رغم أن وسائل الإعلام والمساجد المنتشرة والمزودة الأجهزة الصوتية تُدخل الأذان إلى كل بيت، فإن الإستماع إلى دوي مدفع رمضان بكل شغف هو من الأجواء الرمضانية المحببة
مدفع رمضان استحدثته الدولة العثمانية لإعلان حلول الشهر ومواقيت الإفطار والإمساك غاب في زمن الحرب بعد تعذّر التمييز بينه وبين القصف الذي يطال الناس الآمنين ..
زياد سامي عيتاني / إعلامي وباحث في التراث الشعبي
مدفع رمضان المصاحب لأذان المغرب والفجر، هو أشبه بلوحة تراثية تختزل حنيناً وشوقاً إلى زمن جميل والأيام الخوالي. فأبناء هذا الزمن يطربون لسماع دوي مدفع رمضان، لأنه يحمل الكثير من المعاني الإنسانية والتاريخية، بإعتبار أنه أصبح تقليداً رمضانياً، تحرص غالبية الدول العربية والإسلامية على التمسك به، خصوصاً أن دويه يدخل الفرح إلى قلوب المؤمنين المجتمعين قبيل موعد الإفطار حول المائدة، وألسنتهم تدعو ربهم الى تقبل صيامهم وقيامهم.
مدفع بيروت
خلال القرن الماضي وفيما كان عدد سكان بيروت يزيد ويكثر برزت حاجة ملحة الى وسيلة ليعرف الناس حلول شهر رمضان للتهيؤ لفريضة الصوم، إضافة الى تعريفهم أيضاً بمواقيت الافطار والإمساك، لا سيما ان بيروت في تلك الحقبة لم تكن قد عرفت بعد جهاز "الراديو" الذي دخلها للمرة الأولى عام 1928. لذلك ارتأت الدولة العثمانية أيام ابرهيم باشا استحداث مدفع في ولاية بيروت، وأن غرض إطلاق المدفع هو إعلام الناس أن حلول شهر رمضان ثبت بالوجه الشرعي.
فمساء يوم 29 شعبان أو مساء الثلاثين منه، كانت تطلق من فوهة المدفع 21 طلقة تبشيراً برؤية الهلال وكان يطلق العدد نفسه من الطلقات عند ثبوت هلال شهر شوال احتفالاً باستقبال عيد الفطر. كذلك كانت تطلق منه 21 طلقة مساء التاسع من ذي الحجة إجلالاً لحلول عيد الأضحى الذي استحق لهذا المدفع تسمية "مدفع رمضان والعيدين".
وكان موقع المدفع أيام الدولة العثمانية، بحسب ما يشير المؤرخ عبد اللطيف فاخوري، في الثكنة العسكرية الواقعة على الرابية المطلة على بيروت، عند ما يعرف اليوم بمجلس الإنماء والإعمار. وكان يشرف على إطلاق المدفع ميقاتي من الأوقاف آنذاك، فيسحب من جيب سترته ساعة معلقة "بكستك" ذهبي، تبين إشارة إطلاق المدفع، فيحدث دوياً ترتج له المدينة الصغيرة.
مواصفات المدفع
ومدفع رمضان كان له دولابان كدواليب العربات، وقذيفته حشوة قماش كتان محشوة باروداً. وكان هذا النوع من المدافع تجره البغال من مركزه في ثكنة مار الياس (ثكنة الحلو الآن) ودام هذا التقليد حتى عام 1923.
كان الجيش العثماني يتولى مهمة إطلاق المدفع من أعلى ربوة في بيروت آنذاك، وكانت تعرف بمنطقة "الثكنات" أي ما بين السرايا الحكومية ومجلس الإنماء والإعمار الآن، كما أشرنا سابقاً. فكان المدفع طوال شهر رمضان المبارك يطلق طلقة حين موعد صلاة المغرب فور شروع المؤذن في رفع الأذان من أعلى مآذن المساجد، قبل أن تكون قد تزودت مكبرات الصوت كما في زمننا، إعلاناً لحلول وقت الإفطار. كذلك كانت تطلق من فوهة المدفع طلقة حين موعد الإمساك قبيل مطلع الفجر.
وعند انفجار قذيفة المدفع بعد إطلاقها باتجاه البحر، كانت تحدث دوياً قوياً ترتج له بيروت المدينة الصغيرة آنذاك، والتي كانت محصنة بسورها الذي كان يمتد من سوق أبي النصر باتجاه المرفأ نزولاً، ومنه الى الغرب، حتى خان أنطون بك، ليتجه جنوباً حتى ساحة عسور المعروفة اليوم بساحة رياض الصلح، ثم يسير شرقاً حتى كنيسة مار جرجس بالقرب من "قهوة القزاز" المتاخمة لساحة البرج.
