هذا الرفض المطلق والعارم للتسوية السياسية أو المرحلية أو الموضوعية من قبل أصوليات إسلامية عديدة هو تعبير عن انقطاع هذه المجموعات عن أحكام التاريخ وحتمياته وعدم قبولها بأي شكل التفاهم مع أطراف الصراع
غسان ملحم / باحث في مركز الدراسات السياسية لأوروبا اللاتينية في فرنسا/ جريدة الأخبار
تختلف النخب السياسية والفكرية في البلدان العربية والمشرقية في مقاربة وتحليل التطورات الراهنة على الساحة الإقليمية وفي داخل الساحات المحلية على خلفية اختلافها أصلاً في الرؤية السياسية والمذهب العقائدي. وكذلك يختلف الناس في الشارع العربي وفي داخل البلدان العربية نفسها في فهم ما يجري والتعاطي معه تبعاً للانتماءات المذهبية والطائفية والعرقية، بعيداً عن الموضوعية في القراءة والتقدير المسؤول أو حسن الظن غالباً.
فتنغمس شعوب المنطقة وعامة الناس، ومعهما النخب الريادية والقيادية ــ أو التي يُفترض بها أن تضطلع بدور ما في القيادة والتوجيه والتعبئة، في خلافاتها ونزاعاتها، دون أن تعي جميعها خطورة هذا التشدد وهذا التعنت في التصعيد والمواجهة على الوجود والمصلحة العامة المشتركة والمستقبل. هذه هي حال العديد من البلدان العربية والإسلامية، ومنها مصر وسوريا والعراق ولبنان وغيرها من البلدان أيضاً، حيث تتناحر مكونات النسيج المجتمعي الواحد بضراوة في محاولة منها جميعها لتحقيق غلبة ما! فما الذي يجعل هذه البلدان تتخبط بأنماط كهذه من التقاتل والتناحر في زمن يُفترض فيه بجميع التيارات والقوى التصرف بحكمة والعمل لشحذ الهمم والتكاتف والتعاضد بقصد التصدي لتحديات المرحلة وما يُرتقب في أفق غير بعيد؟ وهل يُعقل أن تعود أقطار المنطقة العربية والمشرقية إلى الوراء، وأن تمعن تالياً في نبش أحقاد الماضي، لتستحضر من التاريخ الغابر ذكريات منسية، أو أقله مطوية، من الفئويات والعصبيات والعنصريات القاتلة بدل المضي قدماً باتجاه الوحدة المفترضة على اختلاف صورها أو التكامل الموضوعي الذي تقتضيه الظروف الراهنة سياسياً واقتصادياً وأمنياً؟.
تشهد بلدان المنطقة العربية في هذه المرحلة العصيبة من تاريخها السياسي والحضاري الكثير من اضطراب الرؤية المستقبلية والقدرة على التفكر والتبصر، فضلاً عن اضطراب الشارع والميدان وتفاقم الصراعات الفئوية التي تتهدد وحدة واستقرار المجتمعات القائمة في حدودها الراهنة داخل هذا المشرق المتخبط بانقسامات واصطفافات من غير الممكن إغفال أثرهما على الصعيد السياسي والنفسي والسوسيولوجي. لقد اشتدت وطأة التجاذبات السياسية والعقائدية، ومعها التصدعات المزمنة في صلب البنى الوطنية أو القطرية، واحتدم الصراع التقليدي من أجل السلطة حتى بلغ حداً غير معقول من شأنه ضرب وحدة النسيج المجتمعي بظل غياب يلفت انتباه المراقب أو المحلل السياسي للغة المنطق والعقل، أو أقله تراجع لغة الحوار السياسي الوطني والديني والحضاري أمام مظاهر استخدام القوة المسلحة وممارسة العنف وإرهاب الفكر والدولة والتكفير! لم يعد ممكناً الكلام عن إمكانية التهدئة والعودة إلى حلبة المنافسة السياسية السلمية أو الديموقراطية، إن كانت تصلح للتطبيق واقعاً في هذه البلدان أو إن كان ثمة من يفقه فعلاً معنى هذه الديموقراطية.
هذا ما وصلت إليه حال بلدان المنطقة العربية والمشرقية، وخاصة الشعوب العربية المسلمة منها، بحيث فقدت عملياً القدرة على استعادة أمان واستقرار نظمها ومجتمعاتها من غياهب التصادم والتقاتل واستنزاف الطاقات والقدرات بل إهدار ما قد تبقى من كل ذلك، ودخلت معظم هذه البلدان في نفق طويل مظلم قد يكون من غير الممكن أو المستحيل حتى أن تخرج منه على المدى المنظور مع استمرار مظاهر وأشكال العنف وانعدام الثقة والشرعية، وكذلك ربما حق الوجود أو البقاء! هكذا يبدو من غير المعقول أو المقبول التحدث عن إمكانية أو احتمال النصر بمعنى الصمود الميداني أو الزمني على الرغم من أكلاف كل تلك المعارك والعمليات العسكرية بشرياً ومادياً وحضارياُ، والتي من شأنها جميعها تفتيت النظم المتداعية وأنساق الدول المصطنعة أصلاً وتدمير مجمل ملامح تاريخ وحضارة وثقافة شعوب المنطقة بطريقة متقنة وممنهجة دون وجود أي بديل سياسي قابل للتنفيذ على أنقاض ما تم هدمه، وإنما على قاعدة الرهان والعبث بمصائر الناس والمجتمعات والمخاطرة بمكتسبات المرحلة السابقة، إن كان هناك ثمة ما يمكن تسجيله بهذا الصدد سوى المقاومة وحدها ضد إسرائيل.
تواجه نفس هذه البلدان المتخبطة حالة عامة من الغليان والغضب والفوضى بفعل اتساع رقعة انتشار ما يُصطلح على تسميته إسلاماً سياسياً معاصراً، ذلك أن صعود الحركات الإسلامية الراديكالية خلال العقود الماضية ونزولها إلى الشارع ودخولها معترك القتال في ميادين الجهاد يدلل على فشل حكومات أنظمة ما قبل الثورات العربية في اجتثاث هذا الفكر السياسي العقائدي واقتلاعه من داخل المجتمعات التي كانت تحكمها. وما انغماس هذه المجموعات أو التنظيمات الشعبوية أو المسلحة في كافة أعمال العنف والقتل والتدمير سوى شكل من أشكال المواجهة المحتدمة والمعارضة غير السلمية والشعور بالغبن وعدم استحسان بل رفض بقاء أنظمة المنطقة الوضعية التي تفتقد للشرعية والميثاقية.
هذا الرفض المطلق والعارم للتسوية السياسية أو المرحلية أو الموضوعية من قبل أصوليات إسلامية عديدة هو تعبير عن انقطاع هذه المجموعات عن أحكام التاريخ وحتمياته وعدم قبولها بأي شكل من أشكال التفاهم أو التعامل مع بقية أطراف الصراع بنية المضي حتى النهاية في مشروع الثورة التي تأكل نفسها بنفسها! قد يعود نشوء بعض هذه التيارات السياسية والدينية، من مثل العقيدة السلفية والوهابية وجماعة الإخوان المسلمين، إلى بدايات القرن الماضي، ولكن انتشارها على نطاق واسع وانكسار حواجز الخوف والقلق والخشية من المواجهة والخروج إلى العلن والمجاهرة بما تريد حتى آخر رمق هي جديد هذه الحقبة الدامية التي أعقبت اندثار أو أقله تراجع المفاهيم أو الحركات القومية العربية واليسارية والتقدمية.
قد يكون من غير الممكن أن نخوض هنا بأسباب إخفاق الطروحات السابقة التي دعت للوحدة القومية العربية، وعلى رأسها الناصرية والبعثية، أو السورية أو أممية الصراع بخلفيته الماركسية أو الشيوعية أو اليسارية عموماً، ولكن من الواضح أن ظاهرة الصعود اللافت والدراماتيكي للفرق أو المجموعات التي تدعي تجسيد إسلام سياسي معاصر بطريقة معينة قد سرع من عملية تحطيم ودفن أيديولوجيات العروبة واليسار والوحدة والنضال الثوري والشعبي، وإن لم تكن السبب الرئيسي المباشر لتقاعس ذلك النمط من السلوك السياسي والبرنامج الوطني والقومي والخطاب التعبوي.
تتمسك هذه الحركات الراديكالية بالعودة إلى ما تعتبره السلف الصالح، أقله من الناحية النظرية، ولكنها بالمقابل تخوض معركة الوصول للسلطة داخل أقطار عديدة من المنطقة بعد سقوط أنظمة استبدادية وقمعية أخفقت في انتزاع شرعية ما من شعوبها، وفشلت كذلك في فرض إمرتها على أرض الواقع. بيد أن هذه التيارات السياسية الدينية، سواء كانت راديكالية أو أصولية، تعكس حالة ثقافية واجتماعية رجعية، وهي لذلك تبدو غير قادرة على قيادة المجتمع الذي تنشط فيه وتدعي تمثيله، وغير مؤهلة لذلك أيضاً. اللافت في كل ذلك أن التيارات السياسية والأيديولوجية التي تظهر وتبدو فاعلة على الساحة العربية والمشرقية لا تعبر عن نموذج عصري ما في التحديث السياسي والتنمية الاقتصادية بقدر ما تجسد ردة فعل أو نوعاً من التعنت والتصلب في الموقف والسلوك، فضلاً عن ارتباطات البعض منها بأجهزة استخبارات أجنبية ودولية وغياب الرؤية الفكرية المنهجية للإصلاح والتجديد في الحياة السياسية والدستورية.
وأخطر ما يكون هو عدم القدرة الموضوعية على استيعاب وتعبئة الشارع العربي والشعب العربي بكافة أطيافهما ومكوناتهما، ذلك أن مثال هذه التيارات أو المجموعات لا يحمل ولا يمثل حتى أي مشروع وحدة أو اتحاد سياسي أو إسلامي جامع، بل إنها تنطلق من خلفية فئوية جلية. وتحاول أحياناً فرض معتقداتها وتفضيلاتها على باقي شرائح النسيج الوطني أو المجتمعي، ولا تقبل بما يقوله غيرها أو يعتقد به.
هذا الشكل أو النموذج الفئوي من الحراك السياسي والاجتماعي لا يمكنه أن يطلق أو أن يدعم مشروعاً ما للوحدة الوطنية أو الإسلامية، بل إنه على العكس يساهم ببث أفكار ومفاهيم ومقولات فئوية، وبالتالي في إشاعة أجواء من النفور والكراهية وعدم إمكانية التوفيق والتفاهم. الأمر الذي يفسر إلى حد كبير تفشي هذه النزعات الفئوية الرجعية على اختلاف مشاربها وتجلياتها، بحيث نلاحظ مؤخراً ظاهرة العودة الراهنة غير المبررة إلى العصبيات القبلية والطائفية والمذهبية التي تعيد إحياء النقاش في شرعية مختلف الكيانات السياسية القائمة، والذي يتداخل كثيراً مع التطلعات القومية والعرقية المشروعة، ولكنه في الغالب يفضي إلى تفتيت أقطار ودول المنطقة لكيانات أكثر صغراً وأشد تنافراً مع ما يعنيه ذلك من تغيرات دراماتيكية في خارطة المنطقة السياسية.
يبدو واضحاً مما تقدم أن بلدان المنطقة العربية على حافة الهاوية أو انفراط عقد المشرق بأكمله أمام تفاقم المشكلات المزمنة واستفحال نزعة التصعيد والمواجهة في الشارع، ذلك أن شعوب المنطقة لا تعي حقاً معنى الديموقراطية الفعلية والضوابط التي ينبغي أن تحكم العملية السياسية لتأمين استمرار عجلة الـحكم والتداول السلمي للسلطة. بناء عليه، قد يكون فعلاً من المفيد جداً التنبيه للمخاطر التي تتهدد المنطقة برمتها، ذلك أن غالبية اللاعبين يجهلون قواعد اللعبة وشروطها وأحكامها، والمقصود بذلك عملية التغيير الديموقراطي. فبعدما اجتازت الدول الغربية، بل معظم دول العالم، خطوات على طريق التحول أو التطور الديموقراطي في زمن حداثة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، لتنتقل بعدها لزمن ما بعد الـحداثة في النصف الثاني من القرن العشرين، نجد الدول العربية بالمقابل تذهب في اتجاه معاكس للتيار، وتمعن في التفريط بصيانة العقد الوطني، لتستحضر مجدداً تلك المفاهيم والنظم والمحددات التي كانت تيارات حداثة القرون الماضية قد تخطتها تدريجياً.
في عصر العولمة، تشهد البلدان العربية والمشرقية موجات مستجدة من التمايز الفئوي الذي يطفو على سطح الماء، وهي ربما تكون شديدة الخطورة، في إشارة إلى الحزبيات الرجعية للطوائف والمذاهب والقوميات العرقية، فبدل أن تمضي للأمام على طريق التغيير السلمي المدني، نجدها تتراجع للخلف تحت وطأة التحجر والتجذر في المواقف الراديكالية والتعريفات الغابرة للوعي السياسي المجتمعي، لتعيد هذه المنطقة العريقة تجسيد نماذج تاريخية من الماضي عوضاً عن انخراط الشعوب والبلدان في ركب ما بعد الـحداثة والعولمة!..