شدّ "رضا" على عضدي "موسى" وبكى: لماذا تصعب عليّ الموقف، أتظن أيضًا اني تاركك للعبور قبلي، وكيف لي أن أفكك لغمًا وعيني وقلبي وجميع حواسي ترافقك خوفًا عليك.."
أخر الطريق/ قصة نسرين إدريس/ مجموعة قلم رصاص من موسوعة "نصر"/ أدب المقاومة
ها قد انتهت الطريق، العدو من ورائهما وحقل من الألغام يمتد أمامها، ومجموعة بكمالها تنتظرهما قد تتعرض لهجوم يقضي عليها، إذا لم يستطيعا التعامل مع الموقف بحكمة.. بقيا وحدهيما بعد استشهاد قائدهما بصاروخٍ نجيا منه باعجوبة، ولكنه أفقدهما كل وسائل الاتصال مع رفاقهم.. والآن، يقفان وقد بدأت امواج الليل تتكسر عند بريق الضوء الأول للفجر الكاذب، ثيابهما العسكرية شبه ممزقة، والتعبُّ حط رحاله على كاهلهما، حتى كأن لهاثهما يصعد إلى السماء..
كل واحد منهما ينظر إلى الآخر، " رضا" و "موسى" ، شابان في مقتبل العمر، كان من المفترض أن يصلا إلى نقطة معينة لهما في الداخل المحتل، لكن تحليق طائرات الاستكشاف، وطلعات الطيران الحربي التي ألقت بقذائف أدت إلى استشهاد مسؤول المجموعة (مُرشد الطريق)، وأيضًا إلى تحريف وجهة سيرهما بسبب غزارة الصواريخ..
كانت ليلةً قاسية، غاب فيها ضوء القمر، وانتشر ضبابٌ كثيف على اكتاف الأودية والجبال.. جلسا ليرتاحا قليلاً فهما منذ ثلاثة أيام لم يتدثرا براحة ولو قليلة..
البردُ قارس، وصمتٌ رهيب نشر جنحيه على وجهيهما المموهين بالتراب والدماء..الآن عليهما تفكيك بعض الألغام ليصلا ألى أقرب نقطة تعود بهما الطريق الصحيح، ولكن على احدهما ان يمشي في حقل الألغام قبل الآخر.. هما يعرفان بعضهما منذ قرابة الخمس سنين ضمن مجموعة من خمسة أفراد عرفت بتمازجٍ روحي غريب، استشهد منها ثلاثة، وبقيا هما.. وها إنهما وصلا سويًا إلى آخر الطريق..
نظر "رضا" إلى "موسى" وقد علّت محياه بسمة متعبة قائلاً له باسلوب حازم: " الآن وقد استشهد قائد المجموعة علينا أن نؤمر أحدنا لنعبر هذا الحقل، وبما اني الأكبر سنًا فاستولى انا القيادة، وبما اني القائد فسأمشي في الحقل قبلك..".
انتفض موسى من مكانه ولمعت في عينيه شرارات الاستنكار :" لا، بل انا من سيمشي في الحقل قبلك.."هدّأ " رضا" من روعه : "اسمع يا صديقي، أنا من ساعدك ودربك في عمل التخريب، هذا يعني ان خبرتي تفوق خبرتك.."
نكس " موسى" نظراته إلى الأرض وقد انهمرت دمعة قطعت نبراته الشجية:" لو كنتُ اكيدًا أنك تود المشي قبلي لأجل ذلك ما اوقفتك يا رفيق دربي، ولكني ادرك انك تؤثرني على نفسك، ويصعبُ علي الموافقة، فأنت البعضُ الجميل من كُلي الذي ما دونه فتات.. إني لأعرفك أكثر مما تعرفك أمك، لقد قضينا أيامًا طويلة معًا كانت كفيلة ان نحفظ عدد انفاس بعضنا.. اتذكر، كنا مجموعة من خمسة، استشهد ثلاثة منا وبقينا نحن.. أنتَ وأنا كلانا يخشى أن يستشهد رفيقه قبله.. إني لأدرك عمق الحزن الذي يحيا بداخلك منذ استشهادهم.. أنا أيضًا تعبتُ من الغربة، والآن تريد أن ترحل دوني أنتَ أيضًا ؟! كيف سأسمح لك أن تمشي لتفكك الألغام كي اعبر بسلام.. ويل نفسي ان قبلتْ.. شُلّت قدماي وعميت عيناي وزهقت روحي ان أنا تركتك..
شدّ "رضا" على عضدي "موسى" وبكى: لماذا تصعب عليّ الموقف، أتظن أيضًا اني تاركك للعبور قبلي، وكيف لي أن أفكك لغمًا وعيني وقلبي وجميع حواسي ترافقك خوفًا عليك.."
موسى: " اسمع، لقد انطلقنا معنا، وسرنا تلك الطريق الطويلة كلها معًا.. كلانا يتمنى الشهادة للآخر، فهي منية الروح التي تحاكي النجوى، والآن اذ تأخرنا سيكون رفاقنا بخطر، فالعدو قد يداهمهم في اية لحظة... اني لأقبل لك القيادة بيننا، ولكني أرجو منك ان تسمح لي أن امشي قبلك.."
شدّ "رضا" احزمة جعبته: " لا .. ولكني سأقسم الحقل نصفين، فنسير متوازيين، فمن استشهد منا فقد نالت روحه ما تمنت، ومن لم يستشهد فعليه مواصلة الطريق.."
ورمق الحقل الذي بدأ يتلون بلون الفجر، وطلب إلي صديقه ان يتوضأ ليصليا معًا صلاة الصبح.. وقفا متساويين؛ كبرا.. ركعا.. سجدا..وحان الوقت، نظرا الى بعضهما، وأوصى كل واحدٍ منه رفيقه، وافترقا قليلاً ثم بدأا بتفكيك العبوات الأولـى، كانا يسيران بخطٍ متوازٍ ولم يخطو أحدهما خطوة قبل يخطو رفيقه.. عبرات نصف الحقل، وأيديهما التي تتقن عملها ترافقها شفاه تلهجُ في كل حين بذكرٍ تعودت عليه..
رمقا نهاية الطريق، خطوتان ويعبران إلى برّ الأمان.. انها لمسات أخيرة انتهت وهما يناديان لبعضهما بعد أن دوى صوت انفجار قوي لصاروخ القته طائرة حربية.. لكن أحدًا لم يرد النداء.. فقط حبات المطر المنهمرة بغزارة كسرت السكون الذي غطى جسديهما المنغرس بين التراب المبلل والدمـاء..
لقد عبر " موسى" و"رضا" حقل الألغام، وأمنّا طريقًا سالمة لرفاقهما الذين عندما عبروا وجدوا جثتيهما شبهُ متناثرة الاشلاء، غير أن يدي "رضا" ممسكة بيد "موسى" ولقد لونتا بالنجيع.. لا شيء يفرقهما حـتـى الموت..