28-11-2024 03:25 AM بتوقيت القدس المحتلة

من قصص حرب تموز 2006: المقاومون اقتحموا "جل العلام" بفلسطين

من قصص حرب تموز 2006: المقاومون اقتحموا

لم يتوقع الإسرائيليون أن يجدوا المقاومين خلف باب الموقع. ارتبكوا. علا صراخهم وأخذوا يلملمون قتلاهم وجرحاهم تحت نيران المقاومين وينسحبون إلى داخل «جل العلام». «وفروا علينا تفجير بوابة الموقــع»

مقابل تلى اللبونةتمسك تلة اللبونة المرتفعة 150 متراً مقابل منطقة الناقورة بمدى الرؤية الساحلية للمقلبين اللبناني والفلسطيني. في نهاية أحراجها الممتدة على تسعين في المئة من مساحتها، يبدأ الساتر الترابي ومعه الشريط الحدودي الفاصل بين لبنان وفلسطين المحتلة. هناك يركز الإسرائيليون موقع «جلّ العلام» وفيه ما لا يقل عن تسعين جندياً والكثير من أجهزة التجسس وآلات التصوير التي يتعدى مدى بعضها الثلاثين كيلومتراً. لهذا الموقع أهمية كبيرة للإسرائيليين كما لرجال المقاومة، وعليه كانت معارك اللبونة حجر زاوية وأساسـاً في مسار الحرب.


بطبيعة الحال وككل المناطق الملاصقة والمتداخلة مع فلسطين كانت اللبونة محور تقدم محتمل. يشعر الواقف على تلة اللبونة أن الوصول إلى فلسطين لا يعوزه سوى القفز في الهواء. هناك تبدو مناطق الجليل التي زرعها الإسرائيليون بالمستعمرات على ضربة حجر. من اللبونة، تصبح حيفا ومعها عكا والمدن الفلسطينية المحيطة تحت رمية صاروخ وليس سراً أن نهاريا ساقطة عسكرياً.
يفرحك في اللبونة أن رجال المكان «قطعوا رجل» كل من مد ساقه خارج السياج الحدودي. لم يكتفوا بمنع الغزاة من تدنيس اللبونة بل «غزوهم في عقر دارهم وهزموهم». إلى موقع «جل العلام» لحق المقاومون بالغزاة وهناك أحرقــوا دشماً كانت تشكل خطراً على مجموعات مقاومة في مناطق قريبة.


بعد التحرير كان لرجال المقاومــة نقطة عسكرية واضحة في أعلى اللبــونة قرب موقـع أثري يعرف بـ«الخربة». يعرف الإسرائيليـون نقطة المقاومة تلك، وأول ما فعلوه بعد عملية الأسر، كان قصفها. بالطبع كان المقاومون قد غيروا تموضعهم.
حط 14 آب رحاله واللبونة ورجالها على حالهم. لم يسقط شهيد واحد للمقاومة فيها، على الرغم من كل محاولات التسلل والاقتحام والاجتياح التي جربها الاسرائيليون.


عند تلة اللبونةسلامة المقاومين لم تلغ الصعوبات التي عايشوها.. زرع الإسرائيليون اللبونة بالقنابل الانشطارية والعنقودية: «صرنا نمشي عين على الأرض والأخرى على الشجر.. العنقودي كان في كل مكان»، ومع ذلك «نجا الشباب منه والحمد الله». بعدما كان الإسرائيليون «يروّقون اللبونة ويغدّونها ويعشّونها قصفا»، كما يقول المقاوم أبو علي، قرروا اجتياحها أملاً بإسكات الصواريخ عن شمال فلسطين ومدنها العميقة في الداخل: «كانوا مفكرين إنه الصواريخ عم تطلع من اللبونة».


لم يكن إسكات الصواريخ هو الهدف الوحيد للإسرائيليين من وراء اجتياح اللبونة. بدت المنطقة نموذجية لرصد أي حركة في الداخل الفلسطيني وموقع محتمل لتصويب وإدارة نار الصواريخ. تمسك اللبونة بصور وسهلها وقراها ولا «تدب النملة» في جزء كبير من فلسطين بعيداً عن مرمى النظر فيها. كان موعد اجتياح اللبونة قبل الهدنة بحوالى خمسة أيام. من موقع مجموعة اللبونة سمع الشباب صوت محرك الجرافة العسكرية تتجهز ورتلاً من الدبابات لمباشرة العمليــة، فهبوا لملاقاتهم.


كان الإسرائيليون قد استحدثوا فتحة في الشريط الحدودي. من هناك أطلت الجرافة العسكرية وعليها أطلق «أحد الإخوان» صاروخاً فدمرها وقتل سائقها. أكملت الميركافا مشوار الجرافة المقطوع فعاجلها المقاوم بصاروخ آخر تسبب بدورانها حول نفسها. أعطبت فسحبها الإسرائيليون إلى داخل موقعهم وانكفأوا معها. لم يتخط الغزاة في «غزوتهم» تلك الامتار الستة، ومن الميركافا رآهم المقاومون يركضون نحو الموقع وصراخهم يصل أعالي التل. مع فشل محاولة التقدم عمد الإسرائيليون إلى قصفهم المحبب على قلوبهم: بوارج ومقاتلات ومدافع أغرقت اللبونة ومن فيها بذخائرها. وكان الشباب قد عادوا إلى مواقعهم.


لم يكتف مقاومو اللبونة بالمكوث فيها وتحصينها كخط دفاع أول بل أخذوا يعدون العدة لاقتحام موقع «جل العلام» داخل فلسطين المحتلة: «كان هناك بعض الدشم في الموقع تشكل خطراً على حركة شبابنا»، يقول أبو علي أحد القادة الميدانيين في اللبونة.
عزز شباب اللبونة وجودهم. زرعوا العبوات اللازمة على مقربة من السياج الحدودي وعلى أمتار من بوابة «جل العلام» مغلقين كل البوابات المحتملة لدخول الإسرائيليين الى اللبونة وحددوا ساعة صفر لعملية الاقتحام. كانت ساعة الصفر لاقتحام موقع «جل العلام» عند الخامسة من فجر تلك الليلة، «أعذريني لم أعد أذكر الترتيب في أيام الحرب»، يقول أبو علي.


جنود العدو يدخلون الحد الفاصل للسياج بين لبنان وفلسطين المحتلةقبل موعد الاقتحام بثلاث ساعات وربع الساعة، كان شباب المقاومة على السياج الفاصل بين لبنان وفلسطين، وكان الغزاة غير عالمين بما يحدث من حولهم. عند الثانية والربع من بعد منتصف الليل، أي بعد نصف ساعة من وصول الشباب إلى محيط موقع «جل العلام»، شعر المقاومون بحركة داخل الموقع توحي بنية الإسرائيليين التسلل نحو اللبونة. كل من موقعه استنفر الشباب واتفقوا على تقريب ساعة صفر البدء في الاقتحام إذا ما ثبت خروج الإسرائيليين.


رأى أبو علي الجنود الغزاة يتقدمون بشكل سهم عسكري، يكون عادة ضيقاً عند رأسه ويتسع مع تزايد العدد بطريقة يحمي فيها الجنود ظهور بعضهم البعض وتبقى مجموعتهم فارغة في الوسط. كان أبو علي أقرب المقاومين إلى مقدمة السهم، وكان قائد المجموعة الإسرائيلية يسير في رأس السهم. كان الاتفاق على البدء بإطلاق النار محصوراً بثلاث كبسات على «بيدال» الجهاز. عن مسافة متر ونصف كبس أبو علي على «بيدال» الجهاز ثلاث كبسات وأطلق نار سلاحه في وجه ضابط المجموعة وأرداه. بالقرب منه، فتح مقاوم آخر النار على الجنديين التاليين وراء الضابط، وكرت السبحة.


لم يتوقع الإسرائيليون أن يجدوا المقاومين خلف باب الموقع. ارتبكوا. علا صراخهم وأخذوا يلملمون قتلاهم وجرحاهم تحت نيران المقاومين وينسحبون إلى داخل «جل العلام». «وفروا علينا تفجير بوابة الموقــع»، يقول أبو علي حين تسألــه عن مصــير عملية اقتحام الموقع. أكمل المقاومون مخططهم لاقتحام الموقع، تبعوا الجنود إلى عقر الدار، وساهم الاشتباك الخارجي معهم في هروبهم نحو سراديبهم وداخل موقعهم، فيما اعتلت المجموعة المقاومة الدشم المستهدفة في الموقع وهي الدشم الشمالية والأخرى الشمالية الغربية وأحرقوها وغنموا ما فيها من عتاد، ومعه ما تركه الجنود المهزومون في موقع المواجهة خارجاً.


جنود الاحتلال كان شغلهم في حرب تموز 2006 لملمة قتلاهمعندما ترك الشباب موقع «جل العلام» أعطوا إشارة لمجموعات الدعم التي أمنت غطاءً نارياً عنيفاً على الموقع لتأمين انسحابهم مع الغنائم الكثيرة التي لم تقتصر على المناظير وأجهزة الاستخبارات والعتاد وبعض الذخيرة. احتوت الغنائم على بعض ألواح الشوكولا «اللذيذة» وزوج جوارب. يقسم أبو علي أن «جميع الشباب» خرجوا سالمين من عملية اقتحام موقع «جل العلام» داخل فلسطين «ولم يخرج لملاقاتنا أي من جنـودهم، خافوا واختبأوا على عادتهم في المواجهات الميدانية معنا».

وحده أبو علي تنشق وهو يقوم بسحب العتاد والأجهزة، غبار القنابل الفوسفورية التي جعلته يبصق دماً، ودخل المستشفى بعد العدوان مباشرة: «نحن كنا مستعدين للشهادة لكن ليس للتأثر بالفوسفوري»، يقول اليوم وهو على أبواب إجراء فحوصات إضافية بسبب تكرر العوارض الصحية نفسها.


بعد «غزوة الدار» التي نفذها المقاومون على موقع «جل العلام»، شعر الإسرائيليون بأن اللبونة ليست «حبة» في بيدر المقاومة «لا، كنا خمس حبات» يقول المقاوم. أضحى الغزاة يحسبون ألف حساب لأي خروج من الموقع ولأي طلة من الدشم ولأي تقدم بالدبابات. يذكر أبو علي أنهم ولمجرد تشغيل محركات آلياتهم في إحدى المرات تمهيداً لبدء تقدم جديد، تمكنوا من سماع قائد ميداني يطلب من المقاوم تجهيز نفسه وصواريخه فأطفأوا محركاتهم وعادوا أدراجهم إلى الموقع.


هناك في اللبونة، كسر المقاومون قدم كل غاز تجرأ ووضعها خارج السياج الحدودي. من اللبونة وأحراجها الملاصقة لفلسطين راقبوا مستعمرة شلومي عن كثب وعرفوا بكل تفاصيل ما يدور على الجبهة العدوة».


بقيت اللبونة عزيزة وصامدة ليس طوال 33 يوماً من العدوان فقط وإنما «حرّم» منها الشباب «الإسرائيليين تشعيل النار». إلى أن كان الرابع عشر من آب.. و«كل نصر وأنتم بخير»، يختم أبو علي روايته.
ملحوظة: المقال جزء من مقابلات مع ضابط كبير في المقاومة لـ «السفير» في العام 2007