كان يمكن أن تكون المناسبة احتفالاً واحتفاء بانتصار تموز 2006 على العدو. كان يجب أن تكون لاستضافة الذاكرة، لتكون شاهداً على جلال الحدث. كان يلزم أن تكون الأيام القادمة
نصري الصايغ
كان يمكن أن تكون المناسبة احتفالاً واحتفاء بانتصار تموز 2006 على العدو. كان يجب أن تكون لاستضافة الذاكرة، لتكون شاهداً على جلال الحدث. كان يلزم أن تكون الأيام القادمة، محطة لتكريس نهاية الخسارات وبداية الفرح باحتمالات فلسطين. كان من المحتمل أن تكون المقاومة محاطة بالعقول والقلوب والمشاعر والإرادات. كان يمكن، في لحظة تفاؤل تاريخي، أن تكون المقاومة، قبلة المسلمين السياسية، وأن تكون الانتفاضة الفلسطينية ضد الاحتلال، الطريق إلى الوطن والحرية، وأن يكون «الربيع العربي» كلمة السر لـ«الفتح» الديموقراطي، من المحيط إلى الخليج. وكان يمكن أيضاً... الكثير من التفاؤل بنهاية عصر الهزائم.
إن شيئاً من هذا لم يحدث. الأسوأ هو الذي حدث. ثمانية أعوام على ذلك الضوء الساطع من دماء الشهداء وعزم الإرادات ونبض القلوب وصدق الايمان وحسم الميدان وقيادة «الوعد الصادق»، أحاط بها الظلام والظلم من جهات الدين والفقه والسياسة، كما يمليه «الوحي الأميركي» على «دعاة» المنطقة.
بل لم يكن متوقعاً أبداً، أن يكون السوء العربي والمذهبي والسياسي، بهذه القامة وهذا المدى. كأن ما تمنته اسرائيل، أو ما هجست به، وما رأته مستحيلا، وأضغاث أحلام، قد تبرع بتنفيذه وتعميمه، عرب الظلامية، بأديانهم ومذاهبهم ونفطهم وإعلامهم ورجال دينهم وقادة سياساتهم وممولي فتنهم.
كان تموز ـ آب 2006، انتصاراً موقعاً باعتراف العدو، وإرادة بعض العرب العاربة، قبرا كتب على شاهده: «هنا ترقد أمة على رجاء عدم القيامة»، «صدق الكفر العظيم».
بعد ثمانية أعوام، أُخِذَ الانتصار إلى المحاكمة.
في الأساس، اعتُبِرَت المقاومة مغامِرة. وهي لفظة ديبلوماسية ملطفة، تفيد معنى واحداً: ضرورة الوقوف في وجهها، وإفشالها. وأعطيت إسرائيل فرصة الاعتداء واستطالته لثلاثة وثلاثين يوما، كي تلقن المغامرين درساً، تمهيداً لإعلان التوبة.
في الأساس، أُخذ على «حزب الله» أنه جرّ البلد إلى حرب مدمرة، وبقرار منفرد (!!!) وأن ما حصل لم يكن انتصاراً. لبنانيون «أقحاح» و«إسلاميون» أكثر «إقحاحاً»، ولبنانيون من مروجي بضاعة فيلتمان وايمييه (سفيري أميركا وفرنسا) رأوا أن من الواجب «الوطني» و«الحق الدولي»، تدفيع المقاومة ثمن «مغامرتها»، عبر إخضاعها لبيت الطاعة الأممي، بالقرارات الصادرة عن مجلس الأمن. ولقد فعلوها، بمباركة محلية وتأييد رسمي عربي.
في الأساس، لبنان المنقسم، منذ ما قبل استقلاله، بين لاءين كاذبتين: لا للعرب ولا للغرب، لا لسوريا ولا لفرنسا، انشطر في ما بعد، على فلسطين، ومنذ ذلك الحين، وتحديداً بعد النكسة، واللبنانيون يتخندقون بين فلسطين، كل فلسطين، وبين فلسطين كضاحية من ضواحي «إسرائيل». وما شذ اللبنانيون عن ذلك، فحارب بعضهم الانعزالي، المقاومة الفلسطينية واللبنانية، حتى أخرجوهما إلى المنافي والتقاعد. ثم حارب بعضهم، المتتلمذ على الوهابية النفطية، المقاومة الإسلامية، وانتهى بنا المطاف إلى حافة الفتنة السنية ـ الشيعية، ليس بهدف نصرة السنة على الشيعة، أو نصرة الشيعة على السنة، بل بهدف وحيد: نزع سلاح المقاومة، وإلغاء أداة الانتصار.
المطلوب، تحت كل التسميات، أمر واحد فقط: «إرموا سلاحكم، وتعالوا إلى تسوية عرجاء». ولفلسطين رب غربي أميركي، يضحي بها، ويعوّض علينا بالبقاء.
كل ما عدا ذلك تفصيل، وثرثرة كلمات، وتحريض على الصغائر، بهدف المس بالكبير الوحيد في هذه الأمة، المقاومة، بكل أشكالها.
إنه زمن التصهين المذهبي والعربي بحذافيره الإسرائيلية.
ثمانية أعوام، بلا هوادة، والمقاومة في مرمى نيران الأعداء في الداخل اللبناني والداخل العربي، أما الخارج الدولي، فليس إلا حديقة خلفية لنظام الفصل العنصري والديني في إسرائيل، وحقل تدريب للديبلوماسية الغربية كي تؤهل المقاومة بالحجج التي تسمها بالارهاب.
لعله من المفيد السؤال عن السبب، لنحدد ما إذا كانت هذه المعركة المستدامة ضد المقاومة، عقاباً لما أقدمت عليه، في «25 أيار» 2000 وتموز ـ آب 2006، أم خوفا منها على إسرائيل، وعلى الأنظمة العربية، المحكومة بالأمر الأميركي، الحليف الأعظم لإسرائيل، والمدافعة عنها، مهما ارتكبت سابقا، ومهما ترتكبه راهنا، وما سترتكبه أبداً.
إنه الخوف منها. المقاومة التي ثبت أنها ليست سلاحا، بل بنية «مجتمعية» مؤمنة ومعقدنة، في بيئة حاضنة ومحضونة، تسمع النداء وتلبية مندفعة إلى الأبعد و«الأجرأ»، جعلت من فلسطين الحرة، قبلتها ومركع أيامها، ومن السلاح خادماً للقضية ومخدوما من أهلها ليكون له القول الفصل، في إثبات الحق القومي في فلسطين... خوف الأنظمة هذه، من انكسار التوازن القائم، على التعايش بين اسرائيل القوية والأنظمة العاجزة، بأقل الأرباح وأفدح الخسائر، ولذلك، يسجل التاريخ لهذه الأنظمة تفضيلها دوما الخسارة على الربح، توكيدا على عقيدة العجز أمام العدو، والتي يعوّض عنها، بالبطش والاستقواء على الشعوب العربية.
إسرائيل تخشى من خسارة واحدة على مستقبلها، أما عرب الأنظمة فيخشون على مستقبلهم من أي انتصار. لقد تفرقوا من حول عبد الناصر بعد العدوان الثلاثي، وتجمعوا حوله بعد نكسة حزيران، وتدافعوا في ما بعد «كامب ديفيد»، ليتسللوا إلى التوقيع السري عليه... هذه أنظمة تجهد الجهد كله، كي تبقى ضعيفة وعاجزة، وما تملكه من سلاح وعتاد حديثين، ليس إلا تجارة رابحة، كتهريب المخدرات مثلا، أو صفقات «كوبونات» النفط.
لا تستطيع أنظمة بهذه العقيدة أن تحتمل انتصار «حزب الله»، لأنها تعتبره تهديدا لها ولاستمرارها، ولو تأمنت لهم الخسارة، لا سمح الله، لكانوا أقاموا مجالس العزاء الكاذبة، والشماتة المؤكدة.
كان متوقعاً أن تكون فلسطين قريبة أكثر. لكن المشغولين عنها، انصرفوا إلى حرب المئة عام، بين مكونات الدين الواحد، وربه الواحد الأحد. انصرفوا إلى تأمين إضبارات اتهام، تصف المقاومة بأنها صنيعة الخارج الإقليمي، وحليفة «العدو الفارسي» المختار، بديلا من عدو حقيقي متمسك بدولة «الشعب المختار»، لليهود وحدهم.
إضبارة الاتهام، لتحاصر الأمة، لا المقاومة. وهي تصلح لشيطنة الملائكة، فكيف لا تشيطن البشر وما هم عليه من فتنة. لكن أمراً مؤكداً، أن الانتصار ترسخ في مسيرة المقاومة، وهي اليوم، تدافع عنه، كشرط حياة للأمة، وليس كشرط أو مطيّة لسلطة، ضد كل من يقاومها، باسم الدين أو المذهب أو النفط أو...
في هذه الذكرى، نرفع التحية لقائد الانتصار وشهداء المقاومة في مواجهة اسرائيل. ونحمل أملا، أن تبقى الطريق إلى فلسطين لا أولوية عداها.
وما عدا ذلك، لا يمت إلى الصراط المستقيم.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه