تصريحات بعض السياسيين اللبنانيين بدعم الجيش تترجم على الأرض بقطع طرقات، وإطلاق رصاص عشوائي دعماً للأسير، بل إنّ القواعد الشعبية لا تكف عن وصف الجيش اللبناني بأنه شيعي صفوي إيراني
فؤاد إبراهيم / باحث وناشط سياسي / جريدة الأخبار
ساحة حرب الطائفية هي الغرائز، وحين تحضر يغيب اثنان: الحق والحقيقة، فيما تعقب ذلك ويلات اجتماعية وأمنية وسياسية وفكرية. ونحن، اليوم، أمام شكل جديد من الطائفية يخلو من الحد الأدنى من الذكاء، ويفيض غباوة، ببساطة لأنها مشحونة بجرعة غرائزية مكثفة، ولمجرد نداء من محرّض بسيط الذكاء يكفي لتحشيد مناصرين كثر.
فيما مضى من السنوات، كانت الطائفية أكثر ذكاءً، وأمكن التهرّب منها، لأن لغة الطائفيين القدامى مواربة، وذكية، ومخاتلة... أما اليوم، فإن الطائفية تشبه إلى حدّ كبير قول أحدهم (لا تسبّ يا ابن...).
في السابق، كان من يصفع هو نفسه من يصرخ، فيضيع صوت الضحية، أما اليوم، فمن يصفع ويصرخ يكشف عن هويته على الفور، وبطريقة بلهاء في معظم الأحيان. والسبب، أنّ طائفية الأمس كان يديرها أهل السياسة، أما طائفية اليوم، فيديرها أهل الدين، أو بالأحرى أن طائفية الأمس نخبوية، أما اليوم، فهي شعبية... والفارق، في الميدان، أن طائفية النخبة منضبطة بخلاف طائفية الشارع المنفلتة والمدمّرة، مع التذكير الدائم بأن مركز التوجيه الطائفي في زمان الدولة القطرية التسلّطية بيد السياسيين لا بيد أهل الدين، دون إعفاء الايديولوجيات المتطرّفة من مهمة الانخراط في العنف الطائفي.
الطائفية صناعة حكومات، وهي نصف الخدعة، لا تكتمل إلا حين تحظى بمباركة الشعوب، فتصبح الخدعة مكتملة النمو والشروط. في النتائج النهائية والعملية، ليس هناك فوارق تذكر بين طائفية وأخرى، فهي ذات مقاس واحد، ولون واحد، ولا حدود فاصلة بين المعتدل والمتشدد، فالجميع سواسية في التفكير والسلوك، والسبب أن الطائفية ليست ظاهرة فكرية ولا سلوكاً دينياً، وإن استعارت من الدين مشروعية تمظهرها السياسي والشعبي، فهي تنشأ كأداة استقطاب تترجم نفسها في هيئة أفعال وتشكيلات راديكالية.
لا يستهجن الطائفي أي فعل ضد الخصم، فكل الارتكابات الشنيعة مهما بلغت من القسوة والوقاحة، تصبح مقبولة وخارج التصنيف الاخلاقي، لأن ثمة معياراً عقدياً يبيح اختراق الخطوط الحمراء أخلاقياً وإنسانياً، ولأن الاصطفافات الطائفية لا تقوم على حقائق بقدر قيامها على كمية وازنة من المحرّضات ذات الطابع المذهبي، فإن الكلام عن كل ما هو عقلاني وعلمي وأخلاقي يصبح غير ذي صلة.
وحين يدور دولاب الطائفية يضيع الأثر، فلا يعرف سبب الدوران، ولا من يقف وراءه، لأن من يحاسب غير موجود، فهي أشبه بحلبة مغلقة للمصارعة لكن بلا حكم، ويكون الحسم حكماً بقضاء أحد الطرفين على الآخر، أو أن ينهك الطرفان فيضطران إلى التوصل إلى تسوية تبقيهما على قيد الحياة.
تزداد الطائفية رسوخاً في بيئات مغلقة، ولا يعني العيش في كيانات حديثة اندثار التشكيلات الاجتماعية المغلقة، إذ يكفي صوغ خطاب فئوي خاص، وتشكيل مؤسسات مضادة للمؤسسات العامة للدولة والمجتمع، كأن يكون المسجد، ومركز التوجيه الديني، والجمعية الثقافية، والصندوق الخيري وغيرها مقتصرة على جماعة محدّدة... في بيئات مغلقة ومعزولة كهذه، تنمو الطائفية بوتيرة سريعة، وعلى الضد يتكفل الانفتاح بكل أشكاله بمهمة إبطال المفعول التدميري للكراهية في شتى أطوارها.
في نظرة تأمل، وعلى أفق واسع، يمكن الجزم بأن الطائفية الشعبية منتج وهابي بامتياز، لا تلبث أن تتحوّل إلى ظاهرة مسلّحة في أي بيئة تتوافر فيها شروط تسييل الأفكار الطائفية إلى أفعال إرهابية. ومهما جرت محاولات طمس الآثار الأيديولوجية للعنف في العراق وباكستان وحديثاً في تونس ومصر وسوريا ولبنان واليمن، فإن نزعة نفي الآخر بيولوجياً أصيلة في الأدبيات الوهابية القديمة والحديثة (هل سمع أحد بظاهرة سحل الجثث والتمثيل بها قبل الدخول الوهابي المسلّح الى هذه البلدان؟!).
ليس ثمة ما يحول دون ضخ مفردات مفزعة لتوفير بيئة الفعل الارهابي وبلغة طائفية، لأن ما هو مطلوب يتساوى في حجمه ونوعه مع مستوى التخويف، أو بالأحرى مع ما يراد اقترافه. في مواجهات الجيش اللبناني مع جماعة الأسير ما يكشف عن نموذج دموي في الطائفية الشعبية. فقد بدأت نوبة الهلوسة الطائفية بنداء استغاثة أطلقه أحمد الأسير في الساعة الأولى من المواجهة مع الجيش، يحذّر فيه من «إبادة» يتعرّض لها «السنّة» في لبنان، ثم ما لبث أن أطلق «هاشتاغ» (وسم) في «تويتر» بعنوان «السنّة في صيدا يتعرّضون للإبادة». وفي محاولة غبية لكن مبيّتة، سرّب أنصار الأسير مقطع فيديو لقناة «أو تي في» لعملية انتحارية في حسينية شيعية في بغداد وقعت في 18 حزيران الجاري، على أنه اقتحام للجيش اللبناني لمسجد بلال بن رباح في عبرا، بصيدا، الذي يديره الأسير، وارتكاب الجيش مجزرة، فيما المشاهد تكشف عن ضحايا مدنيين لا مسلّحين، وأنها نتيجة تفجير لا قتل. يضاف الى تلك العناصر الكلام الوارد في المؤتمر الصحافي الذي عقده الشيخ سالم الرافعي في 24 حزيران، وحديثه عن «مجزرة».
تصريحات بعض السياسيين اللبنانيين بدعم الجيش تترجم على الأرض بقطع طرقات، وحرق دواليب، واعتداء على المارة في مناطق متفرقة، وإطلاق رصاص عشوائي دعماً للأسير، بل إنّ القواعد الشعبية لا تكف عن وصف الجيش اللبناني بأنه شيعي صفوي إيراني، لتبرير انتشار السلاح والمواجهة المسلّحة مع الجيش. .
مقتل الشيخ حسن شحاته وعدد آخر من أنصاره في أبو مسلم في محافظة الجيزة بمصر، مثال آخر لا يقل بشاعة، ويستحق وقفة طويلة من التأمل، ليس بسبب بشاعة الجريمة، لكونه قد قُتل على أيدي أهل الحي الذي يقطن فيه بعدما خضعوا تحت تأثير نوبة تحريض مكثفة، فيما رصدت ملصقات تحريضية ضد الشيعة على جدران شوارع القرية، حيث جرى اقتحام منزل الضحية وإضرام النار فيه، وقتل وسحل من فيه بالشوارع. هل ثمة أكثر من ملصق تحريضي يحتاج إليه حشد متحفز لملء أوقات فراغ الجهل والفقر؟!.
في الترجمة العملية لخطابات طائفية غرائزية في ستاد رياضي يرعاه رئيس الدولة المصرية، تتحول الطائفية الشعبية إلى ملهاة دامية، حين تخرج عن نطاق السيطرة، لأنها تصبح بلا هدف، ولا نهاية حتمية، ما لم يتدخل صنّاعها الأصليون لجهة تغيير مسارها أو وضع حد لتدهورها.
لا تتطلب الطائفية في بعدها الشعبي مهارات فكرية وذهنية خاصة، فكل من لديه قدرة على الحشد والضجيج يصبح مرشّحاً للاضطلاع بمهمة التوجيه والقيادة، وكي تتحقق تجربة الخيول التي تصهل بصورة جماعية استجابة لصهيل أول حصان، وفق ما ذكر غوستاف لابون في «سيكولوجية الجماهير»، فإن نظرية القطيع تبدو نموذجية في تطبيق طائفية شعبية عالية الكفاءة.
في الطائفية الشعبية، ليس المطلوب صنع فهم مشترك، بقدر صنع حشد يحقق عنصر التوافق بين أفراد ينساقون طوعاً للقيام بفعل مرسوم سلفاً. وفي ظل انثيالات جماعية نحو الانغماس في الوحل الطائفي، لا غرابة في اختفاء الحكماء، والعقلاء، لكن ما يبعث على الدهشة حقاً، أن يسقط من حسموا خياراتهم الأيديولوجية منذ أمد بعيد في اختبار الضمير، حتى بتنا نرى مثقفين هرموا في العلمانية وقد استزلتهم الطائفية فأنستهم ذواتهم العلمانية، مثل صادق جلال العظم، الذي يرتد عن «نقد الفكر الديني»، في سياق مراجعة الجذور الدينية لهزيمة 1967، لينقلب على مقولاته الإلحادية في الدين باعتباره إيديولوجية «القوى الرجعية المتخلفة في الوطن العربي وخارجه: السعودية، إندونيسيا، باكستان».
فإذا به ينظّر لدولة علمانية مدنية طائفية، كتعويض عن خسارة الاكثرية لدورها السياسي في تجربة الدولة السورية. ومن فجائع انزلاقات الخطاب السياسي على وقع الأزمة السورية، أن يهبط العلماني المسيحي إلى لغة الطائفي الشعبي، لتصبح مفردات وهابية من قبيل (الروافض، الصفويين...) مندغمة في نسيج الخطاب المعارض للنظام السوري! في الطائفية الشعبية ليست ثمة خاتمة سريعة ومريحة، وإذا ما واصلت مضخّات التحريض والتمويل عملها بوتيرة متصاعدة، كما هو الحال في الوقت الراهن، فإننا أمام مرحلة افتراس طويلة الأمد. ومن ويلات الطائفية أن الخسارة وحدها المكافأة التي يحصدها كل الضالعين فيها.