يدرك بطريرك انطاكية وسائر المشرق للموارنة الكاردينال بشارة الراعي، ان الوضع دقيق للغاية في لبنان، وان الخطورة تطاول حد مستقبل الكيان اللبناني، خصوصا ان كافة التسويات ومشاريع التسويات التي يتم التداول
«حماية لبنان تضمن مستقبل المسيحيين والمسلمين في الشرق»
داود رمال
يدرك بطريرك انطاكية وسائر المشرق للموارنة الكاردينال بشارة الراعي، ان الوضع دقيق للغاية في لبنان، وان الخطورة تطاول حد مستقبل الكيان اللبناني، خصوصا ان كافة التسويات ومشاريع التسويات التي يتم التداول بها، او التي ترد الى مسامعه من دوائر مختلفة، وتحديداً تلك المعنية بالشأن المسيحي، لا تلحظ لمسيحيي الشرق اي دور او مكانة معينة في الحلول المرتقبة، او الخرائط المرسومة للمنطقة.
والكاردينال الراعي الذي يرى الثقل الماروني بات لدى موارنة الانتشار اكثر من موارنة الداخل، كثّف من زياراته الرعائية للخارج، حيث استخلص من جولاته ان موارنة الانتشار، خصوصا في الدول البعيدة جغرافيا عن لبنان، يمكن ان يلعبوا دورا اساسيا ومحوريا في تثبيت الحضور المسيحي المشرقي، من هنا كان تركيزه على لقاء المسيحيين المشرقيين في هذه الدول من مختلف الاصول السورية والمصرية والفلسطينية، الى مسيحيي الجذور اللبنانية، وخرج نتيجة ذلك بخلاصتين اساسيتين:
1- ضرورة رصّ الصفوف المسيحية في الشرق بمختلف طوائفه.
2- التأكيد أن للمسيحيين دورا اساسيا وحضورا يجب تثبيته عبر تدعيم العلاقات الوثيقة مع شركائهم المسلمين في الشرق بكافة مذاهبهم.
والكاردينال الراعي ينطلق بذلك من رؤية اطلقها كبار مفكري الكنيسة المارونية في ذروة الحرب الاهلية التي عصفت بلبنان، وهي تقول «ان لدى كل مسيحي مشرقي شيئا عاما من الاسلام، ولدى كل مسلم في الشرق شيئا داخليا من المسيحية، والمسيحية والاسلام قادران على، ليس فقط التعايش جنبا الى جنب، وانما بناء حضارة واحدة على قيم مشتركة وتطلعات راسخة». ويتطابق هذا التفكير البطريركي مع توجهات الكرسي الرسولي، خصوصا مع البابا المستقيل بنديكتوس السادس عشر الذي اصرّ، وقد كان مدركا انه متجه الى الاستقالة، ان يأتي الى لبنان ليؤكد هذا الامر من خلال الارشاد الرسولي: «الكنيسة في الشرق الاوسط»، الذي تركه وديعة بيد خليفته البابا فرنسيس، وقد سمع الكاردينال الراعي هذا التوجه بصورة حازمة في لقاءاته الاخيرة المتنوعة في الفاتيكان، وخصوصا اثناء انعقاد الجمعية العامة للهيئات التي تساعد الكنائس الشرقية، حيث شدد البابا فرنسيس على ان تكون وثيقة «الكنيسة في الشرق الاوسط» مرجعا ثمينا ووثيقة عمل على اساسها يتم البناء والانطلاق اكثر فاكثر نحو الاعماق.
عقب ذلك كله، عاد الكاردينال الراعي الى لبنان ليطلق حركة داخلية تترجم صفته بأنه «رجل بناء الجسور وهدم الجدران»، وهو واثق سلفا بأمرين:
الاول: ان زعماء الموارنة يتميزون بتنوع آرائهم الى حد التصادم والتباعد والتمسك بمواقفهم، وهذا يعود الى زمن القائمقاميتين.
