هكذا تبخّرت الـ 9 ملايين دولار في رومية
محمد نزال
هكذا تبخّرت الـ 9 ملايين دولار في رومية
لم يطل غياب سجن رومية عن الحدث. كأنّ له حصة محفوظة. سجن يكاد اسمه يدخل في النشيد الوطني. الخبر هذه المرّة ليس عن انتفاضة أو حريق، بل عن فضيحة تبخُّر 9 ملايين دولار كانت مخصصة لترميم السجن، فصرخ وزير الداخلية لأجلها صباحاً بعبارة «تفه عليكم»... بعدها فرّ سجين آخر من هذا الجحيم.
وزير الداخلية مروان شربل في سجن رومية. في المبنى «د» تحديداً. هو في جولة تفقدية للمبنى الخالي من السجناء، هدفه الاطلاع على الأشغال المنجزة. رافقه في جولته قائد الدرك ومجموعة من الضباط والمهندسين والمتعهدين. دخلت «الأخبار» خلفهم «خلسة» إلى باحة السجن. فراغ المبنى من الأثاث يسمح للصدى بالذهاب بعيداً. ظنّوا أن أحداً لن يسمع أحاديثهم. ها هو شربل يصرخ بأعلى صوته: «ولك تفه. تفه عليكم وعلى هالشغل. أنتم جماعة مكتب الأبنية، بعرفكم، وبعرف الكومسيون (العمولة) يلي بتاخدوها لجيابكم. هيدا لو بيتكم كنتم بتقبلوا تعملوه هيك؟ يا عيب الشوم عليكم».
من هو الذي توجّه إليه كل هذه الكلمات الثقيلة، من دون أن يرد، أو عندما يرد لا يكاد يُسمع صوته؟ إنه المهندس. أو بالأحرى المهندسون، وكذلك المتعهدون، الذين تعاقدت وزارة الداخلية معهم، كقطاع خاص، لترميم المبنى المذكور في سجن رومية. هؤلاء قبضوا مبلغ 9 ملايين دولار، لكن الوزير ـ بعد جولته ـ قال لهم: «ما رأيته لا يُكلّف أكثر من 100 دولار... أين ذهبت الأموال؟ سأحاسب الذي وضع دراسة التأهيل والترميم». يُسجل لشربل أن صوته كان مرتفعاً، وهو لا يعلم أن ثمة إعلامياً يسمعه، وبالتالي لا مكان للحديث عن عراضة أو «عنتريات» إعلامية. كان صادقاً، أو هكذا بدا في غضبه وردّ فعله. ففي لحظة، كادت حنجرته تقفز من فمه، مع إحدى صرخاته، عندما راح يكيل الشتائم. قال لهم: «لو كنت أعلم أن هذا ما سيحصل لقررنا صرف المبلغ على السجناء، مباشرة، فأنا مررت سابقاً عليهم ورأيتهم كيف يعيشون في مكان لا يليق بالبشر، وقلت مرّة إن المكان لا يصلح لعيش البهائم، حتى تأتوا أنتم اليوم وتضيعوا كل أملي بفعل شيء جيّد لهؤلاء السجناء؟ مش رح تمرق القصة عندي وبتشوفوا».
خاب أمل الوزير. أشعره المتعهدون بأنه قد يغادر الوزارة بلا إنجاز في رومية، ولكن ثمة من كان يسأل أمس هناك: تُرى، ألم يكن يعلم هو أن هذه هي نوعية الأشغال في لبنان؟ أليس هو من اختار العمل مع هؤلاء المهندسين بالتحديد؟ هؤلاء الذين أصبحوا في لبنان، مع مرور الزمن، وكثرة المشاريع، لا يعرفون معنى إتمام مشروع بلا «عمولة» (اسمها الحقيقي سرقة) لجيوبهم الخاصة. هؤلاء الذين يعرفون أنهم إن قاموا بالعمل الجيد، وبضمير حي، بلا «زعبرة» وغش، فإنهم لن يتمكنوا من العودة قريباً إلى الورشة نفسها لإجراء التصليحات، وبالتالي لأخذ المزيد من التلزيمات - الدولارات.
في حديثه مع المهندس، قال شربل بصوت عال: «تخيّل نفسك أنت من سيدخل إلى هذا الحمام، لا السجناء. لنفترض أنك استخدمت هذا الحمام الآن هنا، طيّب وبعدين، كيف بتكب ماي؟ يعني كأنك تطبق المثل «الحمّام المقطوعة مايته».
إذاً، نحن أمام ضياع ملايين جديدة من الخزينة اللبنانية، أو بالأحرى سرقتها. حتى المسؤول «احترق دمه» في جولته أمس. خرج شربل من المبنى المذكور، متوجهاً إلى قاعة المحاكمات، التي قيل سابقاً إنها بُنيت على مدخل السجن لتسريع المحاكمات، ولأن هناك خطراً على بعض الموقوفين من جراء نقلهم إلى قصر العدل في بيروت. جال شربل في القاعة، فوجدها من أجمل المباني في لبنان، وأنها مجهزة بأدوات متطورة ليست موجودة في قصور العدل، فسأل بصوت عالٍ: «لماذا لم يباشر القضاء محاكمة السجناء هنا؟ لماذا بنينا هذه المحكمة؟». ما من أحد يجيب الوزير هناك. صمت مطبق. فقط أحد الضباط اقترب منه وهمس في أذنه. عاد الوزير وسأل مجدداً السؤال نفسه. اقترب منه أحد الإعلاميين وأخبره أن القضاة، وعلى رأسهم القاضي جان فهد، يخشون المجيء إلى السجن بسبب الموقوفين الإسلاميين.
في الواقع، هذا ما كان قد أُشيع سابقاً، ولكن من دون تحديد معنى «الخشية» هنا. في هذا الإطار، بعض المتابعين يرون أن السبب ليس في الخشية، ولا في قلة الهمّة، بل «هو برستيج القضاة، تحديداً بعض القضاة، الذين لا يناسبهم دخول أماكن مثل سجن رومية. هم فقط يرسلون الناس إلى هناك لسجنهم، أما أن يأتوا هم إلى قاعة مبردة ومجهزة بأحداث وسائل الراحة، فلا. هم ذو شأن طبعاً!». توجه شربل إلى وزير العدل شكيب قرطباوي، وإلى مجلس القضاء الأعلى، قائلاً: «لماذا جعلتمونا نتكلف نحو 800 ألف دولار، ولاحقاً وصل المبلغ إلى مليونين ونصف مليون دولار من أجل هذه المحكمة، ومع هذا لم تأتوا بالموقوفين الإسلاميين لتحاكموهم فيها؟ أجيبوني سريعاً وإلا فإني سأفتح هذه القاعة أمام السجناء، ليعيشوا فيها، فهي تتسع بالحد الأدنى لنحو 500 سجين، فهم في هذه الحالة أولى برفاهيتها».
الكلمات الأخيرة قالها شربل أمام الإعلاميين. هنا أصبح في مؤتمر صحافي، كان فيه صريحاً، لدرجة ربما نسي أنه هو أحد الوزراء في هذه الدولة «التي يتعامل معها الجميع على أن حيطها واطي كثيراً». أخبر الحاضرين ببعض ما رآه في الجولة. طبعاً لم يخبرهم عن «البهدلة» التي وجهها إلى «الفاسدين»، لكنه صارح الإعلاميين بأنّ ما رآه لا يرضيه، وأنه سيُحاسب صاحب الدراسة والمتعهد. بين الحضور كان أحد الضباط المهندسين، من قوى الأمن الداخلي، إلى جانب سائر المهندسين والمتعهدين. كان صامتاً، لكنه خلال جولة الوزير، حاول الدفاع عن نفسه أكثر من مرة، لكن الوزير كان يقاطعه قائلاً: «طيّب طيّب». الذين بددوا المبلغ الضخم ليسوا كلهم من المدنيين، بل ثمة رجال أمن معهم، وهذا ما يعرفه الوزير، وإن لم يقله مباشرة.
توجه شربل أثناء عتبه على القضاة إلى وزير العدل، قائلاً: «أرسل لي كتاباً يخبرني عن تأجيل محاكمات بسبب عدم نقل قوى الأمن للسجناء، ولكن أقول اليوم: لماذا التحجج بالنقل ولديكم قاعة للمحاكمات ولا تستفيدون منها؟». ساعات ويأتيه الرد من وزير العدل: «أتفهّم ردّ فعل الوزير شربل، وأقول إن المحاكمات ستبدأ قريباً، وإن اجتماعاً مخصصاً لهذا الموضوع سيعقد الأربعاء في قصر العدل».
أي سوريالية أكثر من مشهد وزير في الدولة يسأل: «بدنا دولة أو لا؟... خلينا نعرف!». من ترى يجيب شربل؟ أبو عدنان بائع الخضر في الضاحية مثلاً؟ الوزير يتكلم من قلب محروق، ربما كان يريد فعل شيء، ولكنه غير قادر، غير أن صورة الدولة كلها في مكان ما أصبحت غاية في السوريالية.
جال الوزير صباحاً في رومية. عند ساعات المساء الأولى، وصل خبر من رومية، يفيد عن هروب أحد السجناء من المحكومين، من آل الشحيمي، وتهمته السرقة. قيل إن عملية، بحسب الظاهر، حصلت صباحاً. ربما في الساعة التي كان فيها شربل هناك. لم ينتظر السجين ليستمع إلى كلمة الوزير في نشرة أخبار المساء. ما عاد يعنيه كل هذا الهراء. في الصباح فضيحة تبديد المال العام، في ورشة ترميم سجن رومية وقاعة المحاكمات، وفي المساء هروب سجين... أهلاً بكم في سجن لبنان.
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه