قدرها!!..
هذا ورغم الرفض الذي يواجهونه من قبل العراقيين يصرّ "تي" على أن الجنود الشرفاء والمصابين بالإحباط يستمرون في مهتمهم "بدأت الكتيبة في اعمال إعادة البناء والقضاء على الاعتقاد بأن الولايات المتحدة الأميركية خططت فقط لاقتحام العراق وإعدام جميع العراقيين دون محاكمة. وبعد شهر من الاحتلال لم تسهم الدبابات التي تجوب الشوارع ومحاولات التفاهم الخرقاء في إزالة مخاوف العراقيين، ومن ذلك توجهت سيدة باكية إلى جندي اميركي في تكريت قالت له بلغة إنكليزية ركيكة إنها مذعورة من رسالة بثتها فرق العمليات النفسية الأميركية عبر مكبرات الصوت، وسألته عما إذا كان الجيش الأميركي يعتزم تدمير منازلهم!!.. كان الجيش يقصد بالرسالة إبلاغ السكان بأنه سيتم نسف الذخيرة في منطقة مجاورة!!..


الاحتلال الأميركي في العراق كان يذل الكبير قبل الصغيريا للسهولة التي يمكن أن يضغط بها قدر ضخم من الحوادث في تلك الصيغة البسيطة من الشهامة التي لم تقدر حق قدرها؟!! لقد طرد "تي" من خاطره وذاكرته الثقافية أن هذا الشعب من تلك الشعوب المستعمرة المنهوبة التي تعرضت قرونا للعقاب الظالم والقمع الاقتصادي الذي لا يحد، ولتشويه الحياة الاجتماعية وللخضوع الذي لا فكاك منه للتفوقية الغربية المتغيرة مهما تغيرت لبوسها الخارجية من شكل ومضامين.


إننا نجد أنفسنا فجأة أمام مقال "تي" في قلب القرن التاسع عشر، الذي يرينا كيف يتم بناء عملية النهب العظيمة، ليس لخيرات الأرض المسروقة، على اختلاف أشكالها وأهميتها، فحسب بل أن الموضوع أعمق من ذلك بكثير، يتمثل في المتابعة بتشكيل نمط "عولمي" أو سرديات، وفق تعبير النقد الأدبي، رسمية لتاريخ معين محدد ثم سعيها الدائب إلى منع تشكل سرديات مغايرة من الظهور، كما يبلور الصراع ضد هذه السرديات والسعي إلى تقويضها. ومقال "تي" هنا جزء أساسي من قلب هذه المعادلة، التي تقوم بعملية إلغاء التعبير عن الأخر- السردية الأخرى، بل وخنق صوته ويسعى إلى تحقيق تأويل تي .أي.

لورنس الملقب بـ"لورنس العرب" عندما كتب في كتابه "اعمدة الحكمة السبعة" "أسمينا أنفسنا اقتحاميون كعصبة، ذلك أننا قصدنا أن نقتحم القاعات المقبولة للسياسة الخارجية الإنكليزية ونبني شعبا جديدا في الشرق، رغم السنن التي سنها لنا أسلافنا". هي صياغة جديدة من الاستعمار، بدأتها الصهيونية السياسية العالمية عندما أدعت أنها تحمل الحضارة والرقي والعمران إلى أرض بلا شعب ..فهم يبنون شعباً !!..