الثاني: انه للمرة الاولى يجد بطريرك الموارنة شخصا وصل الى سدّة رئاسة الجمهورية حافظ على خطاب جامع وواع لخطورة المرحلة، فلم ينحز الى فريق عازلا الآخر، ولا وصل الى مشارف نهاية ولايته وهو منهك القوى ساعيا الى استمالة طائفته بشتى الوعود على حساب سائر الطوائف، بحيث يصبح منعزلا من فئة ومتملقا شعبية باهتة من فئة اخرى.
ويدرك الكاردينال الراعي ان الخلافات المارونية المارونية، تطيح بكل امل بتوحيد الصف المسيحي، وحتى بتعميق التلاقي المسيحي الاسلامي، رغم أن الاحداث في لبنان والمنطقة بالغة الخطورة، بحيث يصل زمن الحلول ولبنان قد الغى ذاته بذاته. ومن هنا كان إنذاره الاول عندما انتقد زعماء «8 و14 من اذار».
وتبعت ذلك اتصالات بمعظم زعماء الموارنة، بداية للتأكيد ان ما يجمعهم اكبر بكثير مما يفرقهم، وان ما من احد سيخرج مستفيدا بمحاربة رئيس الجمهورية او قائد الجيش، بالنظر الى ان رئاسة الجمهورية، ومن على رأسها اليوم، قد نسجا للبنان شبكة امان عربية واقليمية ودولية حمته من لهيب النار والفوضى القاتلة التي تطاول منطقة الشرق، وقيادة الجيش، ومن على رأسها، توليا الى جانب المؤسسات الامنية حماية السلم الاهلي، ناهيك بإبقاء مصرف لبنان، ومن في سدة حاكميته، خارج دائرة الصراع القائم او الاستهداف، لان تعريض النقد الوطني في ثباته وقيمته الشرائية للخطر يعني حكما سيادة الفوضى.
من هنا كان توجه الكاردينال الراعي المباشر الى رئيس الجمهورية في عظته خلال تكريس لبنان الى قلب مريم العذراء، وفي زيارته قصر بعبدا، وما تبعها من زيارة فريدة لبطريرك ماروني الى مقر قيادة الجيش في اليرزة، ما اثمر سريعا فتح أبواب التواصل بين القيادات المارونية، وكانت باكورتها زيارة رئيس تكتل التغيير والاصلاح العماد ميشال عون للرئيس ميشال سليمان في القصر الجمهوري لساعة كاملة، مع توقّع استتباعها بلقاءات اخرى تقفل، الى غير رجعة، اسلوب المقاطعة والتباعد.
ويرى الكاردينال الراعي وجوب تعميم تجربة اللقاءات بين معظم الاطراف، وقد تشهد الايام المقبلة مفاجآت عديدة في هذا السياق، على ان تثمر كلها من اجل صوغ مبادئ مشتركة، قد تصل الى صياغة شرعة اجتماعية جديدة، تكون لبنانية لبنانية بمساعدة ومباركة اقليمية ودولية، ولا تنطلق من الخارج لتفرض كتسوية على الداخل، حيث يكون الكل قد اصبح منهكا وقابلا للرضوخ لأي امر يفرض عليه.
بلا شك ان تطلع الكاردينال الراعي هذا، امامه الكثير من الصعاب، وهو يرى ان على كافة الاطراف توطيد صداقاتها العربية والاقليمية والدولية للحفاظ على مستقبل لبنان، الذي يضمن وحده مستقبل المسيحيين والمسلمين معا في الشرق.
وهذا بحد ذاته تفكير جديد، حيث انه في السابق كان السعي لحماية المسيحيين بهدف حماية لبنان، اما اليوم اصبح العمل على حماية لبنان من اجل ضمان مستقبل المسيحيين والمسلمين فيه، وانطلاقا منه في الشرق، لان ما يهدد الوجود المسيحي في الشرق، وما يرسم من مخططات وألعاب امم، انما يطاولان المسيحيين والمسلمين معا. والفوضى اذا ما تواصلت في الشرق فهي لن تكون في خدمة اي منهم.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه