ما أسرده قصة حقيقية رواها لي أحد المجاهدين وهو ينتقل بي من غرفة إلى أخرى.. كيف كان وحيدا أمامهم لم يرف له جف.. جفوني التي رفت وعيوني التي دمعت وأيقنت أنني أقف أمام واحد من "أسطورة" رجال الله..
ما أسرده عليكم، هو قصة حقيقية رواها لي أحد مجاهدي المقاومة الإسلامية، وهو ينتقل بي من غرفة إلى أخرى، في بيت في مارون الراس، يحكي والبسمة لا تفارقه محياه .. يشرح لي كيف صوب باتجاههم بندقيته وهم مجموعة أمامه بلباسهم العسكري وعتادهم الشامل.. لم يرف له جف.. جفوني التي رفت وعيوني التي دمعت وأيقنت أني أقف أمام واحد من "أسطورة" رجال الله.. ما أسرده لكم حقيقة وإن تدخلت قليلاً في بعض التفاصيل ..
جلس أبو علي رضا حائرا، بين أشجار الزيتون، يحمل سلاحه، متأبطاً جعبته، وقد نال منه التعب الشديد .. ماذا يفعل؟!!.. لقد استشهد جميع رفاقه وانقطع تواصله مع المجموعات الأخرى، وها هم الإسرائيليون يتقدمون من جهة محوره!..ويطوقون البلدة، ويقطعون الطرقات بينها وبين القرى المجاورة.. فهل يطلب الدعم، وكيف يمكنه ذلك وقد انكسر الجهاز اللاسلكي..؟! وحتى لو أمكن له ذلك فمن أين سيأتون؟! هل يهرول باتجاه بنت جبيل قبل فوات الأوان؟.. هل يختبئ بين هذه الأشجار الكبيرة، وينتظر مرور الإسرائيليين بسلام، دون أن يشعرهم بوجوده؟!.."يا إلهي ماذا أفعل؟!"، تأوه أبو علي رضا، وهو يتكأ على جذع شجرة الزيتون، إنه يحتاج إلى قرار سريع، هي دقائق قليلة ويصلون ..أغمض عينيه، ترأى له أبوه أمام ناظريه يقول له :" لا سبيل أمامكم في نهاية المطاف إلا الاستسلام..لقد انتهى ما تسمونه الصراع العربي – الإسرائيلي منذ زمن، وبقيتم وحدكم في الميدان.. من سيساندكم، إذا بلغت القلوب الحناجر؟.. لا أحد يا بنى. إنه زمن عولمة الثقافة الاستهلاكية المسطحة حيث أضحت الهويات الوطنية مبدأ متخلفا وبتنا نخجل من انتماءاتنا.. وأضحى الانتماء الوحيد البراق هو الأمركة..فمن ستواجهون ..العالم؟!.. ستفشلون حتماً..".
نفض أبو علي رضا هذه الذكرى من رأسه .. وانتفض لمجرد فكرة الاستسلام.. ولكنّ والده محق، أو ليس الزمن هو زمن التراخي والاستسلام والخزي والعار؟!.. أو لم يكتب العرب والمسلمون ختام هذا الصراع بختم الارتهان المخزي حاملا عنوان "مفاوضات السلام"؟!.. ولكن لماذا تخطر فكرة الاستسلام على باله في هذه اللحظات المصيرية ؟!! .. إنه ليس وقت التراجع، فلقد فات الأوان بالفعل.. فهل ما يحدث معه هو رديف أخر لما يحدث مع بقية المجموعات المقاومة، هل سقطت مارون الراس فعلا؟.. فإذا لم يستطيعوا الصمود في هذه القرية المشرفة للحدود الفاصلة مع هذا الكيان الغاصب فكيف يمكنهم حماية بقية القرى ..ثم كيف يمكنهم حماية البلد كله..؟ هل سقطت عيتا الشعب المتاخمة هي الأخرى على الحدود؟!!..وعيترون وبنت جبيل؟!.. أو يعني هذا أن فكرة المقاومة كلها كانت مغامرة لم تحسب عواقبها جيداً....لا ..لا..وإن الاستسلام بات وضعاً واقعيا لا مفر منه؟!..لا..لا يمكن ذلك!!..وإن انتصار العام ألفين مجرد وهم، كبرت فيه طموحاتنا المستحيلة بأننا قادرون على المضي في ردم الهزائم التاريخية التي كبّلت وجودنا وجمدت تطورنا وجعلتنا أمة تستجدي ثقافة الأخر القوي؟!.. هل يمكن أن يكون حلم الصمود والانتصار مجرد وهم أخر لا يمكننا إنتاجه لأننا شعب امتهن الانهزام حتى الإدمان المطلق؟!..
