ذات يوم جاء من يبلغ قيادة حزب الله رسالة غريبة: إذا أردتم الثأر لاغتيال عماد مغنية من إسرائيل، فلنتفق على ضبط حدود ثأركم. أو فلنقل إنه يمكن إخراج الموضوع بالحدّ الأدنى من الضجة لكم ولها
جان عزيز
ذات يوم جاء من يبلغ قيادة حزب الله رسالة غريبة: إذا أردتم الثأر لاغتيال عماد مغنية من إسرائيل، فلنتفق على ضبط حدود ثأركم. أو فلنقل إنه يمكن إخراج الموضوع بالحدّ الأدنى من الضجة لكم ولها. مصدر الرسالة كان ديبلوماسياً، وتصنيفه على قياس التقويم الأمني موثوق ومؤكد. وهو ما تعزز بتفاصيل الرسالة المنقولة. فهي حملت تلميحات من نوع أن هناك ممثليات دبلوماسية للكيان الصهيوني شبه معزولة، متواضعة العديد البشري، ضعيفة الإجراءات الأمنية، وبعيدة عن الاهتمام الغربي وحتى الإسرائيلي. كما هي حال بعض تلك الممثليات في بعض الدول الآسيوية البعيدة. ثم إنها في أوقات معينة من الأسبوع تكاد تكون غير مأهولة. ثم انتقلت الرسالة من التلميح إلى الإيحاء المباشر: إذا ما تعرضت إحدى هذه الممثليات لانفجار عبوة أو ما شابه، وهي خالية، فالأرجح أن المسألة تمرّ عندها من دون ردّ فعل غربي كبير، ولا حتى إسرائيلي عنيف. ويمكن أن يقال إن العملية جاءت ثأراً للحاج رضوان، ويقفل الموضوع...
فهمت قيادة حزب الله حقيقة الرسالة. المطلوب هو إراحة إسرائيل من عبء استنفارها الأمني والمخابراتي الشامل والدائم، منذ 12 شباط 2008، تاريخ اغتيال مغنية. كأن دوائرها المختصة أجرت تقويماً، بين كلفة هذا الاستنفار المستمر والمتمادي في الزمن حتى أجل غير محدود، وبين كلفة تعرض ممثلية إسرائيلية صغيرة لاعتداء محدود. فلم تتردد في تفضيل الكلفة الثانية، فكانت الرسالة، بتوقيع إسرائيلي وغربي رسمي، للانتهاء من القضية. لكن فهم الرسالة شيء، والجواب عليها كان شيئاً آخر: لا قبول لها لا شكلاً ولا مضموناً. فدماء عماد مغنية ليست موضوع مساومة، والمقاومة ليست مكتب تسويات. أمران اثنان ساهمت تلك الرسالة في تأكيدهما للوسطاء الذين نقلوها من غربيين وأوروبيين: أولاً، أن حزب الله لا يتعامل بمنطق الإرهاب، وبالتالي لا يستهدف مدنيين. وثانياً، أنه لا يتخلى عن مبدأ التناسب في عمله المقاوم، فلا يردّ على رصاصة بحرب شاملة، ولا يقبل أن يردّ على حرب شاملة برصاصة.
مغزى تلك الواقعة كان ماثلاً في أذهان المعنيين من الأوروبيين بقرار تصنيف «الجناح العسكري» من حزب الله إرهابياً، طوال الأيام التي سبقت اتخاذه. كانوا يعرفون أن «الملف البلغاري» ضعيف ومليء بالثغر وعلامات الاستفهام. وكانوا يدركون أن الاتهام القبرصي من النوع الاستعراضي. وكانوا متيقنين أن صراع هذا التنظيم مع إسرائيل أكبر بكثير من المزعمين المنفوخين في مضبطة الاتهام الأوروبي ضده. لذلك، وحتى ساعات قليلة سبقت صدور القرار، ظلت الرسائل الديبلوماسية الأوروبية تصل إلى حزب الله، عبر وزارة الخارجية اللبنانية وعبر عدد من المسؤولين اللبنانيين الرسميين، وحتى مباشرة، للقول بصيغ مختلفة: لن نرضخ للضغوط، لن نصنّفكم إرهابيين. إلى أن طرأ أمر العمليات الأميركي الخليجي، فتبدلت اللهجة. لكنها صارت أكثر صراحة وشفافية. في لحظة ما، نُقلت رسالة مماثلة في الشكل لرسالة الثأر لمغنية. قيل لحزب الله: جوهر الموضوع الآن هو دوركم في سوريا. الأميركيون تلقفوا اللحظة لاحقاً لاستثمارها. والإسرائيليون جاءتهم مجاناً ومن دون أي كلفة. لكن أساس الضغط خليجي. ولذلك نعتبر أن جوهر دوافعه سوريا. وبالصراحة نفسها حاولت الرسالة أن تجتهد أكثر: أعطونا أي شيء ممكن على الساحة السورية، لنتمكن من مساعدتكم. أعلنوا انسحابكم من النزاع السوري، أو عن نوع من فك اشتباك هناك، أو حتى عن تجميد عمليات أو اكتفاء بنطاق ما أو إنهاء المهمة عند حد ما... أي شيء يجعل موقعنا أفضل في مقاومة الضغط... لم تقبل الرسالة مرة أخرى، لا شكلاً ولا مضموناً، وخصوصاً أنها بدت أقرب إلى الفخ والاستدراج لتأكيد الاتهام، ولزجّ حزب الله في نفق الحصار المتزايد، وفرض التنازلات المتلاحقة.
لكن الأهم أن أحداً لم يتوقع أن تسدد أوروبا هذه الضربة إلى نفسها. فمنذ مدة طويلة، ثمة حوار جدي وعميق بينها وبين حزب الله، وعلى أعلى المستويات. وسمع الأوروبيون كلاماً صريحاً في الضاحية الجنوبية من بيروت، يبدي ترحيبه بدور أوروبي أكبر في المنطقة وفي لبنان. وفي الآونة الأخيرة، راح هذا الكلام يتلمس قراءة التطورات اللبنانية المقبلة في غضون أشهر قليلة. فالأزمة السورية طويلة، والفراغ اللبناني مرشح للتمادي والتفشي. فبعد العجز عن إجراء الانتخابات النيابية، يبدو أن حكومة ميقاتي المستقيلة ستستمر في «تصريفها» سنوات. وبعد الفشلين بدأ الانطباع يتكون لدى الجميع، بأن الاستحقاق الرئاسي بدأ يلامس المستحيل، وأن الفراغ الكامل آتٍ في ربيع 2014. عندها سيكون لبنان أمام احتمال من اثنين: إما انزلاقه إلى الفوضى الشاملة فوراً أو تدريجاً، وإما توافر وسيط نزيه ما، جغرافياً ومعنوياً، يجمع اللبنانيين، في لحظة شبيهة بطائف 1989 أو دوحة 2008. وسيط كهذا سيكون في ربيع 2014 أو بعده، ضرورة لبنانية قصوى، بعد تحول كل الأمكنة الإقليمية والمجاورة، طرفاً في صراعنا. وحدها أوروبا كانت قادرة على أداء هذا الدور. فهل لأنها كذلك، فُرض عليها ربما، أن تقضي على دورها؟
قبل أيام، أطلق الاتحاد الأوروبي «رصاصة» سياسية من مسدس سواه، بين قدمي حزب الله للتهويل. الرصاصة نفسها يبدو أنها أصابت أوروبا في ساقيها السياسيتين. وقد تمنعها من السير عندنا لفترة ملحوظة. لكن يخشى، ما لم يتم التراجع عن تلك الطلقة، أن تصيب لبنان بعد أشهر عدة، في مكان قريب من القلب...
موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه