شكل خطابا أوباما الأخيرين ترجمة لإنعطافة في السياسة الأميركية، الخطاب الأول قدم أميركا كمخلصة للشعوب العربية، أما الثاني فحاول أن يدير الدفة مستهدفاً "الإرهاب الشيعي" بعد القضاء على بن لادن
كثيرون هم من قالوا إنّ الخطابين الأخيرين للرئيس الأميركي باراك أوباما واللذان توجّه بأوّلهما إلى الشباب الثائر في العالم العربي والإسلامي وبثانيهما إلى اليهود الأميركيين لم يحملا أي جديد، وأنهما فارغا المضمون والأفكار ولا يتضمنان أي طروحات جديدة، بل وصفهما البعض بأنهما تكرار للأسطوانة الأميركية التي مللنا سماعها. قد يكون هذا القول صائباً في بعض النقاط التي طرحها اوباما، إنما لو قمنا بمراجعة دقيقة لما بين السطور سنجد تبدلاً كبيراً في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، خصوصاً فيما تطلق عليه الإدارة الأميركية تسمية "محاربة الإرهاب".
فالإرهاب بحسب القاموس الأميركي كان وحتى الأيام القليلة الماضية متمثلاً بالدرجة الأولى بتنظيم القاعدة، ولكن متطلبات الانتقال من مرحلة لأخرى بسرعة قياسية دفعت الأميركيين إلى القيام بثلاث خطوات متتالية. فبداية كان المطلوب تنحية أسامة بن لادن عن المشهد الإعلامي العالمي وهذا ما حصل، وبعد إعلان أوباما القضاء على رمز "الإرهاب السني"، وجب عليه الظهور في خطابه الأول ليتبنى فيه الثورات العربية محاولاً كسب الرأي العام العربي بشكل عام والسنّي بشكل خاص إلى جانبه، وطي صفحة حروبه على أبناء هذا المذهب الكريم واستكمال عملية نقلهم من تاريخهم المقاوم إلى مستقبل متآمر، وهذه العملية كان قد باشر بتنفيذها بعض أدوات الإدارة الأميركية في العالم العربي.
هذا عدا عن تشويه التاريخ والحقائق الراسخة ليظهر الأميركي كمخلّص للشعوب العربية من ظلم وفساد حكامهم الذين هم في الأساس أدوات في يد واشنطن. وبعد ذلك كان لا بد له في خطابه الثاني إدارة الدفة نحو محاربة "إرهاب" من نوع آخر، فوجّه اوباما سهامه نحو "الإرهاب الشيعي" المتمثّل بإيران وحزب الله سورية. فصحيح أنّ سورية ليست شيعية ولكنها بالحد الأدنى أحد الأركان الرئيسية في محور الممانعة والصمود والمقاومة. وهكذا بدا الرئيس الأميركي في الخطاب الأخير كمن يتلو البيان الإتهامي الذي سيصدر عن المحكمة الدولية: حزب الله يمارس الإغتيال السياسي ويقوم بتفجير السيارات وقتل الناس وهو من قتل رفيق الحريري!
لم نفاجأ كثيراً بالانعطافة الأميركية، خاصة بعد أن كان الغرب قد مهد لها طويلاً، إن كان من خلال بثّه للفتنة الشيعية – السنية في العراق ولبنان، أو عبر اتهام إيران بمحاولة السيطرة على الخليج العربي، وقد عاونه في ذلك أزلامه من الملوك والرؤساء والأمراء، حتى أصبحت الجمهورية الإسلامية في نظر الكثيرين وحشاً يريد الإنقضاض على المنطقة واستباحتها. وما نحن أمامه اليوم هو الإنتقال إلى مرحلة التطبيق العملي لهذه المخططات الأميركية – الإسرائيلية – الأوروبية القذرة، وبداية المرحلة التطبيقية كانت ثورة مزعومة في سورية، زيادة الضغط الدولي على طهران ودمشق عبر العقوبات الإقتصادية، ومن المقرر أن تتوّج بالقرار الظني الذي سيتهم "حزب الله الشيعي" بقتل "رئيس الوزراء السني" الأسبق رفيق الحريري. أما العنوان العريض لهذه المرحلة فبدا واضحاً في خطابي أوباما وهو "إلى الإرهاب الشيعي در". فهل يكون هذا العنوان بداية لحرب عسكرية شاملة على محور المقاومة؟
إستراتيجية أميركية جديدة: مصالحة السنّة والتمهيد لضرب الشيعة
"لا يمكن أن نجد اختلافات جوهرية بين الخطابين، ففي كليهما نرى أن هناك إستراتيجية أميركية واحدة ومركّزة وجديدة تقوم على مبدأ التحوّل من محاربة الإرهاب الذي تسميه أميركا "إرهاب القاعدة" إلى "إرهاب إيران وسورية وحزب الله"، لكن في الخطاب الأول لم يكن هناك تركيز على حزب الله باعتبار أن مناسبة الخطاب بشكل أساسي كانت الكلام عن الثورات العربية ولم يكن من المنطقي إقحام حزب الله في هذا الموضوع في حين أن المسألة من وجهة نظر أميركية مرتبطة بشكل أساسي بسورية وحليفتها إيران. وبما أن الخطاب الثاني كان أمام لجنة الشؤون العامة الأميركية - الإسرائيلية (ايباك) أي أمام يهود أميركا، والخصم اللدود والأوّل للإسرائيليين هو حزب الله، لذلك نجد تركيزاً على حزب الله وكأن اوباما استلحق ما فاته في خطابه الأول".
إذاً هي استراتيجية جديدة يراها الباحث في الشؤون الإستراتيجية الدكتور حبيب فياض في قراءته لخطابي اوباما. و إذا أردنا أن نقرأ الملامح العامة للإستراتيجية الأميركية الجديدة في كلا الخطابين، سنجد بحسب فياض ثلاث نقاط رئيسية:
أولاً: إن أميركا ملتزمة بأمن إسرائيل إلتزاماً كاملاً دون أي تراجع وحتى أنّ ًاوباما استخدم عبارة في خطابه الأول "لن نسمح بانتقاد إسرائيل".
ثانياً: مهما يحكى عن خلافات بين الجانبين الأميركي والإسرائيلي حول مسألة الدولة الفلسطينية وتحديداً على أراضي 1967، لا يمكن أن يدرج إلا في إطار المناورة الأميركية – الإسرائيلية من قبيل توزيع الأدوار بدليل أن الشعب الفلسطيني حصل على وعد من إدارة بوش بتأسيس دولة فلسطينية عام 2005 من دون أن يكون هناك أي خطوات جدية من قبل الأميركيين في هذا الإتجاه، حتى أن أوباما استدرك أيضاً في خطابه الثاني وقال أن حدود دولة 1967 لن تكون حدوداً نهائية بل يمكن أن يكون هناك تبادل للأراضي بين الجانبين، ما يعني أنه حتى الرؤية الأميركية للدولة الفلسطينية هي رؤية هلامية وغير واضحة ومن الممكن أن تقوم على مبدأ المماطلة والتسويف إرضاءً للإسرائيلي، أي أن الخلاف بين الجانبين في هذا المجال إنما يندرج في إطار المناورات وتوزيع الأدوار.
ثالثاً: يبدو واضحاً أن اوباما عندما كان يتكلم في خطابه الأول عن أسامة بن لادن والقاعدة كان كمن يتلو ورقة نعي "للإرهاب السني" السلفي، وعندما كان يتكلم عن إيران وسورية وحزب الله في خطابه الثاني، كان كمن يشحن الرأي العام الأميركي بأن المرحلة المقبلة في الصراع الأميركي مع الإرهاب إنما ترتكز على "الإرهاب الشيعي".
وإن دل هذا على شيء فإنه يدل بحسب الدكتور فياض على "أن السياسة الأميركية المقبلة تقوم بالدرجة الأولى على إثارة الفتنة والتحريض المذهبي فضلاً عن مسألة الكيل بمكيالين، فهو انتقد سورية بأشد ما يكون الإنتقاد على خلفية الحرية وحقوق الإنسان ولكنه عندما تكلم عن المسألة البحرينية تكلم على أساس أنه يجب أن يكون هناك حوار، وحتى عندما تعرض لمسألة هدم المساجد في البحرين فقد تكلّم بشكل نظري بعيداً عن أي آلية عمليّة، وهو لم يلمّح بإمكانية إجراء أي ضغوط فضلاً عن عقوبات على البحرين ، والسؤال الذي يطرح هنا: ألا تستطيع أن تفعل أميركا شيئاً من أجل الحفاظ على حقوق الإنسان في البحرين مستخدمة نفوذها على دول مجلس التعاون الخليجي؟"
اوباما يحوّل الثورات إلى مؤامرات والمؤامرات إلى ثورات
إذا أردنا أن نختصر خطابي أوباما يمكننا أن نقول إنه أراد أن يضفي صفة المؤامرة على الثورات العربية الحقيقية وبالمقابل أراد أن يلصق صفة الثورة على المؤامرات التي تحصل في العالم العربي. ففياض يرى أن "ما يحصل في سورية هو في جزء كبير منه مؤامرة ولكن الأميركي يدرجه في إطار الثورة، ولكنه عندما يتكلم عن البحرين يوحي بأن المسألة البحرينية إنما هي بوحي من إيران ومؤامرة منها، وحتى دعوته للحوار ليست من أجل حقوق الإنسان بل من أجل قطع الطريق على تدخل إيراني في البحرين. ويبدو من الواضح أيضاً في الملف الإيراني أن أميركا تريد القيام بسيناريو معيّن من أجل إلحاق إيران فيما يحصل على مستوى الثورات العربية، أي أنها تريد استغلال الفترة الذهبية حتى تقول إن الشعب الإيراني أيضاً لديه مشكلة مع نظامه كما حصل في بعض البلدان الأخرى".
التحضير لإستهداف حزب الله ومحور المقاومة
وفي مراقبة للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط نجد أنه في شهر أيار من العام 2006، أي قبل شهرين فقط من عدوان تموز، شنّت أميركا حملة ضخمة على الصعيدين الإعلامي والسياسي ضد حزب الله على خلفية اتهامه بأنه يدعم المقاومة العراقية ويقدّم لها أنواعاً خاصة من العبوات والأسلحة الناسفة وهي فتاكة ضد الجنود الأميركيين. وهنا يلفت فياض إلى "أن هذه الحملة كانت تندرج في إطار تحضير عملي لعمل ما ضد حزب الله وتبيّن لاحقاً أن حرب تموز كانت بآلية إسرائيلية ولكن بقرار أميركي".
ويتابع الدكتور فياض: "دخول اوباما إلى هذا المستوى من التفصيل، يشير إلى أن أحد مستشاريه أو وكالة الإستخبارات همسوا بأذنه أنه من المهم للأميركيين اتهام حزب الله بالاغتيال السياسي في سياق التحضير لضربه، وتحديداً فتح ملف المحكمة الدولية التي يمكن أن يحركوها بأي وقت. َفكلام أوباما إذاً يندرج في إطار تحضير عملي ما يستهدف حزب الله، أو عمل ما يستهدف كل أطراف محور الممانعة".
والقاعدة العامة التي نستنتجها هي: عندما نجد مسؤولاً أميركياً رفيع المستوى يتدخل في تفاصيل على صلة بحزب الله أو حركة حماس أو إيران أو سورية، هذا يعني أن أميركا بصدد القيام بعمل ما ضد هذه الأطراف، إما عقوبات أو حرب.
كيف تخطط واشنطن لإحراج روسيا والصين؟
الأميركيون والأوروبيون يعلمون أن أي عقوبات على سورية خارج إطار مجلس الأمن، مهما كانت شديدة، تبقى مفاعيلها معنوية وسياسية فقط، لذا يرى د. فياض أن ما يحصل الآن في سورية هو أنّ الأميركي يريد أن يسير ضمن إتجاهين متوازيين: "الإتجاه الأوّل: الأميركي يريد حشد أكبر قدر ممكن من الرأي العام الدولي المناهض لسورية وحزب الله على خلفية ما يحصل داخليا في سورية، وعلى خلفية اتهامها وحزب الله باغتيال الرئيس رفيق الحريري أملاً بالوصول إلى أكبر قدر ممكن من الإجماع الدولي الذي يؤدي إلى فرض عقوبات على سورية في مجلس الأمن. فروسيا والصين تستطيعان مواجهة المنطق الأميركي القائل بأن سورية دولة ضد حقوق الإنسان وأن ما يحصل في سورية ثورة، ولكن ربما يكونان أضعف في مواجهة واشنطن عندما يقال إن سورية مارست جريمة اغتيال الرئيس الحريري. الهدف إذاً المزيد من الإحراج للأطراف الدوليين المتعاطفين مع سورية. الإتجاه الثاني: بشكل متواز مع هذا، ما تريده أميركا من سورية هو تغيير السلوك، أي فك الإرتباط بإيران وحزب الله، فالولايات المتحدة لا تستطيع أن تفرض عقوبات على حزب الله ولكنها تعتقد بأن سورية هي الرئة التي يتنفس منها الحزب، وبالتالي فإن الأميركي يرى بأن فرض عقوبات على سورية وإضعافها سيؤدي في نهاية الأمر إلى تغيير سلوكها وفك ارتباطها مع حزب الله، وستصبح حينها سورية دولة مرضي عنها في المنطقة وكل هذه الضغوط والقيود الأميركية والأوروبية سوف تتراجع وتتلاشى.
اغتيال بن لادن: ركيزة للتحوّل الجوهري في استراتيجية أميركا
وبالتالي بات واضحاً للدكتور فياض أن "الإعلان عن اغتيال اسامة بن لادن في هذا الوقت بالذات هو ركيزة تريد أميركا أن تستند عليها من أجل إيجاد تحوّل جوهري في استراتيجياتها، هذا التحوّل هو من الساحة الأفغانية - العراقية إلى الساحة الإيرانية – السورية - اللبنانية، وكل كلام أوباما خلال الفترة الماضية يصب في هذا الاتجاه، وقد أعطت أميركا تفويضاً صريحاً لحلف شمال الأطلسي في أفغانستان وهي بصدد الإنسحاب من العراق، وكل الجهود الأميركية خلال الفترة المقبلة سوف تتركز باتجاه سورية وإيران وحزب الله، وللأسف الشديد هناك بعض الأطراف الإقليمية ممن كانوا يعتبرون خارج "محور الإعتدال" باتوا الآن إلى حد كبير أدوات في خدمة المشروع الأميركي، فهؤلاء أرادت الولايات المتحدة من خلال الضغط عليهم أن يندرجوا في صلب "محور الإعتدال "كتعويض عن الفراغ الذي حصل نتيجة غياب الدور المصري".
مرحلة صعبة بانتظار محور المقاومة والممانعة، فالأميركي ومعه الغرب قرروا الدخول في مواجهة مباشرة وحاسمة لتدمير هذا المحور، فعلى ما يبدوا لم تعد العصا الإسرائيلية مجدية في الشرق الأوسط، لا بل تحطمت بشكل نهائي بعد الإندحار المذل من جنوب لبنان عام 2000 والهزيمة القاسية عام 2006 وما تلاها من فشل ذريع إبان العدوان على غزّة. كل هذه الهزائم التي جعلت الشباب العربي يقف منذ أيام بوجه الجنود الصهاينة غير آبه لرصاصهم، لا بل اخترق الشباب الأعزل الحدود متوجهاً نحو القدس المحتلّة، ما يدل على أزمة حقيقية يعيشها العدو الصهيوني حتى بات النقاش دائراً حول إمكانية استمرار احتلال فلسطين. ولم يبقَ سوى القول: إسرائيل استجدت والغرب لبى النداء، فمن سيخرج من المرحلة النهائية منتصراً؟