دمعت عينا أبي علي رضا، صعب عليه أن يفكر بهذه الطريقة، لم يعتد ذلك، مضت ثلاث سنوات منذ التحاقه بالقوة الخاصة للمقاومة بعد تفوقه في العديد من عمليات الألفين. وهو لا ينسى ذلك الوسام الجهادي، الذي قلده إياه قائد المقاومة وسيدها. ولا ينسى طيب ذلك العطر الفائح من عباءته، فكأنه يشتم طيب الجنة.. أو عندما احتضنه وضمه إلى صدره، سعادة العالم كله لا تضاهي سعادته في تلك اللحظات .. حمله ذلك العبق النوراني طائرا سرمديا إلى السموات السبع. هام على وجهه فرأى كنوز الأرض والسماء.. ولكنه لم يشته منها شيئاً .. سوى البقاء محتضناً ليغفو بين هذه الأحضان قليلا علّ روحه تحلق في ذلك العالم البرزخي الوسطي بين الدنيا والآخرة.. وأما ذلك الهمس "أعلمْ أنك وأخوانك بمثابة روحي التي هي حبل الوريد مني فلا تقطعني، لأني بكم أحيا" يجعل قامته ترتفع فخورة وهمته تتعالى على الإرهاق والتعب مقررا مواصلة هذا التحدي...فكّر يا أبا علي رضا، لا وقت أمامك.. والزمن حاد كنصل السيف سيقطعك إن لم تقرر!!.. "آه.. آه.. رأسي ..أنا عطش جدا"، وضع أبو علي رضا يده على جبينه، حرارته مرتفعة ونبضه متسارع يسابق ثواني الزمن، رفع عينيه المتكاسلتين إلى أعلى الشجرة، فمنذ يومين لم يذق طعم النوم، فأغمض عينيه.. وبلع ريقه الجاف .. ولم يدر أنه سيغفو.. وهو ممسك بأغصان الزيتون الوارفة..
"هذه هي الحياة يا أبا علي رضا، لا تحتر فيها، إنها دورب وعرة وأخرى منبسطة وبعضها متعرج ولكن خطوطها المستقيمة، التي توصلك إلى الأمان، رفيعة جداً، ولا يراها إلا المستبصرون.. أفق.. هيا.. فما زال لديك درب طويل..". هو هذا الصوت يشبه ذلك الهمس ففتح عينيه ليراه أمامه بعمامته السوداء ووجهه المشرق بياضاً ... "سماحة السيد!! كيف وصلت إلى هنا؟!!..".. أنت ناديتني ..هيا اشرب .." يساعده على النهوض يقوم ويشرب من إبريق مائه تبرق كحبات لؤلؤ على قمة جبل. شرب وارتوى وسأله بشغف "سيدي أرشدني ماذا أفعل؟". نظر إليه وابتسم قائلا وهو يمسد لحيته المشيبة :"الطريق أمامك ليس عليك سوى أن تفتح عينيك".. استيقظ أبو علي رضا مذعورا على صوت قذائف الهاون والليل يلف المكان ... كم من الوقت قد نام نصف ساعة .. ساعة .. تلفت يمينا وشمالاً وهرول باتجاه البيوت .. وصورة السيد لا تفارق مخيلته وطعم ذلك الماء يبدو حقيقياً.. .. ولا يمكن أن يكون ما قد رأه حلماً.. بل هو السيد "بشحمه ولحمه" هو بشخصه من قدم إليه ...!!..
