استعادت «صوت الشعب» في ثلاثة وثلاثين يوماً شيئاً من بريق «أيّام العز» رغم طغيان «المرئي» على وسائل الإعلام، كانت فيها الإذاعة كالعادة صوتاً للناس البسطاء وعنوانا «أثيرياً» واضحاً لخط وطني مقاوِم
فراس خليفة / جريدة السفير
لا زلتُ أذكر جيداً تلك الليلة في بدايات حرب تمّوز. كانت القذائف تنهمر على الضاحية الجنوبية لبيروت، حين قال لي نصري الصايغ عبر الهاتف: «انتظِر أياماً قليلة فقط، وستنقلب الصورة كليّاً لصالحنا. أنا أثق برجل اسمه حسن نصرالله».
كنتُ في بدايات عملي الإذاعي في «صوت الشعب»، يوم أعلنت المقاومة عن أسر جنديين إسرائيليين، فوجدتُ نفسي فجأة في قلب المعركة. «عليّ أن أحضّر نفسي لمعركة طويلة وصعبة على كافة المستويات»، قلتُ لنفسي في تلك اللحظة.
منذ اليوم الأول للعدوان وحتى عودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم، خاضت «صوت الشعب» المواجهة على طريقتها. الإذاعة التي كانت تغطّي في ما مضى، جزءاً كبيراً من الساحل الشرقي للمتوسط بين اللاذقية شمالاً وعكّا (وما بعد عكا) جنوباً، تعرّضت خلال الحرب للتشويش أكثر من مرة، ووصل صوتها إلى مسامع كثير من الذين هجّرتهم الحرب، أو من أولئك الذين بقوا في بلداتهم تحت نيران القصف الإسرائيلي. قالت لي والدتي ذات يوم تمّوزي: «أسمعكَ دائماً وأتأكدُ أنك بخير».
في الذكرى السابعة لحرب تموز 2006، أحفظ من دفاتر الإذاعة صوَراً ستبقى في الذاكرة طويلاً: «تحفّظات» بعض الزملاء في الإذاعة على جدوى عملية الأسر نفسها، والتي عادت وسقطت في اليوم التالي عندما تبيّن لهم أن إسرائيل ماضية في تنفيذ عدوانها حتى «سحق» المقاومة.
الأيام الأولى للحرب، لم أذق فيها طعم النوم. حكايات مأساوية للهاربين من جحيم الموت. دخل إلى الإذاعة في إحدى المرات شاب من بلدة صريفا الجنوبية، وثيابه ممزّقة وملطَّخة بالوحل والدم. قال إنَّه مشى سيراً على الأقدام في الحقول والبساتين لمسافة عشرات الكيلومترات تاركاً وراءه مباني سكنية مدمّرة على قاطنيها.
ليالي الرعب المتواصلة في ما كان يعرف سابقاً بـ«المربع الأمني» في الضاحية. الأنباء المتتالية عن مجازر إسرائيلية كان أشدّها وقعاً في داخلي، ذلك الخبر العاجل الذي أذعته، عن تعرّض قريتي الخرايب إلى القصف، واستشهاد عدد من المواطنين، وبينهم أشخاص أعرفهم.
نداءات الاستغاثة عبر الأثير من مواطنين نازحين أو مُحاصَرين. مراسلو الإذاعة الذين بذلوا مجهوداً غير عادي على مدار الساعة. الزميلات والزملاء في الإذاعة (الجنود المجهولون) الذين حوّلوا الطابق الثاني تحت الأرض إلى «غرفة عمليات» حقيقية، ومقراً دائماً لإقامتهم طيلة فترة الحرب. إطلالات «قائد المقاومة» العديدة والتي كان لها أثر نفسي جيد. ورشة إعادة «نبش» الأرشيف الذهبي للإذاعة، من أغانٍ وطنيّة وثورية وتسجيلات قديمة وجديدة من وحي الحدث، وغيرها صور أخرى كثيرة.
في هذه الحرب خضتُ لأول مرة تجربة إذاعية فعلية، وعرفتُ يومها رضوان حمزة وفاتن حموي والبقيّة.
استعادت «صوت الشعب» في ثلاثة وثلاثين يوماً شيئاً من بريق «أيّام العز» رغم طغيان «المرئي» على وسائل الإعلام، كانت فيها الإذاعة كالعادة صوتاً للناس البسطاء وعنوانا «أثيرياً» واضحاً لخط وطني مقاوِم وُلدت من رحمه وكانت الناطقة باسمه طيلة 26 عاماً ولم تزل.