عندما رأيناها للمرة الأولى، وصدّقنا الإصرار على مادةٍ إعلامية أكثر تحيّزاً للمواطن مهما كان هواه السياسي، وتماهينا مع المستوى المرتفع من المهنية في صناعة الخبر والبرنامج كنا حينها ننازع إحباطنا
سحر مندور / جريدة السفير
«الجزيرة» ليست استثناء في امتهان البروباغندا، ولا نحن المتفرّجين نأتي بثقافتنا الإعلامية من فنلندا. ومع ذلك، نحن نعيب على «الجزيرة» أداءها القائم ببساطة على البروباغندا مع فريق وضدّ فريق في كل بلد عربي، بكلّ ما أوتي الصوت والصورة من قوى وحِيَل. وليس فعلنا هذا بخروجٍ مستقطع من مشهدٍ إعلامي نتعايش معه، وإنما هو نتيجة الإحباط المباشر منه.
«الجزيرة»، يوم تأسست في العام 1996، اقترحت لغة جديدة للإعلام العربي. حينها، كانت الشاشة العربية إمّا رسميةً يحكمها نظام الديكتاتور العسكري، أو خاصةً يحكمها أصحاب المال بارتباطاتهم السياسية ضمن خريطة الديكتاتوريات. وحينها، لم تكن لقطر ملامح سياسيّة أبعد من إنها تحوي مكتباً للتعاون التجاري مع إسرائيل. هذا هو الخبر شبه الوحيد سياسياً الذي كانت تتناقله الألسن عند ذكر قطر، الدولة المؤسسة للقناة، في زمن التأسيس... وحتى هذا الخبر، لم يكن له صدى أكبر من حجم الإمارة التي لم نكن نشعر لها في المشرق العربي وشمال أفريقيا لا بصداقات ولا بعداوات.
لذلك، يوم اقترحت علينا «الجزيرة» أداءً عصرياً للإعلام العربي، يوم اقترحت صورةً وخبراً عابرين للحدود والرقابات الرسمية، يوم اقترحت قراءة أبعد من أنف الحاكم للمنطقة تشمل يوميات الشعوب ومشاكل الحياة هنا، اقتربنا من «الجزيرة» وبدونا وكأنّنا نقترب من صورةٍ نشتهيها لأنفسنا. بنينا الآمال، ورأينا طيف الغد يطلّ برأسه لنا، نحن المنسيين في أمس البلاد.
ولكن... منذ عرفنا لقطر دوراً سياسياً، أظهرت «الجزيرة» التماهي معه، والترويج له. يوم قرّر الحاكم أن «يطلّ»، عادت لتكون الأداة الإعلامية المثالية للحاكم، أكان أميراً أو ملكاً أو ديكتاتوراً عسكرياً، أباً أم إبناً. من جهة، بدت وكأنها لم تخرج يوماً عن قناعة من حظيرة إعلامنا العربي، وإنّما كانت تنتظر إشارة الحاكم لتفعّل أداءها فيه. لكنها، من الجهة الأخرى، لم تلتحق بصفوف الإعلام العربي الرسمي، وإنما انتقلت بـ«الخطاب الرسمي» إلى مستوى آخر من التأثير والسطوة، أخرجته من الكهوف المغبرة حيث غطّت وسائل الإعلام الرسميّة خلال العقدين الأخيرين، لتثبّته من جديد أساساً للصورة، بأعمدة أكثر معاصرة وعصبية وثقلاً.
فلا تقيم البث على صور الأمير يستقبل ويودع، يحيي ويُحيّا، يفكر ويتأمل، وإنما تجرّد الشخص من حدود جسمه لتبجّله كعقيدة، كتحالف، كأجندة. وجه الأمير ليس شعار المحطة، لكن رغبته هي كل ما فيها. نعرف ذلك، نراه ماثلاً على الشاشة فوق وجه المذيع والمذيعة.
نعيب على «الجزيرة» أداءها، لا لكوننا خبراء أجانب وافدين من فنلندا، ولا لكوننا مؤيدين لهذا الذي تعارضه أو معارضين لذاك الذي تؤديه. فنحن، عندما رأيناها للمرة الأولى، وصدّقنا الإصرار على مادةٍ إعلامية أكثر تحيّزاً للمواطن مهما كان هواه السياسي، وتماهينا مع المستوى المرتفع من المهنية في صناعة الصورة والخبر والبرنامج، كنا حينها ننازع في إحباطنا، ونبحث منه عن أملٍ نستخدمه كخطوة أولى على درب عودتنا إلى الكوكب من المنفى الذي أطبقه علينا حكّام عصرٍ باشر بالانتهاء. كنا حينها نبدأ بحياكة أمل ثوراتنا، ولم نكن نراه.
لذلك، عندما نراها اليوم قناةً إلى جانب بعض الشعب وبعض الحكام ضدّ بعض الشعب وبعض الحكام، كحال شبيهاتها والمولودات على إثرها، ننتقدها بحدّة. فهي التي وعدت، ولم تفِ. وهي التي خدعتنا، بعدما كنا قد تحصّنا ضد الإعلام الرسمي. وهي التي تخسرنا اليوم، ونحن نتوزع أمامها، حولها، وبعيداً عنها، نبحث عن أخبارنا من أكثر من مصدرٍ كما يفعل المحترفون، ونستمع لما يناسبنا سماعه، أكانت هي أو كان أشباهها من المحطات العربية التي لم تنجح بعد في بناء مصداقية خارج شبح الإعلام الرسمي.