وارب أبو علي رضا في حركة نزوله باتجاه البيوت فقد رأى عددا من الجنود الإسرائيليين منتشرين ما يدل على أنهم قد سيطروا على القرية. ولكن هذا لم يؤخر نزوله ولم يجعله يتردد فقد أسرع يندلف في زاروب ترابي ضيق أوصله إلى أحد البيوت لاهثا دون أن يراه أحد..أخذ نفسا عميقاً وهو يقول .."مهما حدث سوف أبقى أقاوم حتى النفس الأخير.. لا يمكن أن يكون للحقيقة أكثر من صورة ..إنها جولة بين الحق والباطل.. فبئس الزمن يا أبي زمن العولمة هو هذا الذي يريدنا العالم أن نستسلم له.. لا حياة دون كيان حر ولا وجود له جذور دون هوية مستقلة، نحن نعيد صنع تاريخنا العربي والإسلامي يا أبي وإن كلفنا الدم والتضحيات.. فليذهبوا إلى الجحيم جميعاً فليكن.. نحن وحدنا في الميدان"..
يراهم، في نظرة مراقبة إلى الخارج عبر النافذة، أربعة جنود يتسللون إلى البيت المجاور. مشيتهم مشية الخائف المتطير ..بالكاد يتقدمون، عيونهم معلقة بين السماء والأرض، يدخلون ويبدو أنهم لم يجدوا أحدا... لم يهن على أبي علي رضا أن يراهم مطمئنين في قريته.. فقرر مباغتتهم، تفقد سلاحه ومخزنه عدّ رصاصاته..واستل خنجره وأعاده إلى غمده " إنها تفي بالغرض". خرج متسللا إلى سطح المنزل، حيث يتلاصق بسطح المنزل المجاور، وفي أقل من دقيقة كان قد أصبح في الداخل. هذا منزل أبي نبيه علوية أنه يعرفه، اقترب عدة أمتار سمع أصواتهم وقد بدوا مرتاحين.. إنه الوقت المناسب ودنا منهم على مهل وأصبح على الباب وجها لوجه، أصابتهم الصدمة وعقدت لسانهم وجمدت أيديهم التي لم تسعفهم بالسرعة المطلوبة لإطلاق النار فقد عاجلهم أبو علي رضا برشاشه الذي تكفل بهم يمينا وشمالاً. وخرج والفرحة تغمر قلبه. لقد عرف طريقه سوف يباغتهم في كل البيوت.
في بيت أخر رأى خمسة أخرين، ولكنه لن يستطيع مباغتتهم من هذه المسافة سوف ينتبهون له على الفور. يجب أن يستدرجهم إلى الغرفة الخلفية، كي يقضي عليهم واحدا تلو الأخر دون ضجة تكشفه. نظر من حواليه علّه يجد شيئا يرميه فيحدث ضجة تلفت انتباههم، وجد ضالته فرمى بكرة قدم باتجاههم.. وانتظر خلف الباب. تأخروا، ربما لم ينتبهوا للكرة؟!.. أو ربما هو الخوف قد جمدّ الدم في عروقهم .. أو أنهم كشفوا أمره وسيستدرجونه بدورهم ليخرج إليهم بعدما يطول انتظاره لهم.. ولكنها دقائق قليلة ويشعر بحركة خفيفة تقترب من الغرفة، وتدنو منه رويدا رويدا .. أبو علي رضا يحمل السكين ويترقب اللحظة الفاصلة للهجوم.. وفي لمح البصر يقبض على خناق أحدهم، الذي يطلق صرخة واهية فيعاجله أبو علي رضا بسكينه الحادة، ولكنه يلمح ظل الأربعة يتقدمون فيتقلد سلاحه ويفاجأهم حيث يلتف عليهم .. يسقطون صرعى قبل أن تطلق حناجرهم نداء النجدة..
إن لم يكشف أمره في المرة السابقة فحتما قد كُشف هذه المرة.. من المؤكد أن صوت الرصاص سمعته بقية مجموعات هذه الوحدة المنتشرة في أرجاء القرية. "لا يهم، إنها مواجهة كربلائية". ولكن مهما يكن يجب عليه الحذر الشديد في تنقلاته بين البيوت، فلن يستشهد قبل أن ينغص عليهم بقاءهم. هذا هو طريقه، وهذا هو هدفه بعدما أصبح وحيداً على أرض المعركة. ويهرع أبو علي رضا بالخروج من المنزل ليدخل أخر. يسرع إلى النافذة ليترقب المشهد التالي. كما توقع فقد استنفرت إحدى المجموعات في محيط هذه البيوت وراحت تقتحمها بيتا بيتا..ماذا سيفعل هذه المرة؟!.. "سهلة بسيطة بتنحل قول الله" هذا ما فتئ يردده وهو يكمن في إحدى الغرف، سوف أجعلهم يطمئنون ثم أباغتهم مجددا.. المباغتة هي أملي الوحيد.
