بعد النار الانتقامية الحارقة، اندفع الإسرائيلي إلى أعلى الوادي قاصداً شيحين والجبّين بآلياته «وهناك كانت مفاجأتهم». ما إن أصبح رتل الدبابات مواجهاً للقرى المطلة على شيحين والجبّين حتى دمرها المقاومون
كان رجال المقاومة في البياضة ومحيطها يتوقعون الوجهة التي سيلجأ لها الإسرائيلي للدخول إلى الأراضي اللبنانية. يقول قائد مواجهات البياضة ومحيطها لـ«السفير» إنهم «يختارون غالباً العبور بين منطقتي عمل لمقاومة وذلك هو ما كان».
لم يكن اختيار الخط الفاصل بين منطقتين عسكريتين السبب الوحيد الذي دفع إسرائيل لاعتماد محور التقدم عبر مروحين، بل أيضا طبيعة المنطقة الجغرافية التي تحتضن شريطاً من القرى «الضعيفة ديموغرافيا»، بمعنى تدني نسبة السكان المقيمين فيها من جهة ووجود بعض القرى التي ليس للمقاومة فيها امتداد عميق من جهة أخرى.
في مروحين، التي يدخلها الآتي من فلسطين بمجرد فتح بوابة مستوطنة زرعيت، كان شباب المقاومة في انتظار أي قوة غازية. هناك قتل رجال المكان جنديين إسرائيليين وجرحوا اثنين آخرين وهم في منطقة مكشوفة بالمعنى العسكري، يكون الدفاع فيها من النوع «المرن» لا «الصلب»، وهناك فرق بين النوعين. بعد نيران ألهبت مروحين، اندفع الغزاة باتجاه بلدتي الجبّين وشيحين بهدف قطع المنطقة الخلفية للقطاع الغربي عن المنطقة الأمامية ومن ثم الوصول إلى البياضة.
ترتفع البياضة 150 متراَ عن سطح البحر. وهو ليس ارتفاعا ذا شأن في مقاييس الجبال والتلال. لكننا نتحدث هنا عن 150 متراً ما بين مناطق تنبسط بمستوى صفر كإطلالة. تجعل هذه الخصوصية من البياضة «كماشة» مدينة صور وبساتينها ومحيطها .. في اليوم الثالث لدخولهم مروحين، أي في اليوم الـ25 للحرب، استأنف الغزاة انتقالهم عبر كتيبتين نحو شيحين والجبّين بهدف «تثبيت» مرابض إطلاق الصواريخ المضادة للدروع.
والتثبيت يعني عسكرياً «شلّها»، أي وقف نشاطها. كان المقاومون عند أول الجبّين بانتظار «صيدهم» المفضل، فيما كمنت مجموعة أخرى عند مدخل الجبّين في «نقطة مقتل» وهي عبارة عن «خُر» الوادي أي مدخله عند أول بيت في البلدة. هناك اشتبك عناصر المجموعتين مع جنود الكتيبتين المتقدمتين. رأى شباب المقاومة الإسرائيليين يلفون قتلاهم بأكياس النايلون وينسحبون . بعد النار الانتقامية الحارقة، اندفع الإسرائيلي إلى أعلى الوادي قاصداً شيحين والجبّين بآلياته «وهناك كانت مفاجأتهم». ما إن أصبح رتل الدبابات مواجهاً للقرى المطلة على شيحين والجبّين حتى دمر المقاومون ثلاث دبابات ميركافا في دقائق عدة.
كان في الدبابات المدمرة تسعة جنود قتل منهم ستة وجرح ثلاثة. هنا خرج الإسرائيلي عن طوره.. من البحر والسماء والأرض أمطر مجدل زون والبياضة وشمع بقصف هستيري. أغار حوالى مئة مرة على قلعة شمع وحدها . طلب قائد المنطقة من مجموعات شيحين والجبّين ، «والأهم أن الصواريخ بقيت تخرج من مكانها كالعادة، وهذا ما دفعهم إلى الجنون». بعد النار التمهيدية العنيفة تابع الإسرائيلي تقدمه من شيحين والجبّين نحو منطقة شمع. وعند الغروب نفذت مروحياته «إهباطا» (وضعت مجموعة من الجنود في محيط تلة إرمث وراء شمع والتفوا على البلدة من جميع الجهات.
وعبر الاتصالات التي كانت تصل إلى مسامع المقاومين، كان هؤلاء يسخرون من الحالة المعنوية التي وصل إليها الغزاة. «كانوا يكذبون على قيادتهم»، يقول الحاج جواد، «يشكون من قلة المؤن فيما المروحيات تزودهم بالأطنان منها، إن هاجمهم مقاتل واحد يأخذون بالاستغاثة مشيرين إلى مواجهة ثلاثين مقاوماً.. وهلمّ جرّا». في شمع، دارت المواجهات من بيت إلى بيت ومنها استمر المقاومون في إطلاق الصواريخ حتى آخر لحظة من الحرب. دمروا دبابة H-ZARIT وهي ناقلة جند دخلت الخدمة في الجيش الإسرائيلي في العام .1982 لم يخرج من جنود الناقلة الثمانية من «يُخبّر».
بعد استهداف ناقلة الجند، لجأ الإسرائيليون إلى طريق غير مكشوفة من مجدل زون، حيث كانت مجموعة من المقاومين بانتظارهم. توقع رجال المقاومة تحويل الإسرائيلي خطه بعد تدمير آلياته في شمع وبذلك قصد مقاومان مع عتادهما مدخل الطريق المتوقع اعتماده. سارا بين الأودية والجبال لمدة ثماني ساعات وما إن وصلا إلى المكان المقصود حتى بانت أول دبابة ميركافا. كان المقاوم في السابعة عشرة، وبزنديه الفتيين، وعن مسافة لا تزيد عن 75 متراً «خبط» الميركافا بقذيفة «ب 7 معدل» ودمرها. قامت قيامة الغزاة ولم تقعد.
أغرقوا المنطقة ومصدر النيران بوابل كثيف وعنيف من القصف على أنواعه. استشهد المقاوم خطار رحال. بعد تدمير دباباتها واستهداف مشاتها، اعتمدت إسرائيل على الطريق المستحدثة المخفية وراء الوديان ومنها ثبتت وجودها في شمع، واتخذت المجموعة المقاومة في البلدة موقعا عند اطرافها. في فجر اليوم السابع والعشرين، وما ان أنهى عناصر مجموعة المقاومة في البياضة صلاتهم، حتى لاحت طلائع مئتي جندي إسرائيلي بين أشجار الصنوبر في البياضة وعلى مسافة ثلاثمئة متر منهم. كان الشباب ينتظرون دخول الغزاة الى البلدة. ساهمت جغرافية المنطقة في ترجيح كفة الاشتباك عن بُعد. «كانت منطقة تجمعهم مكشوفة، لا جب بلان ولا جذع شجرة أو حتى صخرة يسند المقاوم إليها ظهره».
قبل دخول البياضة، كان الإسرائيليون قد مشطوها «شبراً شبرا». في الجل الذي رابض فيه المقاومون سقطت «أكثر من 150 قذيفة انشطارية». عبر التمشيط، أصيب كل مقاومي المجموعة بإصابات متفاوتة ومع ذلك فتحوا النار على مئتي جندي إسرائيلي. بالأسلحة المتوسطة عالجوهم و«خدمهم» الإسرائيليون بأن لجأوا إلى التقوقع حول بعضهم البعض مع كل «فتحة» نار... اتفق الشباب أن يطلق أحدهم النار وأن يُجهّز الآخرون الصواريخ، ومع تجمع الغزاة في كل مرة كانوا يطلقون عليهم صواريخهم... عاد القصف الهستيري من البوارج والمقاتلات ومن المدفعية يغرق جل المقاومين، ثم قامت مجموعة إسرائيلية بالالتفاف عليهم ورميهم من الخلف أيضاً.
هنا اتصل جواد بالمجموعة الثانية المرابضة في البياضة وأعلمها بالالتفاف، وما هو إلا وقت قصير حتى أسكت المقاومون النار الخلفية عن رفاقهم . بعد وقت قصير، قامت الدنيا وقعدت... إنها «يسعور» أو مروحية «سكورسكي» التي طورها الإسرائيليون. عبرت «يسعور» من فوق الشباب على ارتفاع لا يتجاوز المئة وخمسين متراً «هبطت تنقل القتلى والجرحى من ساحة المعركة». انتقل الشباب من منطقتهم التي أضحت مكشوفة إلى أحد المنازل الموصولة ببستان كبير. هناك، خلد نصفهم لبعض الراحة وقام الآخرون بالحراسة. ثلاث ساعات وانهار المنزل على رؤوس المقاومين ولكن «خرجنا والحمد لله سالمين"". من المنزل المدمر، انتشر الشباب في البستان حيث انضم إليهم المقاومان اللذان أسكتا النيران الخلفية عنهما وأحدهما يدعى بشير علوية.
جلس الشباب مساء وقرروا أن لا يدعوا الإسرائيلي يرتاح في البياضة، وكان علوية أول الخارجين لملاقاتهم. من موقعهم المساند عند أطراف البستان، كان المقاومون يسمعون ما يفعل علوية بالإسرائيليين. خرج علوية ليجد قرب مسجد البياضة أكثر من عشرين جندياً يرتاحون بعيداً عن عتادهم. وقف أمامهم ورماهم بقنبلة يدوية ثم أفرغ ورفيقه رصاص رشاشيهما فيهم. التف الإسرائيليون على المقاوم المرافق لعلوية فكمن في جب أعشاب كبير. «متر أو متران فقط عن الجب ولم يجده الإسرائيليون». بعد ذهاب الإسرائيليين، وجد المقاوم قاذف «ب 7» وقذيفته «لقم القاذف ونظر من حوله ليجد جنديين يطلان من نافذة أحد البيوت، صوب عليهما وأطلق قذيفته وشاهدهما يهويان». استمر المقاوم بشير علوية ولمدة ثلاثة أيام في الاشتباك مع الإسرائيليين وإزعاجهم، مثله مثل مجموعة البستان: «وكنا في كل يوم نرمي من بينهم قتلى وجرحى».
في اليوم الرابع، شعر مقاومو البستان بهدوء لا يشبه طبيعة علوية فخرج أحدهم لتفقده: «كان قد مرّ على استشهاده حوالى ثلاث ساعات فقط، كان جسده ما يزال ساخنا». سقــط علوية من مــارون الراس مصاباً بثلاث رصاصات في الرأس والوجــه والصــدر، بعدما كان، وعلى عادتـه في كل مرة، قد وقــف أمــام الغزاة وأفرغ بهم مخزنه ولكنهم نالوا منهم في ذلك اليوم. يوم 14 آب.. رأى المقاومون سيارة مدنية عند الثامنة والثلث صباحاً. خلعوا بدلاتهم العسكرية وخرجوا يلاقون أهلهم الآتين من صور. وصلت امرأة ورأتهم لم تكن تعرفهم، ولكنها ركضت نحوهم تحمل ما أتت به من طعام «تقبروني الحمد الله على سلامتكم» قالت لهم وهي تفرش ربطة الخبز التي تناولوها وكأنها وليمة.
ملحوظة : هذه القصة جزء من مقابلة مطولة مع أحد ضباط المقاومة مع جريدة السفير في العام 2007