نقل موقع المدفع
لكن بعد العام 1935، أي بعد 17 سنة على دخول جيوش الحلفاء وانقضاء الدولة العثمانية اتسعت مدينة بيروت جنوباً وغرباً، وظهرت أحياء جديدة كانت تعرف خلال الحقبة العثمانية بظاهر بيروت أي الأحياء الواقعة خارج السور. وعليه، قررت المفوضة العليا الفرنسية التي كانت تشرف على هيئة شؤون الإفتاء والأوقاف الإسلامية بصفتها جزءاً من الدولة، نقل مدفع رمضان والعيدين الى منطقة تراعي المتغير في محلة تلة الخياط التي كانت تطل على معظم أحياء بيروت، فأشرف على المدفع وإطلاقه رجال القناصة اللبنانية (جيش الشرق) ومن بعدهم الجيش اللبناني بعد الاستقلال.
وبقي إطلاق مدفع رمضان والعيدين قائماً قبيل الحوادث اللبنانية عام 1975، ولكن من منطقة تلة الخياط، التي تعد أعلى مرتفع في بيروت، لكنه غاب خلال الحرب التي عصفت بلبنان، لأنه كان يتعذر التمييز بينه وبين المدافع التي كانت تستخدم للأغراض العسكرية.
أصل المدفع
وإذ أصبحت طلقات مدفع رمضان التي هي أشبه بنجمات غروبه وليله وفجره، مجرد إحياء لواحد من التقاليد الرمضانية المحببة عند الناس، فإنها كانت في الماضي حاجة وضرورة ملحتين لإعلام الصائمين بمواقيت الإفطار والسحور والإمساك، لأنه كان وقتذاك الوسيلة الوحيدة المتاحة للإستدلال على تلك المواقيت، خصوصاً قبل أن تجهز مآذن المساجد والجوامع بمكبرات الصوت التي أصبحت توصل الأذان المرفوع إلى القريب والبعيد، وأيضاً قبيل تطور تقنيات الإتصال وشيوع أجهزة الراديو والتلفزيون.
وعلى رغم تضارب الروايات التاريخية حول أصول نشأة تقليد مدفع رمضان، إلا أن المؤكد أن بداية الفكرة كانت مصرية المنشأ. فهنالك دراسات تاريخية تشير إلى أن تقليد مدفع رمضان بدأ عام 1811 في زمن والي مصر محمد علي باشا، حينما امتلك جيشه مدافع حديثة الصنع، فأمر بإحالة القديمة على المستودعات ووضع واحداً منها في القلعة كتذكار لإنتصاره. وصودف في أحد أيام رمضان أن أطلقت من القلعة طلقة مدفعية مع أذان المغرب، فظن المصريون أن هذا كان لإبلاغهم بحلول موعد الإفطار، فابتهجوا لذلك وسيّروا المواكب لشكره. ومذذاك الحين أمر والي مصر بإطلاق المدافع مع آذان المغرب وعند الإمساك، حتى أصبح تقليداً متبعاً خلال شهر رمضان.
في مقابل ذلك ثمة رواية تشير الى أن فكرة مدفع رمضان قد سنّها الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت حينما كان يحتل مصر، حيث أراد أن يقوم بعمل ما يرضي به أهلها، فأمر بنصب المدافع على قلعة القاهرة وتطلق منها قنابل البارود، إيذاناً بحلول شهر رمضان، ليصبح في ما بعد تقليداً متبعاً في رمضان.
وثمة رواية أخرى تشير إلى أن فكرة ضرب مدفع رمضان ولدت مصادفة في مصر في عهد المماليك، حيث أنه مع غروب أول أيام شهر رمضان من عام 865 للهجرة رغب السلطان المملوكي "خوش قدم" في تجريب مدفع كان تلقاه هدية من صاحب مصنع ألماني، وصادف ذلك وقت الغروب، فظن الناس أنه تنبيه لهم بدخول وقت الإفطار، فخرجوا بعد الإفطار لشكره. ولما رأى سرورهم، قرر المضي بإطلاق المدفع كل يوم إيذاناً بالإفطار.
ختاماً، وعلى رغم من أن وسائل الإعلام والمساجد المنتشرة والمزودة الأجهزة الصوتية تُدخل الأذان إلى كل بيت، فإن الإستماع إلى دوي مدفع رمضان بكل شغف هو من الأجواء الرمضانية المحببة، لأن لهذا المدفع حضوره الإنساني الحميم في الذاكرة الشعبية وجزءاً من تراث رمضان المتوارث.