توقع أبو علي رضا كل شيء في هذه المعركة التي قرر أن يخوضها منفردا، الأسر ربما أو الاستشهاد أو التعرض لإصابة صعبة. لكنه لم يكن يتوقع أن تصل المواجهة بينه وبين الإسرائيليين إلى هذه المسافة المعدومة تقريباً.. فقبل الألفين كان عملاء جيش لحد ساترا بشريا بين المقاومة وبين جنود الاحتلال.. ولكن اليوم أدرك متعة الالتحام معهم، خبرهم عن قرب والتقت عيونه بعيونهم .. وأدرك أن هذا هو الطريق الذي كان ينتظره هو وأخوانه منذ سنوات، الالتحام المباشر لكشف حقيقة هذا العدو. ولم يخب ظنه إنهم بالفعل كما وصفهم سيد المقاومة "أوهن من بيت العنكبوت". نصر الألفين لم يكن وهماً، بل مدماكاً بالغ العطاء ليصل بنا إلى هنا، إلى هذه المواجهة الكبرى.. لا لم يعد أبو علي رضا يعتقد أن مارون الراس قد استسلمت، هناك أمر ما يجري.. ولا يظن أن عيتا الشعب هي الأخرى قد هوت في قبضة الاحتلال..وأنهم يمكنهم الانتقام من بنت جبيل.. هناك أسود بالانتظار لتحمي قلاعها وهناك قطط تهرول بخفي حنين.
ولكن أنى له أن يتأكد من ذلك؟!..وسمع صوت أقدام تدخل البيت فاختبأ في علية المطبخ وردّ الباب ليبدو مغلقا، وقبع ينتظر. لم يطل انتظاره فقد تمترس الجنود في الغرفة الأمامية بعدما أعتقدوا أن لا أحد في المنزل.. نزل إليهم وهو يتمتم "إن لله رجال إذا أرادو أراد".. لقد أصبح خلفهم مباشرة وكانوا هذه المرة ثلاثة جنود وتركهم يلتفتون إليه، فهو مطئمن إلى أن المبادرة بيده ويملك ما يكفي من الوقت كي يعاجلهم برصاصاته لكنه لم يشأ أن يموتوا دون أن يروا وجه من قتلهم، لفته الخوف في عيونهم وارتباكهم من المفاجأة التي جمدت الدم في عروقهم وزادت ابتسامته ووثقته العالية وقامته الشامخة من خوفهم، وما أن أداروا بنادقهم حتى كان أسرعهم .. تمكن من تحقيق إصابات مباشرة قاتلة دون محالة.. جذب سمعه صوت صادر من أحد الأجهزة بينما كان يهم بالتفتيش عليه انتبه إلى صوت أقدام تهرول باتجاه البيت وهي تصرخ "إيغوز".. إيغوز".. عليه أن يسرع بالأختفاء ولا بد له من الحصول إلى الجهاز أيضا، يجب أن يعرف ماذا يحدث بعدما انفصل عن بقية مجموعات المقاومة في أعلى التلة.. وجده تحت قدم جندي قتيل، فرفعها عالياً والتقط الجهاز وهمّ بالخروج إلى سطح البيت، إنما لمحه جنود قادمون وبدأت المطاردة.
لم يعبء أبو علي رضا أنه وحيد وقد يحاصر ويقع بالأسر، فكل ما كان يهمه فرصة لالتقاط أنفاسه وليدير الجهاز ويكتشف أخبار المعركة مع أخوانه .. وفجأة سمع صوتا يشبه صوت الانفجار وصراخا عاليا يهتف بالعبرية التي لا يفهمها.. فتوقف والتفت إلى الخلف ولم يصدق ما رأت عيناه .. إنه صاروخ "مقاوم" قد استهدفهم.. الفرحة أطلقت قدمي أبي علي رضا فأسرع يخط المسير .. إنهم الشباب .. ما زالت المقاومة على محاورها القريبة من القرية، ربما هذه الضربة من بنت جبيل أو عيترون.. أو ربما من مارون الراس نفسها!.. ولم لا ؟!.. وصل أبو علي رضا إلى أحد البيوت وجد الباب مفتوحا من ضغط القصف الجوي فدخله دون تردد وأحكم إقفاله .. فتش في مطبخ المنزل عله يجد ما يسد به رمقه، فلم يوفق حتى بقطرة ماء ..عاد إلى نافذة الصالة المطلة على الشارع العام رأى ظليّ جسدين يطلان على الشارع فعاد إلى الوراء ليختفي قليلا عن النظر مع إدراكه أنهما ما يزلان يتقدمان، توقف أحدهما بينما تقدم الثاني من النافذة بحذر شديد شيئا فشيئاً.. وضرب شباكها الخشبي صارخا بأبي علي رضا بصوت عربي مكسر " قف مكانك".. التفت إليه أبو علي رضا معاجلا إياه بطلقة اخترقت رأسه فخر صريعاً في حين بدأ زميله بإطلاق عشوائي للنار وهو يصرخ "إيغوز".. بينما ركزّ عليه أبو علي رضا وعاجله بطلقة ثانية اخترقت هي الأخرى رأسه..
أخذ أبو علي رضا نفسا عميقا وراح يصلي على محمد وأل محمد وهو ينتقل إلى الباب مترصدا دخول الجنود ربما...ولكنه أحس بأنه محاصر لا محالة وأن عددهم بدأ يزداد فقرر المواجهة وجها لوجه ولتكن الشهادة ..وهي التي ينتظرها منذ سنوات فمما سيخاف؟!!..رفع عينيه إلى السماء وتمتم بدعاء قصير وفتح الباب وخرج إليهم بنداء "يا مهدي" وباشر بإطلاق النار .. لم يعِ للوهلة الأولى ماذا يحدث ولكن ما راح يراه أمامه أصابه بذهول اللحظة إنما لم تمنعه من متابعة إطلاق النار على الجنود الذين كانوا يقفون قبالته وهم يصرخون من كل حدب ويكررون جملة واحدة بالعربية "استسلموا.. أوقفوا إطلاق النار".. كانوا يطلقون النار في كل اتجاه ..يصبيون كل شيء وأبو علي رضا واقف أمامهم يرشقهم بطلقاته .. فها هو أمامهم فلماذا يطلقون النار في اتجاهات مختلفة ؟؟!!.. ولماذا يخطابونه بلغة الجمع، يلتفت ذات اليمين وذات الشمال حيث يطلقون النار فلا يجد أحداً، فماذا يحدث يتقدم أمامهم وكأنهم لا يرونه !!.. يدعهم يكملون معركة وهمية مع "أشباح".. اعتمد أبو رضا على هذا الإحساس وكأن هناك من يحمي ظهره فتقدم بين الجنود الصهاينة مهرولا محاولا تخطيهم.. بعضهم لحق به والبعض الأخر ظل يطلق النار في اتجاهات فارغة ..!!!..
بدأت المطاردة وبدأ معها نزيف الجسد المرهق، فقد بات له يومين دون طعام أو ماء .. وهو يهرول بين التلال كان يحس أنه بين اللحظة وأختها قد يخر صريعا من الإرهاق إلا أنه كان طاقة رهيبة على الصمود والمواصلة والهرولة بكل ما يستطيع من قوة... يسمع أصواتا عبرية على الجهاز وأخرى عربية تشوش عليها.. وصل إلى جل ثالث التفت خلفه لم يجد أحداً.. ماذا يقصدون ؟؟! لماذا توقفوا عن الجريان خلفه ..لم يأبه واصل دربه حتى أول فيلا في بنت جبيل كان بابها مفتوحاً من قوة القصف الذي نال المكان قربها. صعد على الفور إلى الطابق العلوي جلس يأخذ نفسا عميقاً عميقاً وهو يخفف من عدته فلقد أصابه إعياء شديد .. وهو يلهث راح يتفقد الجهاز اللاسلكي الذي حمله معه عله يعثر على دليل ما يؤكد حدسه بأن المعركة مازالت في أوجها..تناهت إلى مسامعه أصوات مختلفة اللغة مشوشة ضبابية..وأخذ يحاول أن يضبط الجهاز على موجة معينة وصل إليها وسمع صوت بعض المقاومين الذين يعرفهم فناداهم بالرموز المتفق عليها بينهم لم يسمع جواباً.. كرر النداء مرة أخرة ومرة ثالثة.. ولكن ما من صدى.. و
بعدما بدا له أن لا أمل بالرد وضع الجهاز جانبا وراح يفتش عن الماء في أرجاء الغرف فلم يجد ما يسد به رمقه ولكن سمع صوتاً على الجهاز فركض إليه وسمعه يقول: "110 ينادي 72" .. ويكرر النداء. التقط أبو علي رضا الجهاز وهو يقول معك "72" ..يبدو أن سامعه لم يصدق ما سمع فأعاد النداء وكرر أبو علي رضا الجواب نفسه ولكن سامعه أكد له بطريقة مشفرة أن المجموعة كلها قد استشهدت ..قال أبو علي رضا وكأنه يعطيه دليلا على بقائه حياً" صحيح بس هينة بنتحل قول الله".. وضحك السامع عاليا "مارون !.. متل القط بسبع ارواح .. حاول التقدم .. الوضع عندك متفجر "..لم يقنع أبو علي رضا بهذا الجواب فهو على أحر من الجمر ليعرف ماذا يحدث .وأتى الجواب مشفرا بأن "يتابع التقدم".. وهو يعرف هذا المغزى ويدرك عمقه ودلالاته ..وسمع صوتا بلهجة عربية مكسرة تناديه " مارون 72" .. "مارون 72" وردّ أبو علي رضا فقال المنادي "اسمع مارون سوف نقطعك أشلاء أنت ومن معك.."، فرد أبو علي رضا بثقة عالية :" سوف نجعلكم تصرخون حتى الموت وسوف تندحرون مذلولين "... وفي اللحظة نفسها أغار الطيران الحربي وضرب بقوة فيلا بالقرب منه، فجمع عتاده ونزل إلى الطابق الأرضي بينما ترك الطابق العلوي يهوي خلفه...
وصل إلى أحد البيوت الكبيرة والمدخل مشرّع للهواء، دلف بسرعة ولكن هذه المرة نال منه التعب ولا بد له من راحة. صعد إلى الطابق العلوي فتح كل الغرف ولكن غرفة واحدة استعصت عليه، جلس أمام بابها وكأنه يتوسد الأمل بالانتظار عله يحدث شيء ما .. ولكن متى كان التمنى مبعثا للعمل !! وقام لتوه يحاول فتح الباب مجددا وجد إزميلا فراح يطرق به القفل حتى فتح، ازاح الباب بيديه هو يقول "يا مهدي"، وكأنه كان ينتظر الفرج أتيا في هذه الغرفة .. لقد وجد الماء وحبات من البندورة وعلبتي سردين!!.. تقدم وراح يشرب ببطء وهو يقول "الحمدلله" .. تناول حبات البندورة لا غير، كان يشعر أن الوقت يداهمه وأنه لم يعد يجب البقاء أكثر في هذه البيت .. وما إن غادر البيت حتى استهدفته الطائرات الحربية وهو يعدو بكل قوة، دخل بين جمع من السيارات ولكن عاد أدراجه ليدلف بين الأشجار في حركة تمويهية إلا أن الطيران الحربي قصف المكان فاشتعلت السيارات المتوقفة وأصبح ليل بنت جبيل نهاراً مضيئاً، ولم يعد بإمكانه التقدم .. توقف ليأخذ نفساً عميقاً، ووصوله النداء :"مارون 72 حوّل"..
- "معك مارون 72 ..حوّل"
- بتعرف صاج أم علي ؟.
- أكيد.. أم علي هي اللي بتعرفني ..
- هونيك ناطرك حسون ..
وغمرت الفرحة أبا علي رضا "الحسون"، ما يزال على قيد الحياة.. يا إلهي أنت كريم .. أيها الإسرائيلي انتظرني الموت أت ..